بعيدا عن القابعين خلف الجدران في انضباط تام للحجر الصحي المضروب في البلاد، وترقب ما وصل له عداد إصابات "كورونا" في البلاد، تخوض كتيبة الصحة العمومية، بطاقمها الطبي وشبه الطبي، معركة في الصفوف الأمامية ضد الفيروس الغامض والطارئ، الذي أربك منظومة صحة هي مسبقا متهالكة، ووضع ضغوطا على مواردها البشرية، خاصة أولئك المكلفون بعلاج مرضى "كورونا" المستجد.
في العاصمة الاقتصادية الدارالبيضاء، حيث اقترب عدد المصابين بكورونا من الألف، تخوض كتيبة الممرضين والأطباء حربا حقيقية ضد الفيروس وضد ظروف العمل وإكراهات الإبعاد عن الأسرة والأولاد.
كانوا سبعة ممرضين موزعين على مستشفيات تستقبل وتعالج مرضى "كوفيد-19" في الدارالبيضاء، رفضوا الكشف عن هوياتهم، لأنهم يرون في الشكوى في زمن الوباء خيانة وتقاعسا وجبنا، لكنهم، في والوقت ذاته، قبلوا بالبوح ولقاء "تيلكيل عربي" بأحد فنادق الدارالبيضاء، حيث يمكثون منذ أزيد من شهر، في عزل تام.
بال أغلب المواجهين لفيروس "كوفيد-19" في الميدان يشغله سؤال محير: متى يمكن أخذ راحة؟ ومتى يحين لقاء الأولاد والأسرة؟ مع العلم أنهم ملزمون، في حال حصلوا على عطلة، المكوث 15 يوما في العزل قبل ملاقاة ذويهم.
محاربون مبعدون في فنادق مصنفة
يعيش ما يزيد عن 400 موظف صحي موزعين بين الممرضين والأطباء في أربعة فنادق، مبعدين عن أسرهم لأزيد من شهر، ففي الوقت الذي وضع الممرضون في فنادق لأربعة نجوم، ينزل الأطباء في فندق من خمس نجوم، ويتكلف ممون الحفلات الشهير "رحال" بتغذيتهم.
يقر مسؤول مؤسسة سياحية، تابعة لصندوق الإيداع والتدبير المملوك للدولة، بأن الفندق بادر إلى إغلاق أبوابه منذ فترة إعلان الطوارئ الصحية، لكنه فتحها في الوقت ذاته للأطقم الصحية، وأن فندقه يستقبل 123 إطارا صحيا، منذ بدء الحرب على الفيروس.
ويقول، لـ"تيلكيل عربي"، "للأسف ،أعرف أصحاب فنادق كثر أغلقوا أبوابهم وأغلقوا معها هواتفهم واختفوا، لكن في المقابل، أبانت المؤسسات الكبيرة عن نضج. هناك مجموعة مغربية منحت فندقها من خمس نجوم للأطباء، وهناك مجموعة عالمية خصصت فنادق في العالم بأكمله لصالح الأطقم الطبية ومرضى 'كورونا'".
لا تلج الأطقم الصحية النزيلة في الفندق الواقع في كورنيش الدارالبيضاء عبر الباب الرئيسي، إذ خصص لها مدخل خلفي قريب من "باركينغ السيارات". كانوا سبعة ممرضين قبلوا ملاقاة "تيلكيل عربي" في بهو الفندق. لا يرون في ظروف الإقامة مشكلا، ويقرون بأنهم في حرب، وأن الوقت ليس وقت "دلال" لكن في الوقت ذاته، يعتبرون أن انتقاد ظروف العمل من شأنه أن يحسن المردودية ويسرع في تحقيق النتائج.
هؤلاء يقضون يومهم بالكامل، ومنذ أزيد من شهر، مع مصابي "كورونا" المستجد. تغيرت حياتهم رأسا على عقب، لم يخمنوا أبدا أن يواجهوا عدوا معديا وسريع الانتشار، والأنكى أنه خفي، أو أن يصير البعد عن الأولاد والأسرة حماية لهم، وحلا لا محيد عنه.
حسب أرقام وزارة الصحة لسنة 2018، هناك تسعة ممرضين لكل عشرة ألاف مغربي، ويرى مهنيون أن الرقم أقل بقل بكثير لأنه يحتسب المولدات والقابلات، كما أنه أقل بكثير من المعدل المسجل في القارة الإفريقية، والذي هو 11 ممرضا لكل 10 آلاف مواطن.
مطالبة بتوزيع عادل للمرضى
في مدينة بنت مستشفى ميدانيا مؤقتا في وقت قياسي يتسع لـ700 سرير، وتشكل البؤر الأسرية والصناعية سمة في خارطة انتشار الفيروس في المدينة، يزداد الضغط على الموارد البشرية الصحية في المدينة، ففي الوقت الذي يقر فيه مصدر مسؤول في مندوبية الصحة بجهة الدارالبيضاء سطات، بصعوبة حصر رقم محدد في هذا الوقت لعدد الأطر الصحية المحاربة ضد "كوفيد-19"، لأن هناك موجة من التوظيف قادمة، إضافة إلى الاستعانة بأطر المراكز الصحية أثناء الحراسة، ووجود متطوعين من المتقاعدين. فكيف يواجه المقاتلون ضد "كوفيد-19" ظروف العمل في هذه البنية الصحية؟
لا يخفي العاملون في الصفوف الأمامية لمعالجة مرضى "كوفيد-19" وجود ضغط كبير خاصة في الشهر الأخير، وتقول ممرضة في عقدها الخامس، "المنظومة الصحة في الأصل منهكة، والموارد البشرية غير كافية. في السابق، كان أهل المريض هم من يتكلفون به، من خلال التغذية والدواء والعناية، لكن بالنسبة لمرضى 'كورونا'، الوزارة تتكلف بكل شيء، وهذا زاد من الضغط".
بالنسبة لهذه السيدة التي ابتعدت عن أولادها منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، فإن البنية الصحية تقاوم إلى غاية هذا اليوم، لكن المشكل يتجلى في ضرورة إعادة توزيع عادل للمرضى على البنيات الصحية في المدينة. "لا يعقل أن نجد مستشفيات مكدسة، كما هو الحال في الحي الحسني، ونجد في المقابل مستشفيات أخرى فارغة"، على حد تعبيرها.
يقر مصدر "تيلكيل عربي" في مندوبية جهة الدارالبيضاء سطات بوجود ضغط كبير على المستشفى الإقليمي بالحي الحسني، ويعزي الأمر إلى أن مرضى عمالة إقليم النواصر الذين يعالجون هناك، كاشفا عن فتح مستشفى بدار بوعزة مخصص لـ"كوفيد-19" بداية الأسبوع المقبل.
في الوقت الذي يجري فيه تخصيص المركز الاستشفائي ابن رشد للحالات الحرجة والعلاج المركز، يقول ممرض هناك يعمل في قسم "كوفيد-19": "ليست كل الأقسام مجهزة بضاغط الهواء (extractor) الذي يقوم بتجديد الهواء بالغرفة التي يرقد بها مريض 'كوفيد-19'، وهذا أمر مقلق للممرضين والأطباء الذين يدخلون عند المرضى"، لكنه ينفي وجود أي ازدحام في أقسام "كورنا" في المركز الاستشفائي ابن رشد.
عذاب البذلة وأخذ الدم من الأطفال
يردد كثير من الممرضين بفخر ما تضمنه آخر شريط مصور للطبيبة الراحلة "مريم أصياد" بعد أن أصيبت بفيروس "كورونا"، ويتناقلون كيف أنها الوحيدة التي أقرت بمجهودات الممرضين في هذه الحرب.
يجمع أغلب من التقاهم "تيلكيل عربي" ومن يعيشون أكثر من 12 ساعة في اليوم في أقسام "كوفيد-19" أن أصعب مهمة على الإطلاق هي ارتداء البذلة. ويقول ممرض يقضي أكثر من 4 ساعات يوميا داخلها، "وكأنك تتحرك في غرفة صونا محكمة الإغلاق على جلدك، وبما أن نفسك لا يخرج، فإن الضباب يغطي الرؤية ويصعب مهام أخذ عينات أخذ الدم كمثال، كما أن مراقبة مريض واحد تتطلب على الأقل 15 دقيقة، ما بين أخد عينة من دمه وقياس ضغطه ونسبة الأوكسجين في دمه، هذا أمر صعب مع البذلة الخاصة".
وبالنسبة لهذا الممرض الذي يجر وراءه خبرة لأكثر من ثلاث عقود في مجال الصحة العمومية، فإن الإجهاد الحقيقي يتجلى في غياب موارد بشرية كافية، إذ لا يعقل أن يضم مستشفى إقليمي 43 مريضا بـ"كورونا" وهناك فقط خمسة ممرضين؛ أي ما يعادل 8,6 مريض لكل ممرض.
ويضيف "طوال السنوات الماضية كنا ننادي بضرورة الاستثمار في الموارد البشرية في القطاع الصحي، كان ينظر إلينا كمشاغبين، كنا نصيح لأننا كنا مدركين أنه لو حلت الكارثة فإن العواقب ستكون وخيمة، كل ما نريده أن يجري اتخاذ القرارات بتشاور مع الممرضين أيضا، فنحن من في الواجهة".
يروي الممرض أن أصعب موقف يعيشه مع مرضى "كورونا" يتعلق بلحظة أخذ عينات الدم من الأطفال، ويحكي "مرة تعرضت لهجوم من طرف الأم، وكادت تمزق بذلتي، ومرة أخرى بعد عملية تفاوض طويلة لإقناع الأم بضرورة أخذ عينة من دم طفلتها، وبمجرد ما أدخلت الحقنة، أتفاجأ بسقوط الأم مغشيا عليها".
أما زميله في مستشفى ابن رشد فيحكي أن أطرف موقفه له هو تهدئة نزيلة أقامت فوضى عارمة من أجل الحصول على قنينة مشروب غازي من نوع محدد على الساعة الثانية صباحا، ويقول "مرضى 'كوفيد' من نوع خاص، فرغم أنهم يدعون لنا، غير أن هناك نوعية منهم، تبتزنا بدعوى تصوير فيديوهات ونشرها، وأنهم مرضى استثنائيون في زمن استثنائي، وعلينا الاهتمام بهم. هذا صحيح، وهو دورنا الأساس، لكن لا يمكن أن ندخل عند المريض كل مرة يحتاجنا فيها، عليه أن يعلم أننا نراقبه وأجهزته متصلة، والدخول عنده يكون لمنحه الدواء ومراقبته، أو إن حدث تطور في وضعه الصحي، فدخولنا يكون بأوقات محددة، لأن ذلك يتطلب ارتداء البذلة وهي عملية تتطلب قرابة 20 دقيقة، ثم خلعها بحذر عند الخروج وهي العملية الأكثر تعقيدا، والتي تتطلب شخصين لإجرائها".
يكشف مصدر "تيلكيل عربي"، المسؤول في مندوبية وزارة الصحة بجهة الدارالبيضاء سطات، بأن هناك مباريات مقبلة لتوظيف ما يزيد عن ألف إطار صحي وطبي، وان حصة الأسد خصصت للممرضين ثم الأطباء فالقابلات، إضافة إلى تقنيي الصحة والمروضين.
وحسب المصدر ذاته، وأمام مواجهة الضغط على المستشفيات، فإن الوزارة لجأت إلى الاستعانة بأطباء وممرضي المراكز الصحية للقيام بدور الحراسة في المستشفيات الإقليمية المستقبلة لمرضى "كوفيد-19"، كما لا يستبعد اللجوء إلى طلبة السنة الثالثة في كليات الطب، لكنه سيناريو مستبعد.
وحسب المتحدث ذاته، فإن هناك شراكة مع القطاع الخاص، تتجلى في تخصيص مصحتين خاصتين لاستقبال مرضى "كوفيد-19"، إضافة إلى مصحة تابعة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، واثنين في كل من المحمدية وسطات.
وحسب المصدر ذاته، فقد تقدمت مصحة خاصة بالتكفل بحالات الولادة وصحة الأم لتخفيف الضغط على المستشفى الحسني، إضافة إلى البيولوجيين الوطنيين الذين تقدموا لإجراء تحاليل مخبرية لصالح مرضى "كوفيد-19" بالمجان.