هل ندعم الاحتجاجات أم نحافظ على الاستقرار؟ هل ندرس العلوم باللغات الأجنبية أم نستميث في الدفاع عن العربية؟ هل نحتاج في كل شيء إلى الملك ام أن تلك اختصاصاته التي ينبغي أن تحترم؟ هل نعيش علمانية صامتة وما هي مؤشراتها؟ أي دور للجامعة والبحث العلمي في المغرب؟ أسئلة وأخرى يجيب عنها الأنثربولوجي المغربي حسن رشيق.
* يعيش المغرب مؤخراً على تنامي الحركات الاحتجاجية وتنوع أشكالها في الشارع. هل هذا تحول في سلوك المغاربة؟
ولو أنني لم أشتغل كثيراً على هذا الموضوع، يمكن القول إن الاحتجاجات العنيفة قلت بالمقارنة مع سنوات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وأن نسبة الاحتجاجات السلمية أكثر بكثير من تلك التي تشهد أعمال عنف.
خلال الاحتجاجات المسجلة في العامين الأخيرين، نلحظ تسجيل عنف، يكون في غالب الأحيان من طرف الدولة، وإحدى التفسيرات الممكنة لذلك أن جهاز الأمن، ربما، لم يعد في استطاعته في عدد من الحالات، بما فيها مباريات كرة القدم، أن يتحمل هذا الزخم من الاحتجاجات وإن كانت سلمية.
بالمحصلة، يمكن القول نعم إنه وقع تحول في السلوك الحضاري للجماعات التي تنزل للشارع بصفة قانونية، ومن بينها تنسيقية من يوصفون بالأساتذة المتعاقدين.
بعض الشرائح في المغرب وخاصة منها المنظمة، جعلت من السلوك الاحتجاجي وسيلة للتعبير عن مطالبها، وتابعنا ما وقع في جرادة وقبلها الريف وسيدي إفني وزاكورة. إذا قمنا بإحصاء للاحتجاجات سوف نجد الآلاف في الحركات التي يقودها أشخاص أو جماعات، وهذا يعني أنه بالفعل هناك تحول.
الخوف الرهيب من الدولة يختفي ولم يعد بالحجم الذي كان عليه في الماضي.
مسألة أخرى يجب التسطير عليها وتكراراها لفهم هذا التحول، ولمستها في العمل الميداني البحثي الذي قمت به في عدد من الجماعات القروية، سوف أعرضها هنا: "بكري كان الواحد يرجع للدوار فرحان، ومنين يسولوه يقول ليهم راني دوا معايا القيد، ويسولوه: أشنو قال ليك، رد عليهم: قال ليا شد الصف ألحمار".
ثقافة يتحدث معك القائد وتخاف منهم لم تعد حاضرة عند المغاربة، بل بدأ الخوف الرهيب من الدولة يختفي ولم يعد بالحجم الذي كان عليه في الماضي.
* من ساهم برأيك في هذا التحول الذي قطع إلى حد كبير كما قلت مع الخوف الرهيب من الدولة وأجهزتها؟
أنا أعتقد أن كل ما سمي بالمجتمع المدني من سنوات التسعينيات له أثر في المجتمع أكثر من التنظيمات الحزبية.
التحول في الثقافة السياسية التي عنوانها أحتج، أرفض، أطالب بحقي، أنا مواطن، ساهم فيه المجتمع المدني. وإذا قمنا بإحصائيات سوف نجد أن التحول في الثقافة السياسية للأشخاص والجماعات، هو أن علاقتهم مع الدولة والإدارة تغيرت، بل أصبح منطق نحن من نعطي للدولة هو الحاضر.
ويبرز هذا التحول مثلاً في الاحتجاجات التي شهدتها منطقة عين السبع بالدار البيضاء حول ملف السكن، أكيد تابعنا كيف أصبح الأشخاص يتحدثون عن الدولة، ويجب الانتباه جيداً إلى أنهم أناس بسطاء.
* لماذا لا نجد تأثيراً لهذه الاحتجاجات على الاختيارات السياسية للمواطن، خاصة في لحظة الانتخابات؟
يمكن أن أقدم تخمينات هنا وليس جواباً انطلاقاً من معطيات.
الاحتجاجات تهم ما يمكن تسميته قيادة معينة زائد متعاطفين، مثلا سوف نأخذ المثال بزاكورة والريف، هنا إذا قمنا بحساب عدد المحتجين بالنسبة للساكنة التي يمكن أن تصوت سوف نجد نسبتهم قليلة جداً.
اشتغلت في مناطق عدد ساكنتها 900 شخص، من يتحرك فيها 30 فقط وهؤلاء هم النشطون. وعندما تأتي الانتخابات لا تتحدث مع هذه الفئة، مع العلم أنه في بعض الأحياء يشتغل الفاعلون والناشطون لصالح من يتقدم للانتخابات.
الأغلبية الصامتة هي من تشارك في الانتخابات، رغم أن القضايا التي أخرجت الجماعات إلى الشارع تهمهم ويستفيدون من أي تغيير إذا ما تمت الاستجابة للمطالب من طرف الدولة.
في تنغير الاحتجاجات ممتدة لسنوات طويلة، ويطالبون بنصيبهم من المعادن التي تعتبر ثروة وطنية، في زاكورة خرجت فئات من الساكنة للمطالبة بالماء الصالح للشرب، في الريف كانت هناك مطالب اجتماعية واقتصادية وثقافية، وهناك احتجاجات كثيرة في مناطق عدة وقعت لم تنل الزخم الإعلامي، و من دور الباحث والصحافي مستقبلا رصد إلى أين سوف تتجه أصوات الساكنة.
كيف ما كان الحال، يجب التأكيد على أن منطق الفعل الجماعي لا يؤطر كل الجماعة، يؤطر فقط المتعاطفين والقيادات، ومن لا نمسع لهم صوتاً خلال الاحتجاجات هم من يشاركون في الانتخابات.
المجتمع الذي لا يعرف احتجاجات أو نزاعات هو مجتمع مريض..والاحتجاج وسيلة لإيجاد تعاقد اجتماعي جديد
* المسؤولون والسياسيون المغاربة دائما يروجون لأهمية الاستقرار بالمغرب. أمام تنامي الاحتجاجات في السنوات الأخيرة، ألا ترى أنه سوف يكون من الصعب التعويل على تأثير هذا المفهوم أي الاستقرار؟
هناك من يقول إن الاحتجاجات حالة مرضية تعبر عن عطب في الجماعة، وأنا لا أتفق مع هذا الطرح. وهناك من يرى أن هذه الاحتجاجات والنزاعات الجماعية ما هي إلا وسيلة لإيجاد تعاقد جديد يحل المشكل، وأن دينامية كل مجتمع تفرض أنه كلما وصلنا إلى مرحلة عدم التوصل إلى حلول يكون هناك نزاع يمكننا من مراجعة القواعد القديمة والاتفاق على أخرى جديدة.
المجتمع الذي لا يعرف احتجاجات أو نزاعات هو المجتمع المريض. الآن السؤال الذي يجب أن يطرح هو هل لدينا ثقافة الحوار وإيجاد الحلول للنزاعات، وأنا أرى أن هذا الجانب بنقصنا ومن طرفين.
لنأخذ مثالاً بما وقع في ملف الأساتذة المتعاقدين. عندما يأتي أحد الطرفين ويقول لك من الأول هذا خط أحمر، التنسقيات تضع شروطاً بخطوط حمراء والوزير بدوره يمارس نفس السلوك، إذن كيف سوف نتوصل إلى حل؟ !
يجب أن نؤمن بمنطق طاولة المفاوضات وكل طرف يحاول انتزاع مكاسب ضمن حوار مستمر، أما إذا كان هناك اقصاء متبادل فلن نصل إلى حلول.
بخلاصة، عندما نتحدث عن الاستقرار يجب أن نعي جيداً أن العطب في المجتمع هو أن لا تكون هناك نزاعات وليس العكس، وفي أسوء المراحل في تاريخ المغرب، حتى من الناحية الأمنية والقمعية، كانت هناك احتجاجات وسوف تستمر، وهي عادية بالنسبة لكل شعب حي ومتحرك.
يجب أن تكون النزاعات منطلق نحو إنتاج قواعد جديدة، كما حدث مع حركة 20 فبراير، التي أفرزت دستور فاتح يوليوز.
هناك من يراه ممنوحاً فيما يرى البعض الآخر أنه ليس ممنوحاً، بينما يعتبر البعض أنه حد أدنى يمكن التفاوض على أساسه. ومن الجيد أن تستمر كل فئة في الدفاع عن رأيها إلى الآخر، ولكن باستحضار منطق أنه في هذه اللحظة، هذا أحسن ما يمكن أن نصل إليه، وما فوقه يعني مباشرة قتل الرأي الآخر، وهذا المنطق يحضر في الثورات فقط وليس في النزاعات الاجتماعية.
يجب أن نتجاوز ما يصوف بـثقافة "الكاو" التي كانت سائدة في المغرب إلى حدود سنوات التسعينيات، فالاحتجاجات والنزاعات واردة، لأن الأشخاص الذين لا ينالون حقوقهم لا حل لهم غير الاحتجاج.
كما يجب أن يعاد التفكير في طريقة التعامل مع النزاعات الاجتماعية، وذلك باستباق تنظيم المسيرات الاحتجاجية، والجواب على المطالب، والجلوس في مفاوضات والحديث بلغة مباشرة عنها وتقديم جميع المعطيات، نحن نتجه مباشرة إلى الإضراب والمسيرات ثم نبدأ في البحث عن حلول من الطرفين.
يجب أن نؤسس لثقافة ميكانزمات الحوار والتفاوض الاستباقية، وهذه الثقافة لا تتوفر عليها الدولة.
سبق وشاركت في إعداد مشروع تنموي في جماعات الجنوب، ومن بين الأمور التي اقترحت: التأسيس لآلية الشكايات في كل الجماعات، أي منح الأشخاص والجماعات فرصة لإيصال شكاواهم قبل أن ينتقلوا للفعل الاحتجاجي.
يجب أن نؤمن بمنطق طاولة المفاوضات وكل طرف يحاول انتزاع مكاسب ضمن حوار مستمر، أما إذا كان هناك اقصاء متبادل فلن نصل إلى حلول.
* لننتقل للحديث عن قطاع التعليم الذي أعطيت به المثال أكثر من مرة. ساد جدل حول مشروع قانون الإطار الخاص بإصلاح منظومة التربية الوطنية، ويهم هذا النقاش بالأساس لغة التدريس، لماذا التركيز على هذه النقطة فقط؟
لأن ما يمكن أدلجته هو اللغة، المسائل الأخرى لا يمكن أدلجتها. مثلا خلال إعداد مشروع قانون المالية، نجد أن المسائل التقنية تمر ،بخلاف القضايا التي يمكن أن تؤدلج وتدخل في خانة قيم بعض الجماعات أو الأحزاب أو الأشخاص.
القيمة التي أعطيت للغة مبالغ فيها كثيراً، وأشدد على ذلك، وليس مبالغ فيها فقط بل تطرح بطريقة خاطئة. عندما تعطي قيمة للغة وتقول إن اللغة الرسمية هي العربية والأمازيغية حسب ما ورد في الدستور، يكون ذلك على سبيل وضع مباديء، والمبدأ عام جداً، ولا يمكن إطلاقاً من المبادئ العامة تسطير سياسة التعليم.
لماذا لا يدافعون عن تدريس اللعلوم بالأمازيغية مثلاً، هي لغة رسمية كما جاء في الدستور المغربي.
إذا قلنا إن مسألة اللغة من الناحية القيمية شيء ومن الناحية البيداغوجية شيء آخر، سوف نكون قطعنا خطوات كثيرة. لأنه لا يمكن أن تلزم البيداغوجيين بالعربية لأنها فقط قيمة يشار إليها في الدستور بشكل عام.
يجب أن نفهم أيضاً أن قيمة اللغة العربية شيئ. ومن حق من يدافع عن هذا الطرح أن يقوم بذلك، لكن قيمتها العلمية شيء آخر. وفي هذه الحال، أجد أن الحل الذي سوف نبحث عنه بالنسبة للتعليم الأولي والابتدائي ليس نفسه بالنسبة للتعليم الجامعي.
في التعليم الأولي ، أرى أن أفضل وسيلة لكي يتعلم الأطفال اللغات هي تدريسهم باللغة التي يتواصلون بها في المنزل والشارع. إذا كانوا يتحدثون بالأمازيغية نشرح لهم بها إذا كانوا يتواصلون بالدارجة نشرح لهم بها، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن المعجم اللغوي للأطفال زاخر بلغتهم الأم.
أنت لم تقدم أي شيء للعربية وتراكماتك صفر في هذا الاتجاه، وتأتي الآن وتقول نعم يمكن أن أدرس الفيزياء باللغة العربية.
* (مقاطعا) يعني ترى أنه إذا أردنا تقوية مدارك الطفل اللغوية يجب أن ننطلق مباشرة من لغته التي يتحدث بها في محيطه.
نعم، وإلا سوف تخلق له عالمين متوازيين، عالم الشارع والبيت والسوق وعالم المدرسة. يجب أن نوظف معجم الأطفال اللغوي، مثلا لماذا نقول للطفل الصغير عبارة "عقوق الوالدين" في حين يمكن أم يفهم حمولة هذا الوصف بشكل أفضل إذا قلنا له عبارة "مسخوط"، ويفهمها أكثر، وليس عيباً المزاوجة بين المعجم المكتسب والمعجم اللغوي الذي سوف نلقنه للطفل داخل المدرسة.
أنا أقترح فقط، ويمكن أن يقول البيداغوجيون حسن رشيق "غير كيخربق"، ولكن أرى أنه يجب أن ننظر إلى الدول التي تعتمد الإنجليزية أو الفرنسية كلغة رسمية في دول إفريقيا جنوب الصحراء. وهنا نجد أن الدرس يشرح باللغات المحلية ويتملك الطفل بشكل أفضل اللغات، وإلا سوف نستمر في جعل الأطفال متفرجين فقط على من يتحدثون بالعربية الفصحى أو الفرنسية ولا يفهمون أي شيء، والنتائج والمستوى أمامنا ولا يحتاج لكثير من التوضيح.
حتى في علم الاجتماع الذي ندرسه نحتاج في كثير من الأحيان لاستعمال الدارجة، بل يجب أن نستعمله كي نوصل المفاهيم بشكل سليم إلى الطلبة.
يجب أن تطرح الحكومة على نفسها سؤالاً مهماً، وهو: ماذا أعدت حتى تواكب اللغة العربية العلوم الحقة؟ ! نحن في العلوم الاجتماعية ونجد صعوبات كبيرة لترجمة مجموعة من النصوص إلى العربية، رغم أننا في ميدان يمتلك فيه العرب إرثاً وخطوا فيه خطوات كبيرة.
الجدة والكلمات الجديدة التي تصدر كل شهر، هل تواكبها العربية؟ هل هناك قواميس ومعاجم للفيزياء مثلا باللغة العربية؟ هل أعددت كراسات للباحث كي تمكنه من فهم ما يقرؤه بالإنجليزية؟
أنت لم تقدم أي شيء للعربية وتراكماتك صفر في هذا الاتجاه، وتأتي الآن وتقول نعم يمكن أن أدرس الفيزياء باللغة العربية.
من يريد تدريس الفيزياء ولا يمتلك غير العربية من أين سوف يستقي ديناميكية العلوم. أنا مثلا لو لم أكن أمتلك اللغتين الفرنسية والإنجليزية، سأكون من المتأخرين في العلوم الاجتماعية، وحتي إذا لجأت إلى الترجمات ما هو مترجم إلى العربية رديء.
هناك من سوف يقول: ماذا سنفعل بالعربية؟ أجيبه، ليس هناك أي ضير في أن نستخدم اللغة العربية في عدد من المسالك، لكن بمناهج معدة جيداً وعندها علاقة بالترجمة أساساً.
لماذا يتغافل من يدافعون عن تدريس العلوم باللغة العربية، أنه في الجامعة لغة التدريس دائما هي الفرنسية؟ أحياناً لا تفهم منطقهم، أشدد ليس هناك جامعة في المغرب تدرس العلوم الحقة باللغة العربية.
*من يدافعون عن اللغة العربية من منظور "الخوف" عليها من الاندثار إذا ما تم اعتماد تدريس العلوم باللغات الأجنبية، يرمون بمقولات للمؤرخ وأحد مؤسسي علم الاجتماع ابن خلدون، ومن بينها "إن اللغة أحد وجهي الفكر، فإذا لم تكن لنا لغة تامة صحيحة، فليس يكون لنا فكر تام صحيح".
يجب أن ننطلق من الأمثلة، في أي بلاد اليوم لا يمكن أن نتحدث عن التدريس باللغة الرسمية فقط، لكن كما قلت سابقاً يجب طرح السؤال ماذا قدمت للغتك كي تواكب العلم. سوف أقدم مثالاً بفنلندا، شعبها عندما يريد التحدث بلغة العلم يتحدث السويدية وليس الفلندية، بل كانت لغتهم لهجة فقط، وهم دائماً من الأوائل دوليا في التعليم.
زرت فنلندا وكانت لي تجربة ولو قصيرة داخل مؤسسة تعليمية تضم مستويات التعليم الأولي والابتدائي، لم أجد فصلاً دراسياً بالمعنى التقليدي، هناك أطفال يشتغلون على مشاريع كل في زاوية داخل المدرسة، يعني التجربة هنا تفيد بأن الطرق التقليدية في التعلم والتدريس تم تجاوزها، ومثل النموذج الفنلندي هو الذي نجده في مصاف الدول الأولى من حيث جودة التعليم.
وللعودة لسؤالك والجواب عنه بشكل مباشر، نعم اللغة الأم لأي بلد لا يجب أن تهمش وأنا مع هذا الطرح، لأنه يمكن أن نطير بجناحي التنوع اللغوي.
من تجربتي الشخصية، أقول لك إن هناك كلمات باللغة العربية اكتشفتها من خلال القراءة باللغة الفرنسية، اللغة العربية سوف تستفيد من أي انفتاح لغوي، وكما يقول المغاربة: "لي عندو باب واحد الله يسدو عليه" أنا أقول: "لي عندو لغة وحدة الله يسدها عليه".