في هذا الحوار يكشف الكاتب المغربي امحمد جبرون أسباب مغادرته لحزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح، كما يبدي وجهة نظره في عدد من القضايا الشائكة والمثيرة للجدل بين الإسلاميين وغيرهم كزواج المسلمة بغير المسلم، وحرية المعتقد، والإفطار العلني في رمضان، وقضية العقوبات والحدود في الإسلام.
أمضيت 30 سن داخل الحركة الإسلامية قبل أن تغادرها ماذا تمثل لك هذه التجربة؟
- بداية؛ أتقدم بالشكر الجزيل لهذا المنبر الجاد وطاقمه، وأتمنى لكم التوفيق، أما بخصوص سؤالكم. لقد كانت تجربة العمل في صفوف الحركة الإسلامية تجربة مثيرة على المستوى الشخصي وغنية، وقد استفدت منها الكثير، فمن جهة أخرجتني على صعيد التدين من التقليد، والنمطية، وجددنا من خلالها انتماءنا للإسلام كدين شمولي، ومن جهة ثانية أخرجتنا من أنانيتنا وفردانيتنا، ودفعت بنا بقوة نحو الجماعة، والعمل للأمة والوطن مع ما يتطلبه هذا الأمر من اعتناق لجملة من القيم النبيلة، واستعداد للتضحية، ونكران للذات...، فبانتمائنا تركنا الكثير من الأشياء الجميلة والشهوات المشروعة، واشتغلنا بكل ما هو جاد.
ومن ناحية أخرى، غذت تجربة الانتماء ومعاركها الصغيرة والكبيرة أحلامنا الشخصية والجماعية، بحيث أمسينا نتطلع باجتهاد وجهاد إلى بلوغ أعلى المراتب في العلم والعمل، ولعل بعضا مما وصلناه في حياتنا الشخصية كان فيه بعض الأثر لحماس الانتماء، أما على المستوى الجماعي فقد جعلنا العمل في صفوف الحركة الإسلامية نتطلع إلى أمة ناهضة، ووطن حر، مستقل، ومتقدم..
لقد كانت هذه التجربة كمحطة نوعية في حياتي تجربة في مجملها إيجابية، ومفيدة. وأستغل هذه المناسبة لأشكر كل البسطاء الذين احتضنونا، وساهموا في رعايتنا، وبذلوا من مالهم وجهدهم ووقتهم لأجلنا، وفي ظروف صعبة، كانت مفتوحة على كل الاحتمالات.
أعلنت عن استقالتك من حزب العدالة والتنمية، هل للأمر علاقة بتغير على مستوى القناعات الفكرية؟
- لا أظن ذلك؛ إن الاستقالة من الحزب هي عنوان فشلي - كمثقف أنتمي لمدرسة فكرية خاصة - في التعايش مع متطلبات الانتماء الحزبي كما يجسدها الواقع، فأنا لست عضوا في هيئة تقريرية قيادية بالحزب، ولست معنيا بالتدافعات المصلحية داخله، لكنني بالمقابل مثقف منخرط في النقاش السياسي للحزب ولبلدي، ومن هذا الجانب أنا ملزم أخلاقيا وسياسيا بالتصريح بالحقائق كما تتبدى لي، ملزم بالإدلاء بوجهة نظري بخصوص التطورات الدقيقة التي يمر بها الحزب والوطن، وإسداء النصح لمن يهمهم الأمر، وهنا لا بأس من التذكير بطبيعة ودور المثقف في علاقته بالجماعة (التنظيم)، فالمثقف - بالأساس - يستشكل البديهيات والمسلمات السائدة بين الناس ومن باب أولى بين المناضلين، ويغامر– أيضا – بالإجابة على الإشكالات التي تطرحها التجربة، وبالتالي فهو غير معني بالدعاية، والحملات... وهذا الدور يؤدي في كثير من الحالات إلى التعارض مع خط الحزب، واختياراته، وتكتيكاته..، ويؤدي أيضا إلى نوع من عدم الانضباط الحزبي. وبالتأكيد في وسط حزبي هش، يشكو من خصاص في ثقافة التنوع والاستماع، تمسي استشكالات المثقف وإجاباته مزعجة، مقلقة، بل أكثر من هذا يتعامل معها البعض بمنطق "سياسوي" يبحث في أجندتها الخفية، وتمسي في نظر هذا البعض "خرجات المثقف" جزءا من مؤامرة شاملة على الحزب، وضرب محتشم من الخيانة..، الشيء الذي يجعل القيادة في الغالب محرجة إزاء هذا الكائن المشاكس، وغير قادرة على الدفاع عن مكانته وحرمته، ونبل دوره، فهذه - باختصار- هي أزمة المثقف في علاقته بالحزب، والتي تجسد استقالتي بعضا منها.
إن استقالتي من الحزب بالإضافة إلى أنها عنوان فشل تحزب المثقف ببلادنا، فإنها ناقوس إنذار لهذا التيار الذي يعاني من خصاص فظيع في المثقفين، وأن الكثير من مشاكله اليوم هي في الجوهر مشاكل ثقافية، ومشاكل في الرؤية.
وبالإضافة إلى ما سبق هناك سبب آخر يدخل في عداد الأسباب الشخصية، وهو أن بعضا مهما من قيادة العدالة والتنمية تعرفوا علينا ونحن صغارا، مناضلين..، ولم يستوعبوا بالشكل المطلوب نضجنا الفكري والثقافي، ولم يعترفوا بمكانتنا الثقافية محليا وعربيا، وبالتالي لا زالوا يتعاملون معنا كـ«تلاميذ» و«طلبة»، وينظرون إلينا في أحايين كثيرة نظرة أستاذية وأبوية.. وهذا لم يعد مقبولا.
ومن ثم، فاستقالتي، لا علاقة لها بتحول في القناعة الفكرية، فأنا – مثلا - لم أتحول مع هذه الاستقالة من الإسلام إلى الماركسية أو من الإسلامية إلى الليبرالية.. إلخ، بل على العكس لا زال – في نظري - حزب العدالة والتنمية نموذجا، وحاملا مناسبا للفكرة الإصلاحية من منظور إسلامي، وهو يحتاج إلى ترشيد عمله ونظره، وصقل تجربته، وقدر من الإبداع، والاجتهاد.
وماذا عن الاستقالة من الحركة؟
- إن استقالتي من الحركة مختلفة بعض الشيء، فأولا؛ تعكس بعضا من إشكالية علاقة المثقف بالتنظيم، التي أشرنا إلى جانب منها فيما تقدم، ففي كثير من اللحظات كنت مزعجا للحركة من خلال ما أكتبه، أو أصرح به، وظهر ذلك في تضايق بعض القادة في السابق من آرائي. وربما يعكس غيابي عن كثير من الأنشطة العلمية والثقافية التي نظمتها الحركة مركزيا بعضا من هذا، وكانت آخر مرة دخلت فيها المقر المركزي للحركة سنة 2014م أثناء تقديم كتابي «مفهوم الدولة الإسلامية»، وبمبادرة من جهة الشمال، وكان هذا اللقاء ضعيفا من حيث الحضور.
ثانيا؛ أجد نفسي منذ سنوات على مستوى القناعات الإصلاحية غير منسجم مع المذهبية التي سارت فيها حركة التوحيد والإصلاح في السنوات الأخيرة، وأبتعد تدريجيا عن رؤيتها الإصلاحية، فأنا أمسيت أومن إيمانا راسخا أن الحركة الإسلامية المستقبلية التي يحتاجها المغاربة هي حركة مدنية محضة، لا صلة لها بالسياسة بالمعنى الضيق، حركة مستقلة عن كل الأحزاب، وتحتفظ بنفس المسافة اتجاه الفاعلين السياسيين؛ ثم أيضا – وهذا مهم – يجب أن تتجه على مستوى الدور للتناغم والتكامل والتعاون مع مؤسسة إمارة المؤمنين، التي تشاركها الرؤية والأهداف، وذلك بالعمل جنبا إلى جنب مع المجالس العلمية، والشؤون الدينية...، وهو ما لا زالت الحركة بعيدة عنه.
ثالثا؛ شخصيا لم أعد مقتنعا بالطبيعة الشمولية للحركة الإسلامية التي تهتم بالدعوة، والثقافة، والسياسة، والاقتصاد، والنقابة...، فهذا النموذج في العمل الإسلامي أضحى متجاوزا، وينتسب لحقبة انقضت وانتهت؛
رابعا؛ إن الكثير من الغايات التي كرس الإسلاميون جهودهم لتحقيقها لم تعد ذات معنى اليوم بالنظر إلى التطورات الهائلة في حقلي العلوم الإنسانية والدراسات الإسلامية، وفي ضوء تطورات بنية الدولة المغربية، فعلى سبيل المثال تبني مفهوم المواطنة، واعتناق المفهوم التجديدي للشريعة كما أسسته عدد من الدراسات الحديثة، والتي تعيدها إلى أصولها الأخلاقية، وإعادة النظر في موقع الدين في معادلة النهوض، واعتبار التطور البنيوي للدولة المغربية في علاقتها بالدين.. إلخ، كل هذه التحولات لها أثر مباشر على الرؤية الإصلاحية، غير أن الحركة الإسلامية لا زالت تتجاهل معظم هذه التحولات. وقد كتبت منذ سنة 2014م مقالة تأملية عنوانها «الحركة الإسلامية المستقبلية: عناصر في الرؤية والمنهج» - وهي منشورة ويمكن الوصول إليها بسهولة من خلال النت - ضمنتها بعض قناعاتي الجديدة حول طبيعة العمل الإسلامي المستقبلي..
ثم أخيرا؛ إنني عمليا لم أعد مناضلا، ولا داعية، وغير ملتزم تنظيميا، وهو ما يجعلني بالضرورة خارج التنظيم بمقتضى القانون الداخلي للحركة، ومن هذه الناحية استقالتي فيها قدر من الصدق مع الذات والآخر.
ما تقييمك للعمل الإسلامي في المغرب، خاصة بعد قيادة العدالة والتنمية للحكومة منذ 2011؟
- في تقديري؛ إن تقييم انعكاسات وجود العدالة والتنمية في السلطة على العمل الإسلامي يقتضي الإفصاح عن مرجعية هذا التقييم، فإذا كان القصد من تجربة المشاركة هو الدفع بجملة من الكوادر الإسلامية إلى العمل من خلال الدولة ولأجلها، والتقليل من الفساد في القطاعات والمجالات التي تحملوا مسؤوليتها فيمكننا القول أن هذه التجربة نجحت إلى حد كبير في الرفع من منسوب هذا النوع من الكفاءات البشرية داخل الدولة مع ما يعنيه هذا الأمر من حد من بعض مظاهر الفساد؛ أما إذا تعلق الأمر بتحقق الغايات والمطالب الدعوية التي ترفعها الحركة الإسلامية، فأظن ما تحقق متواضع، ولم يستفد العمل الإسلامي كثيرا من وجود حزب العدالة والتنمية بالسلطة، ولعل أكبر استفادة في هذا الباب هي تطبيع الوضع القانوني لحركة التوحيد والإصلاح، التي حصلت على وصلها القانوني، وهذا التواضع في الأثر مفهوم بالنظر إلى حساسية العمل الديني بالمملكة واستقلال مؤسسة إمارة المؤمنين بتدبيره.
وفي نظري – وللأسف - لم يستثمر الإسلاميون المغاربة، وخاصة التيار المشارك، وجوده في السلطة لتجديد نفسه، والقيام بجملة من المراجعات التي من شأنها الإجابة عن الأسئلة التي طرحها موقعه الجديد، وانعكاسات هذا الموقع على الأدبيات الكلاسيكية للحركة الإسلامية المغربية، خاصة فيما يتعلق بمكانة الدين في الحياة العامة، وإمكانات الإصلاح من منطلق سياسي.
إلى أي حد نجح إسلاميو المغرب في الفصل بين الدعوي والسياسي وخاصة في تجربة التوحيد والإصلاح والعدالة والتنمية؟
- هذه المسألة فيها كثير من اللبس، فإذا كان المقصود بالفصل بين الدعوي والسياسي الشق التنظيمي، فقد نجح تيار التوحيد والإصلاح بالمغرب في الفصل بين الحزب والحركة، فكل هيئة مستقلة عن الأخرى في قرارها، وهياكلها..، فلم يحصل أن تدخلت الحركة في شؤون الحزب والعكس، غير أن هذا لا يعني عدم التواصل وتبادل الرسائل..؛
أما إذا غيرنا زاوية النظر، وتأملنا العلاقة بين الجانبين من الناحية الاستراتيجية، والموارد، والإمكانات البشرية، ومن ناحية الرؤية والثقافة.. تبدو لنا حقائق أخرى، فهناك تداخل واتصال وثيق بين الطرفين، فالحركة تجمعها بالحزب علاقة استراتيجية تلتزم بموجبها الأولى بدعم الحزب دعما قويا وخاصة في المناسبات الانتخابية؛ كما أن بين الحركة والحزب تداخل على صعيد العضوية، فالكثير من الأعضاء المؤثرين هم مشتركي النسب؛ ثم أيضا – وهذا مهم - حزب العدالة والتنمية من الناحية الثقافية، وعلى صعيد الرؤية، هو امتداد للحركة، وتعبير عن طموحاتها السياسية..، وعليه فالجواب عن سؤال العلاقة في ضوء هذا المنظور يكون بالإيجاب، أي أن الإسلاميين نجحوا في الفصل التنظيمي، لكنهم لم ينجحوا في الفصل العضوي، وعلى مستوى الموارد، والاستراتيجية، والرؤية. وعموما هكذا يدرك الناس وفي جميع المستويات علاقة الحزب بالحركة، والطرفان لا ينكران هذا النوع من التداخل أو التشارك.
من الأهداف التي وضعتها حركة التوحيد والإصلاح في ميثاقها إقامة الدين على مستوى الدولة، وإلغاء القوانين الوضعية المخالفة للشريعة كيف تنظر لهذا الأمر؟
- أظن ليس بهذه الصيغة، ولكن عموما، هذا النوع من الأهداف – في نظري – لم يعد له معنى، ووجب تغييره، ولعلني فيما تقدم أومأت لهذا الأمر، فالمملكة المغربية في عهد جلالة الملك محمد السادس قامت بثورة حقيقية في هذا المجال، وعملت بجد لتخليص الدولة من إعاقتها الدينية، وعملت -أيضا - على تأطير الممارسة السياسية والتشريعية للدولة تأطيرا دينيا وفقهيا، وأصدرت في هذا السياق فتوى «المصالح المرسلة» البالغة الدلالة، والتي -للأسف- لم يلتقط إشارتها الإسلاميون.. ومن ناحية أخرى حجم الإنجاز والاستثمار في الحقل الديني مؤسساتيا وماليا وقانونيا في العهد الجديد غير مسبوق، وقد كتبت دراسة نشرتها مكتبة الإسكندرية سنة 2011 حول هذا الموضوع من أهم خلاصتها: إذا كانت المملكة قد تغيرت في علاقتها بالمجال الديني واستوعبت وتجاوبت بطريقة غير مباشرة مع كثير من مطالب الإسلاميين، فعلى الإسلاميين أن يتغيروا تبعا لهذا، وللأسف شيء من هذا لم يحصل، لا زال الإسلاميون المغاربة لم يأخذوا بعين الاعتبار وبالإيجابية المطلوبة ما تحقق على هذا الصعيد، الذي يعتبر مطلوبهم بالأصالة، فما ذا كان يطلب الإسلاميون على صعيد الدولة أكثر مما فعله جلالة الملك في هذا المجال؟ ولن أبالغ إذا قلت، لم يكن متاحا لهم تحقيق هذا الإنجاز، ولو بثورة.
أما مسألة القوانين الوضعية، فهي من كلاسيكيات الخطاب الإسلامي التي يجب مراجعتها، ما معنى القوانين الوضعية بعد التطورات العلمية التي حصلت على مستوى الاجتهاد في الشريعة وعلى مستوى فهم الوضعنة القانونية، فالكثير مما هو وضعي أمسى بسبب هذه التطورات العلمية في ميداني الشريعة والقانون شرعيا من منظور المقاصد والقيم، ومن ثم فهذه المفاهيم هي من بقايا العهد القديم، التي يجب المبادرة إلى التخلص منها في أقرب وقت.
ولعل المؤتمر القادم للحركة قد يعدل في هذه الأمور التي ذكرتها.