في الجزء الأول من هذا الحوار، تحدث محمد جبرون عن أسباب مغادرته لحزب العدالة والتنمية ولحركةلالتوحيد والإصلاح. في الجزء الثاني من الحوار، يتطرق جبرون للقضايا المثيرة للحدل: زواج المسلمة من غير المسلم ، قتل المرتد، تطبيق أحكام الشريعة...
ألغت تونس مؤخرا كل النصوص القانونية التي تمنع المرأة التونسية من الزواج بغير المسلم كباحث في الفكر الإسلامي كيف تنظر إلى هذا الأمر؟
- أولا؛ يجب لفت الانتباه في هذا السياق، أن تونس على صعيد الفكر الإصلاحي كانت لها الريادة في الغرب الإسلامي، متفوقة على المغرب الأقصى والجزائر، وذلك راجع لعدة أسباب منها تأثرها المبكر بالأفكار النهضوية الشرقية الوافدة عليها من مصر وإستانبول.. وظهر بها عدد من أعلام الإصلاح الكبار أمثال خير الدين التونسي، والطاهر حداد، وابن عاشور..، وبحكم هذا السبق كانت تونس أكثر جرأة في الإصلاح مقارنة بجيرانها بالغرب.
أما فيما يتعلق بمسألة الإذن للمسلمة بالزواج من غير المسلم، فأنا لست مفتيا لأصدر حكما في الموضوع، ولست أهلا لذلك، لكن وجهة نظري أن هذا الموضوع يدخل في باب المعاملات التي هي بالأساس مصلحية، ويجوز فيها التعليل العقلي والمصلحي، وتخرج عن نطاق الأحكام الثوابت التي عددها عدد من الفقهاء، والتي لا يجوز معها أو فيها الاجتهاد، وهي التي تسمى بـ«المقدرات الشرعية»، وهي جملة من أحكام المعاملات المحدودة مثل «الطلاق مرتان»، و«المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء»، وأحكام الإرث، والحدود، فالمسائل والقضايا التي لا تدخل في باب المقدرات مثل التي ذكرنا لم يمنع ولم يتشدد الفقهاء والأصوليون في الاجتهاد فيها، فمسألة زواج المسلمة بالكتابي في هذا المنظور تخرج عن المقدرات، وبالتالي فهي مسألة قابلة للنقاش الاجتهادي بالرغم من نص الشرع عليها، بمعنى إذا ظهرت المصلحة في مراجعة هذا الحكم فلا مشكلة من حيث المبدأ.
وفي سياق هذا النظر الفقهي الاجتهادي تطرح مسألة أصولية دقيقة تتعلق بإمكانية تعارض النص مع المصلحة الذي قد ينتج عن تبدل الأحوال وتطور الزمان، فزواج المسلمة بالكتابي في الماضي كان في التقدير الفقهي الغالب مفسدة محققة، ولهذا كان التحريم، لكن اليوم وبحكم جملة من العوامل ربما يكون للبعض تقدير آخر. ومهما يكن الحكم في المسألة فالأمر يتعلق بنقاش مصلحي عقلاني بالأساس. والجدير بالذكر في هذا السياق أن عددا من الفقهاء الأصوليين المحسوبين على التيار الإسلامي (البوطي، القرضاوي، الريسوني..) رفضوا القول بإمكانية التعارض بين المصلحة والنص وبالتالي حرموا الخروج على أحكام النصوص باعتبارها مصلحة مطلقة، وبالمقابل رأى غيرهم إمكانية التعارض، وأعطوا الألوية للمصلحة، ومن أهم من قالوا بهذه الإمكانية أي التعارض الفقيه الأصولي المصري الشيخ محمد مصطفى شلبي في كتابه «تعليل الأحكام». وعموما فالمسألة تدخل تحت النظر الفقهي الاجتهادي.
ما الذي يعيق تبني نفس الأمر في المغرب؟
- إن هذه المسألة لم تطرح من الناحية الاجتماعية بالمملكة بشكل قوي حتى يتم بحثها، وفي حال إذا طرحت، لا أعتقد بأن المغرب من خلال مؤسسته العلمية الرسمية سيتأخر في الحكم، وسيسعى إلى النظر فيها بما يرفع الحرج عن المسلم، ولدينا في الاجتهاد الذي تم على صعيد مدونة الأسرة مثالا واضحا. ولا أظن أن المفتي الرسمي سيقيم وزنا لموقف التيار الفقهي التقليدي.
كما أن المسألة بالمغرب ليست مسألة فقهية - دينية محضة، بل هي في الحقيقة مسألة ثقافية، فالمغاربة لحد الساعة لا يتقبلون زواج نسائهم من غير المسلمين، ويعتبرون هذا الأمر معرّة، وعيبا، ولهذا يلجؤون في هذا السياق إلى إلزام الأزواج من غير المسلمين بتغيير ديانتهم والدخول في الإسلام ولو شكليا، وأنا شخصيا وصلتني كثير من أخبار الزيجات المختلطة في مدن الشمال والتي اضطر الأزواج لتغيير ديانتهم لتمام العقد.
في كل سنة يتجدد الجدل حول الإفطار العلني في رمضان وتشهر السلطات القانون الجنائي في وجه الراغبين في الإفطار كيف تنظر لهذا الأمر؟
- هذه المسألة تطرح كل عام بمناسبة رمضان، وأنا أتصور أنها ليست قضية دينية، فالإسلام في هذا الباب واضح، فالله تعالى يعبد بحب، وطوعا، ولا يعبد كرها، فالناس أحرار بالأصالة في بناء علاقتهم بالله عز وجل كيفما شاءوا، فالناس يتقبلون ترك الصلاة، وشرب الخمر، وترك الزكاة، لكنهم يتشددون في مسألة الصيام، البعض يربط هذا الأمر بكون فعل الإطار العلني فيه استفزاز للجمهور، وهذا أمر سيدخلنا في حال اعتباره في نقاش خطير، وهو أن بعض مظاهر التدين قد تكون مستفزة لغير المتدين مثل آذان الفجر، فكيف العمل معها في دولة المواطنة والمساواة بين المواطنين؟، إن الأصل في تدبير هذا النوع من المسائل هو الحرية، واحترام القانون، والقبول بمقتضيات المواطنة والتنوع.
ومن ثم، فتجريم القانون الجنائي لفعل الإفطار العلني في رمضان مرتبط بالثقافة والرأي العام أكثر من ارتباطه بالدين، أي أن مرجعيته الأساس مدنية أو على الأقل هكذا يجب أن تكون، فيوم يقتنع المشرع المغربي ومن ورائه المجتمع بإباحة هذا الأمر سيفعلون..، ولهذا فإحالة هذا الأمر إلى الدين والموقف الديني هي إحالة خاطئة، وفعل غير سليم.
سبق أن دعوت إلى إعادة النظر في إقامة الحدود في الإسلام كيف يستقيم هذا مع وجود آيات صريحة تدعو للعقاب الجسدي كقطع يد السارق مثلا؟
- هذا الموضوع مضخم، ويتجاوز حده الطبيعي كما رسمه الإسلام، فمسألة الحدود مهما بلغت هي في نهاية المطاف مسألة شرعية جزئية وليست كلية، وتطبيق الحدود كما تعلمون لم يعد موضوعا واقعيا في معظم المجال الإسلامي ومنذ زمان بعيد، فهذه المسألة للأسف هي من نتائج الحداثة القصرية، المعطوبة، التي دخلها العالم العربي في القرنين الماضيين. ومن الأشياء التي لا يعلمها الكثيرون أن الكثير من الحدود توقف تطبيقها بالمغرب وغيره من البلدان منذ زمن بعيد وباجتهاد شرعي، ومن ثم فعندما أقول بضرورة إعادة النظر في هذه القضية، وضرورة إنزالها منزلتها المعقولة من طرف عموم المكلفين اليوم، فمن جهة أحيل على المنجز الفقهي والشرعي الإسلامي الذي عمل به المغاربة والمسلمون منذ قرون، والذي كان يتحيل ويتوسل بوسائل مختلفة حتى لا تطبق بعض من هذه الحدود كالقطع في السرقة، والرجم في الزنى، والجلد في الخمر..، ومن جهة ثانية أرد القضية إلى أصلها باعتبارها قضية تندرج في نطاق جزئيات المعاملات.
ووجهة نظري في المسألة وليس حكمها، لأن الحكم له أهله، هو أن قضية الحدود في المنظور التقليدي هي من قضايا المعاملات التي تدخل في نطاق «المقدرات الشرعية» التي فيها أحكام نصية لا يجوز تغييرها أو الاستعاضة عنها، وذلك بخلاف باقي أحكام المعاملات التي أجاز الفقهاء الاجتهاد فيها مع وجود النص. والسؤال الذي أطرحه على الفقهاء التقليديين في هذا السياق: ما هي المبررات والحجج التي يقدمونها للتمييز بين أحكام المعاملات، وإباحة الاجتهاد في بعضها والمنع من الاجتهاد في البعض الآخر؟. في الحقيقة وعند تأمل الأمر لا أجد لدى الفقهاء حجة مقنعة لهذا التمييز، وعليه فإنني أعتبر أحكام المعاملات كلا واحدا لا فرق بينها من الناحية الفقهية، فهي كلها مصلحية قابلة للتعليل العقلي، أي أنها تقبل الاجتهاد. وقد فصلت هذا الأمر في كتابي «هدي القرآن في السياسة والحكم»، الذي سيصدر قريبا بحول الله، ومن ثم، فرأيي أن أحكام الحدود يجري عليها ما يجري على جنسها من قضايا المعاملات، ويجوز الاجتهاد فيها وتعليلها مصلحيا وعقليا، ومن ثم يجب النظر إلى ما وراءها من قيم، وهي – في نظري – المقصود الشرعي الأصلي الذي يعلو على الزمان.
ثم من جهة أخرى، إن الحدود والعقوبات البدنية بشكل عام تنتمي إلى تقليد ثقافي وحضاري غادرناه، ولم نعد ننتمي إليه فقد كانت متفشية في العصر الوسيط وفي كل الحضارات، ولم تكن مقتصرة على الإسلام، وعموما المسألة تحتاج إلى حديث طويل ربما ليس مناسبا الآن الخوض في كل تفاصيله.
ما الذي يجعل البعض يدافع عن مثل هذه العقوبات رغم أنها معطلة عمليا؟
- لا أعلم تحديدا، ولكن، في تقديري الأمر يرجع إلى رسوخ التقليد وضعف التجديد، وغياب أطروحات متزنة وغير مستفزة في الموضوع، ففي بعض الأحيان الدافع للتمسك بالتقليد هو الخوف على الدين، وتَصَدُر بعض المجاهرين بالعداء للدين للنقاش في هذا الباب.
يشهد المغرب بين الفينة والأخرى نقاشا حول حرية المعتقد هل يمنع الإسلام المنتمين إليه من اعتناق دين آخر؟
- هذا الموضوع عرضت له في كتيب سيصدر قريبا حول غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، وهذه من القضايا الثقافية بالأساس، أما موقف الإسلام منها فهو واضح، فقد أرسل الحَقُّ سبحانه وتعالى رسوله إلى الناس كافة بدين الإسلام، وقال مخاطبا رسوله: «وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون»، وقال أيضا: «ولقد أرسلنا فيهم مُنذِرين، فانظر كيف كان عاقبة المُنذَرين». ومن مقتضى هذه البعثة تمكين الناس من حرية الاختيار، والقبول والرد، إذ لا معنى لخطاب التبشير والإنذار إذا لم يستند إلى الحق في الاختيار، وفي هذا المعنى نزلت الكثير من الآيات القرآنية الكُلِّية الدالة على حق الناس الفطري في الاختيار، من ذلك قوله تعالى: «فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر». وقوله عز من قائل: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كُلُّهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، وقوله سبحانه: «لا إكراه في الدين قد تبين الغي من الرشد». وقوله أيضا: «فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا، إِن عليك إلا البلاغ».
إن مبدأ الحرية والحق في الاختيار الذي أعطاه الله عز وجل للناس أجمعين، يقتضي هو الآخر صراحة الاعتراف لبعض الناس بحقهم في الاستمرار على عقيدتهم ودينهم المخالف للإسلام، إذ لا معنى للحق في الاختيار بدون هذا الاعتراف. ومن الآيات الدالة على هذا المعنى قوله تعالى: «قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين».
ففي ضوء هذين المبدأين، هل يجوز شرعا وعقلا التصرف مع من أُعْطوا الحق في الاستمرار على دينهم تصرفات عدوانية، أو التمييز بينهم وبين المسلمين تمييزا سلبيا؟ لا أظن ذلك، فحرية الاعتقاد حق أصيل في الإسلام، والمشاكل إزاء هذا الحق هي ثقافية وسياسية بالأساس.
- كيف تنظر إلى دعوى قتل المرتد عن دينه؟
- هذه الدعوى في ضوء ما سبق لا معنى لها، وهي حكم تاريخي درسه الدكتور أحمد الريسوني في أحد أعماله بشكل جيد، ولا نحتاج لتكرار ما قاله دليلا على الحرية الدينية.
- لماذا يرفض الإسلاميون التنصيص قانونيا على حرية المعتقد؟
- لا أعلم الأسباب على وجه الدقة، ويمكننا في هذا السياق الدفع بجملة من الفرضيات، غير أنني أظن أن الناس بالمملكة المغربية يمارسون حريتهم العقدية بعيدا عن الإثارة والاستفزاز، فبلدنا به كثير من الناس يجاهرون بإلحادهم، والبعض الآخر يجاهر باعتناقه النصرانية، وآخر يعتنق المذهب الشيعي...، والله عز وجل هو من يتكفل بحساب الناس، ولم يخول أحدا النيابة عنه في هذا المجال.