د. كمال القصير - مفكّر مغربي
أتيحت لي فرصة زيارة تونس عامين متتاليين، مباشرة بعد ثورة أطلق عليها الكثيرون في المنطقة اسم الياسمين، فقد كانت فاتحة الأحداث اللاحقة. وكان من حق الناس أن يفرحوا بإمكانية حدوث تغيير في منطقة مستعصية على التغييرات. وكان من الصعوبة في تلك اللحظات أن يقول الإنسان ما يخالف عواطف الناس، لكنه يوافق العقل.
وليسمح لي الكثيرون أيضا، فإنني في ذلك الحين لم أكن أشم رائحة الياسمين، أثناء ملاحظتي للتحولات السياسية والاجتماعية التي شاهدتها في الواقع، والتي بحثت فيها لاحقا كواحد من المثقفين العرب. وكنت حريصا على مزيد من فهم الواقع التونسي بشكل خاص من بعض أصدقائي التونسيين، ممن كانوا قريبين من دوائر القرار لاحقا كمستشارين رئاسيين أو وزراء. إن الأمر هنا لا يتعلق بحكم قلبي وشعوري من تلك الثورة، وقد كان من الصعب الحديث في خضم تلك الأحداث قبل عقد من الزمن عن رؤية عقلانية، وسط جو مفعم ومليء بالمشاعر الإيجابية والطموحات. إن المشكلة ليست في حركة النهضة أو في أي فصيل سياسي سوف يأتي مستقبلا، مهما كانت درجة إيمانه بالتوافق، المشكلة في سلوك الدولة نفسها.
والحقيقة أنه لم يكن الناس العاديون فقط من يرون ذلك الاستثناء التونسي، بل إن الكثير من المثقفين في المنطقة إلى وقت قريب ظلوا متمسكين أن تونس تمثل النموذج الوحيد الذي بقي صامدا في وجه العاصفة، التي ضربت المنطقة وأطاحت بالأحلام والتوقعات.
والواقع أن هناك نموذجا مغربيا استطاع أن يقدم تجربة مهمة لمقاربة الاحتواء في منطقة تعج بالاضطرابات، كما سأشرح لاحقا. وأنا هنا لست في معرض المفاضلة بين دولتين، لكنني أريد توجيه أنظار النخب والناس إلى تحليل سلوك النموذج المغربي، الذي أعتبره مختلفا عن باقي أنماط السلوك في المنطقة.
أبعد من التحليل السياسي
دعونا نغوص أبعد من التحليل السياسي للأحداث، للنظر في جذور السلوك السياسي لتونس ما بعد الاستعمار، وطريقة تعاملها مع المكونات السياسية، بين دينامية الاحتواء ونزعة الاستئصال. إن تونس، ومثلها مصر وسوريا، لم تعرف الدولة فيها تراكما في الخبرة السلطوية في احتواء أطياف السياسة المختلفة، والأزمات التي تنشأ بسبب اختلاف المواقف والرؤى السياسية والاجتماعية والدينية. فما الذي سيجعل دولة كانت تعرف قبيل الثورة أشد أساليب وتقاليد الاستئصال أن تتحول في ليلة وضحاها إلى تقليد مغاير؟
إن أسلوب اشتغال الدول في التاريخ لا يمضي وفق هذا المنطق الفجائي. ولم تتمكن تونس حتى اللحظة من إيجاد تقليد سلطوي راسخ في إدارة دينامية الاحتواء والاستيعاب، لأنها لم تمر بمرحلة عقلنة للسلطة. إن أجهزة الدولة هناك ليست قديمة، وأقصد بهذا أنها قد عرفت قطيعة بين حاضرها وماضيها بفعل الاستعمار.
إن الدول السريعة في اللجوء إلى الاستئصال والإلغاء تشترك جميعها في قلة خبرتها التاريخية في التعامل مع التحولات الاجتماعية والسياسية. حيث ترتفع لديها درجة التوجس والخوف من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والنخب الثقافية، وترفض الجديد الذي لم تتعود عليه، بل تجد صعوبة في الاقتراب منه والتعايش معه.
ومنذ الثورة اضطرت الدولة أن تتعايش مع الضيوف الجدد، وكانت أكثر صبرا من النموذج المصري والسوري، الأكثر سرعة في التخلص من معارضيه. فقد مرت أكثر من عشر سنوات من زواج المكره بين الدولة والقوى الجديدة، انتهت بنفاد الصبر وإعادة الأمور إلى المربع الأول، واللجوء إلى المعادلة العربية الصفرية المشهورة لاستئصال القوى من جهة، واستئصال الأفكار المغذية لها من جذورها من جهة أخرى. كما أن دينامية الاستئصال في تونس سوف تتجاوز مجرد التخلص من القوى المعارضة، لتمتد لاحقا إلى مزيد من تفكيك الرؤية الدينية والثقافية، المنتجة للحركية السياسية والاجتماعية.
استثناء خادع
لقد بدأت ثورة تونس في إقناع المنطقة بكونها استثنائية بسبب الطريقة السهلة والسريعة التي غادر بها رأس النظام للحكم، دون إحداث تكاليف باهظة في الأنفس والثمرات. وأيضا بسبب عدم تدخل الجيش بشكل مباشر وواضح للسيطرة على دفة السياسة، وانشغاله فترة من الزمن بالمواجهة مع المشكلات الأمنية المتصاعدة. لكن هذا الاستثناء كما يمكن ملاحظته ليس أصيلا في سلوك الدولة، فقد كانت تصنف دائما كنموذج طارد ومعاد للقوى السياسية، التي كان جزءا أساسيا منها يعيش خارج تونس.
وفي تطور سياسي واجتماعي سريع عاد جزء فاعل من الإسلاميين من الخارج، وتبوأوا الدار والسلطة. ولم يكن الكثير جزءا من النسيج الثقافي والفعل السياسي اليومي في تونس، على غرار المغاربة والمصريين والموريتانيين وغيرهم. كما أنهم لم يكونوا معنيين بتطور حالة الخطاب الديني والسياسي والإعلامي في تونس. أما وجه التشابه الكبير بين إسلاميي تونس ومصر، فهو أن كلا الفريقين قد اختار دعم الشخصية المناسبة لقيادة عملية الاستئصال وتدمير المسار بأكمله. وبكلمة فإنهم لم يمتلكوا الخبث السياسي الذي يكشف لهم معادن البشر.
إن الاستثنائية ليست مجرد تحولات مؤقتة، بل تتمثل في السلوك البنيوي الذي ينكشف أثناء التعامل مع مختلف الأزمات. والواقع أن تونس لم تُمتحن في أزمات سياسية واجتماعية قبل الثورة، تسمح باكتشاف درجة انفتاح الدولة وقدرتها على استيعاب باقي القوى. وتشير التطورات الأخيرة هناك أن الرؤية الاستئصالية عادت وانتصرت على باقي المقاربات والحلول.
إن النموذج التونسي بمآلاته الحالية ليس مؤلما سياسيا فحسب، لكنه مؤلم للمنطقة من الناحية الشعورية، فقد كان رهان النخب والناس عليه كبيرا. وإذا كانت استثنائية النموذج تقاس بالنتائج التي تظهر في الواقع، فبإمكاننا أن نحكم بعدم استثنائية هذا التجربة، بالنسبة لكيفية تصور التحول الديمقراطي في المنطقة العربية.
لم تغير جرعات الديمقراطية الكبيرة و”الفجائية” التي تم حقنها في جسم الدولة من سلوكها كثيرا. ذلك أن بنية النظام الداخلية وعناصره العميقة التي لم يتم التخلص منها غير معتادة عليها. حيث فسدت العملية، وأنتجت مخرجات لم تستطع الدولة العميقة وبعض القوى في المنطقة أن تتحملها. أما الطبقة السياسية فلم تكن استثنائية لإنتاج نموذج استثنائي.
ولم يكن جزء كبير من المجتمع استثنائيا في سلوكه، ومن حق الجميع أن يقارن بين سلوك الشعوب. فقد دافع الأتراك عن دولتهم قبل سنوات أثناء محاولة الانقلاب العسكري الفاشل بوضع أجسادهم أمام الدبابات، وتناسوا خلافاتهم السياسية والأيديولوجية. لكن التجربة العربية لم تنتج حتى اللحظة سلوكا اجتماعيا مشابها.
النموذج المغربي
في ظل كل ما يحدث في المنطقة العربية هناك حاجة إلى الانتباه بجدية للنموذج المغربي، الذي أعتبره أساسيا، ويمكن البناء عليه. ولا يهم في هذا المقام أن نصفه كونه استثنائيا أم لا، بل الأهم هو بيان حدود الاستفادة منه بالنسبة للفاعلين في المنطقة.
الدولة في المغرب قديمة جدا وتتمتع باستمرارية أجهزتها الإدارية وخبرتها المتراكمة في التعامل مع الأزمات. وقد طورت الدولة العلوية رؤيتها باستمرار لتغليب مقاربة الاحتواء للتيارات والقوى الفاعلة، مبتعدة ما أمكنها عن مقاربة الاستئصال. إن الوثائق التاريخية للمغرب منذ القرن الثامن عشر الذي عرف اشتداد الأزمات وظهور مراكز القوى الجديدة والنزعات الانفصالية والدعوات الأيديولوجية التي كانت تهدد مستقبل الدولة، تشهد بغلبة مقاربة الاحتواء.
لقد كانت مراسلات السلاطين في مرحلة السيبة للقبائل، تكشف مفهوم الأبوة الروحية التي لا تتوانى عن العقاب المحسوب ثم الاحتواء وإعادة التوظيف للقوى. أما الاستئصال والإلغاء فلم يكن سلوكا أصيلا في الدولة. إن جزءا أساسيا من النخبة الحاكمة في المغرب حاليا، كانوا في الستينيات والسبعينيات ينتمون إلى اليسار الجذري الذي كان رافضا للملكية.
لم يعرف المغرب استئصالا لليسار الراديكالي ولا الإسلاميين الشموليين الذي أتيحت للدولة فرص إلغائهم مرات عديدة. وعندما وقعت أحداث عام 2003 الإرهابية كانت أمام الدولة فرصة للتخلص من الإسلاميين، لكنها لم تفعل. وتبين صحة موقف عدم حل حزب العدالة والتنمية في ذلك الحين، حيث أدى دورا مهما في مرحلة ما بعد الثورات العربية.
الدولة في المغرب تضع نفسها حامية للدين، ومسؤولة عن تجديده والنأي به عن التجاذبات. ولم أر في المنطقة سلوكا استباقيا، تتبنى فيه دولة مؤتمرا سنويا تطلق عليه الصحوة الإسلامية، على غرار ما كان يفعل المغرب في زمن الملك الراحل الحسن الثاني. وقد كنت شابا صغيرا أشاهد قيادات الإسلاميين في المنطقة علماء ودعاة، تتقاطر على جامعة الصحوة الإسلامية التي كانت فكرة للملك الحسن الثاني.
لقد استوعبت الدولة اليسار في السابق في السلطة، ثم الإسلاميين ضمن العملية السياسية في الربيع العربي وقامت بتعديلات دستورية، وسوف تستوعب غيرهم مستقبلا. ثم انتهى زمن الإسلاميين بعد أن قضوا عشرة أعوام في السلطة، ومضوا إلى حال سبيلهم، يتيهون في الأرض، ولم يشعر المغرب بأي مشكلة في هذا التحول.
وأكثر من هذا فإن عودة الإسلاميين بشكل جزئي سوف تظل مسألة عادية ضمن سياق مختلف. إن قسما كبيرا من الإسلاميين واليسار قبل الثورات العربية بزمن، كانوا قد أصبحوا من العناصر الفاعلة في أجهزة الدولة ورؤيتها للدين والسياسة. فلننتبه يرحمني ويرحمكم الله.