مما يخاف حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة في قضية لغة التدريس؟
أنا في نظري، وأشدد على أنني سوف أغامر وأجازف بطرح هذا الموقف، يخيل للقادة الحزبيين لحزب العدالة والتنمية أنهم إذا لم يدافعوا عن العربية في التعليم سوف يخسرون نزعتهم الشعبوية، ويخيل لهم أن هذه الأخيرة سوف تتقوى إذا ما استمروا في موقفهم الرافض للتدريس باللغات الأجنبية.
دفاعهم ليس قناعات شخصية، بل هو فقط ارضاء ما يخيل لهم أنه فكر وضمير جمعي. الإسلاميون كل ما تحدث لهم عن الأمازيغية يخافون، وكلما تحدث عن التدريس باللغات الأجنبية يخافون.
أنا لا أفهم قولهم نحن ندافع عن اللغة العربية ولكن منفتحون على باقي اللغات، هذا موقف الجميع. المشكل هو أدلجة اللغة، وذلك ما قاموا به خلال نقاش الدارجة المغربية وللأسف لم تجد مثقفين يدافعون عنها.
العدالة والتنمية يوظف نقاش لغة التدريس لتعبئة أعضائه والمتعاطفين أكثر من تعامله مع النقاش كقناعات شخصية، مفادها أن اعتماد العربية في صالح التعليم. خطير جدا أن توظف رهانات بيداغوجية بحسابات سياسية بالمعنى التعبوي للكلمة وليس الفكري.
العدالة والتنمية يوظف نقاش لغة التدريس لتعبئة أعضائه والمتعاطفين أكثر من تعامله مع النقاش كقناعات شخصية، مفادها أن اعتماد العربية في صالح التعليم.
*في موضوع التعليم دائماً، هل ترى أن اعتماد التعاقد في القطاع نموذج مناسب؟ وكيف يمكن أن يؤثر على المسار الدراسي للتلاميذ؟
التوجه الليبرالي في التوظيف يمكن أن يشكل عددا من الخدمات العمومية، لكن لا يمكن أبداً أن يشكل قطاعين أساسيين هما التعليم والصحة ويمكن أن نظيف إليهم قطاعات أخرى.
لا يمكن أن تتلاعب بخدمة التعليم العمومية وأن تؤسس داخلها لمفهوم المرونة في التوظيف وعقود العمل.
نحن نتحدث عن معلم وأستاذ وممرض أو طبيب، لا يمكن أن تقول له: "سوف تشغل معنا لمدة عامين وبعد ذلك نقرر هل تستمر معنا أو لا"، لأن فلسفة الوظيفة العمومية بمساوئها ومحاسنها، تساوي الاستقرار وتعني أن من يلجها يمارس حرفة لا يمكن أن يصرفها في مكان آخر، وحتى إن وجدت استثناءات لا يمكن أن نجعلها قاعدة.
يجب أن تفهم الدولة أن هناك خدمات عمومية لا يمكن أن تشملها مرونة في التوظيف.
*الجامعات المغربية خارج تصنيف أفضل الجامعات في العالم. والبحث العلمي لا يرقى في المغرب إلى حجم ما ينتظر منه. بل أصبحت الجامعة مفصولة عن المساهمة في النقاش العمومي. أين هو الخلل، هل هو نقص في المبادرة عند النخبة الجامعية؟ أم أن هناك مشكل في المنظومة ككل؟
صحيح ما طرحته، وأنا أجد أن العاملين مساهمين أي مبادرة الأستاذ والمنظومة التعليمية، دائما قل في المغرب "بجوج" ولا تخف (يضحك).
أنا أقول دائما للطلبة: إنه بالرغم من البنيات الجامعية وهيكلة البحث التي كانت ضعيفة في الثمانينيات، لم تحبط عزيمتنا لإنجاز البحوث، وكنا نصرف من جيوبنا على هذه المبادرات، لكنها تظل فردية ولا يمكن أن تطالب جميع الأساتذة بالقيام بها.
الآن هيكلة البحث في الجامعة المغربية إذا ما نظرنا إلى التاريخ حتى حدود نهاية السبعينيات، وخصوصاً كلية الحقوق التي أنتمي إليها، كانت وظيفتها تحضير وتهيئة أطر الدولة، لأنها كانت بحاجة إليهم، لذلك كانت مهمتها هي هذه فقط. وبناء عليه، لم يكن هناك حديث عن البحث العلمي.
ثم جاءت مرحلة ثانية اكتشفت فيها الجامعة المغربية البحوث، وذلك مع إقرار السلك الثالث ووحدات التكوين والبحث ومدرسة الدكتورة. وهنا وقع الخلل، لأنه طيلة العقود الثلاثة الماضية لم تعد الجامعة تلعب فقط دور تخريج الأطر بل الباحثين أيضاً، لكن جل هؤلاء يعودون في الأخير إليها، معناه أنه لحد الآن البحث يقوم به من يدرسون، ولا نتوفر على مراكز تقوم بهذا الدور.
هل تعلم أن ميزانية المعهد الجامعي للبحث العلمي في الرباط سنوياً، وحسب حديث جمعني مع مديره السابق لا تساوي قيمة شقة من المستوى المتوسط.
الآن هناك هيكلة جديدة للبحث العلمي، فيها ما يسمى بالمختبرات، و كل واحد منها يجب أن يكون فيه ثلاث فرق للبحث، وهذه المختبرات كلها تجتمع في مركز على صعيد الكلية أو الجامعة. ما يقع هو أن هذه المختبرات لا تتوفر على موارد بشرية ولا على موارد مالية ولا استراتيجيات للبحث.
ما قمنا به في المغرب هو أنه بين عشية وضحاها قلنا للباحثين تهيكلوا، عكس النهج الذي اختارته الجامعات العريقة حول العالم، وهو الهيكلة بالتدريج، إنشاء مختبرات البحث لا يكون بمنطق الطلب، بل استراتيجية أساسها الإنتاج، والموراد البشرية الموجودة في الجامعة لا تسمح بهذه الهيكلة.
مع ذلك، يمكن أن نقول إن هناك تحسنا بكل المشاكل التي تواجهها الجامعة، وأتحدث معك هنا بصفتي مديراً لمركز للبحث ولو بالصيغة القديمة الكلاسيكية. ومن بين المستجدات الحسنة هي مدرسة الدكتورة، وهذه المدرسة وفرت تدريس الباحثين لمجموعة من الكفايات والمؤهلات التي لا تدرس في الجامعة، ومن بينها حرفة البحث والكتابة، وهذا التحول أفرز أطروحات جيدة جداً.
يجب أن تفهم الدولة أن هناك خدمات عمومية لا يمكن أن تشملها مرونة في التوظيف.
لنغلق قوس التعليم، ونمر لمحور آخر. من بين المصطلحات التي نحثها في المغرب هو أننا نعيش "العلمانية بلا صوت". ماذا تعني بذلك؟ وهل يمكن أن نضع خطاب الملك بمناسبة زيارة البابا وقوله أنه "لا يمكن أن يتحدث عن البلد كأرض إسلام لأنه هناك ديانات أخرى فوقه" في سياق المفهوم الذي تحدث عنه؟
أقصد بـ"العلمانية بلا صوت" أن هناك صيرورات علمانية ولكن غير معبر عنها أيدلوجيا ولا يتم الدفاع عنها بل تمارس فقط.
مثلا التعليم العمومي المغربي علماني، مقارنة بالتعليم في القرويين والتعليم التقليدي وفي المدارس العتيقة، لكن من هم ضد العلمانية لا يمكن أن يخطر ببالهم أن تعليمنا علماني.
هناك من يرى في العلمانية شقاً إيجابياً وهناك من يرى فيها شقاً سلبياً، لكن في الحقيقة هي صيرورة لا يمكن تقييمها.
مثلا حرية المعتقد أو حرية الضمير كما وردت في سؤالك من خلال الحديث عن خطاب الملك خلال زيارة البابا للمغرب، تعني أنك إذا كنت مسلماً يمكن أن تعتنق ديانة أخرى، ولا يمكن أن تمارس عليك ضغوطات لا جمعية أو مؤسساتية، هذا شيء إيجابي من جانب حرية الأفراد الذين يحق لهم اعتناق أي دين دون خوف.
لكن صراحة ما يقع، هو أن المغاربة الذين اعتنقوا المسيحية يرفضون الثقافة القديمة التي تفرض منطق كن من تكون ولكن كن هامشياً، يعني اعتنق ما تريد واصمت.
الآن المسيحيون الأجانب أو المغاربة الذين اعتنقوا المسيحية يبحثون عن حقوقهم. بن عبد الجليل، وهو مغربي اعتنق المسيحية في سنوات العشرينيات أعلن ذلك جهاراً، وخلق قراره مشاكل عويصة بالنسبة للمثقفين الوطنيين المغاربة ولم يدافع عنه أي أحد.
المسيحيون اليوم في المغرب أطروا أنفسهم، ويحاولون جهاراً في ثقافتهم السياسية أن يقولوا إنهم لن يكونوا مسيحيين ويصمتوا ويعلنون أنهم يطالبون بحقوقهم.
أنا أرى أن ما يقوله الملك وما تقوله الدولة وما يقوله القانون هو المعيار، وعندما يكون المعيار موجودا فإن الوقائع وإن تأخرت يعتبر ذلك تقدماً، لأنه على الأقل يتم القول هذا ما يجب أن يكون عليه المغرب وهذا مهم جداً من الناحية الثقافية، لأنه كان يمكن أن يقول في خطابه لا نحن لا نقبل أي دين.
نفس الشيء بالنسبة للمناصفة، هل الأخيرة مطبقة أم لا هذا شأن آخر، وبما أنها منصوص عليها في الدستور، فإن الواقع سوف يتناسب مع المعيار، لذلك يجب أن ندافع دائما على وجوده.
المسيحيون اليوم في المغرب أطروا أنفسهم، ويحاولون جهاراً في ثقافتهم السياسية أن يقولوا إنهم لن يكونوا مسيحيين ويصمتوا ويعلنون أنهم يطالبون بحقوقهم.
*لكن ألا ترى أننا نسير في المغرب بسرعتين متفاوتتين ودائما نلجأ للمؤسسة الملكية لحسم نقاشات من قبيل الإرث والمساواة وحرية العقيدة والحريات الفردية أو انتظار رأيها.
ما تقلوه معناه أنه ليست هناك صيرورة واحدة ووحيدة في المغرب. خطاب الملك حول الأمازيغية ألقي عام 2004، وتم حسم هذا الموضوع، لكن فيما بعد بدأنا نتحدث عن منع أسماء بالأمازيغية.
نظر نحن نتحدث عن مستوى بسيط في تفعيل مضامن خطاب أجدير. قد تجد أن ضباط الحالة المدنية لم يستمعوا أساساً لخطاب أجدير، وعندما تسألهم عن رفضهم لقبول أسماء أمازيغية يجيبونك "الله أعلم" !
الملك ليس طبقة سياسية، وهذه الأخيرة في المغرب لها روافد كثيرة، لذلك هناك صيرورات متفاوتة وكل التحولات التي نعيشها تحتاج أكثر من عقدين.
المشكل هو حتى المدافعين عن هذه التحولات في المجتمع يصابون بالانتكاسة، وتجد نفسك بعد الاقتناع بالسرعة الأولى التي اختاروا أنهم تراجعوا.
ليس هناك اتفاق على بعض القرارات السياسية التي يتخذها الملك كرئيس للدولة أو التي تتخذها الحكومة. لماذا؟ لأنه ليست كل الرهانات مركزية.
*لكن ألا ترى أن الحاجة الدائمة للمؤسسة الملكية لاتخاذ القرار في مواضيع مجتمعية أو سياسية خلافية يضر بها؟
الملك يجمع بين رئيس الدولة وأمير المؤمنين ويجب أن يقوم بدوره المنصوص عليه في الدستور، لكن أن تحشره في أمور من صميم اختصاصات الحكومة والتي لها علاقة بأدوار أخرى، هذا ليس يضر فقط بل غير قانوني وغير سياسي وغير ناجع.
ليس هناك فاعل سياسي واحد في العالم يجب أن يكون دائما في الواجهة. مثلا ، ما وقع في الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، عندما لم يجدوا حلاً عادوا للملك، صراحة أنا أقول لهم لماذا تصلحون إذا كنتم عاجزين عن إيجاد حلول لمثل هذه الملفات، بل حتى لم تحاول.
باختصار دور الملك معروف، ولكن في غالب الأحيان ودون ذكر الأسماء، عدد كبير من الفرقاء السياسيين يحتمون بالملك، بل يظهرون أن ما يقومون به يلقى موافق الملم عليه بصفة قبلية. وكل هذا يضر بالسياسة في المغرب، لأنه لا يمكن دائما الرجوع إلى شخص معين من أجل إيجاد الحلول.