تونس - غسان الكشوري
بعد قضاء 8 أيام بوسط العاصمة تونس، والتجول في شوارعها ليل نهار بكل حرية، استوقفني رجال الأمن في اليوم التاسع الذي كنت أهم فيه بمغادرة "مهد الربيع العربي"، متوجها إلى مطار قرطاج الدولي. والسبب أني أحمل حقيبة كتب.
في اليوم التاسع من مقامي بفندق مطل على شارع بورقيبة وسط العاصمة تونس، استيقظت باكرا لكي لا أفوت طائرتي التي ستقلع مع الـ 11 ونصف أول أمس (9 فبراير). حملت حقيبتين؛ الأولى لأغراضي الشخصية على ظهري، والثانية صغيرة خصصتها للكتب التي اقتنيتها وقدمت لي كهدية، حقيبة قادتني إلى التوقيف والتحقيق من طرف الأمن التونسي، وهذه تفاصيل حكاية.
دورية الشوارع
قبل الساعة 8 صباحا بدقائق، وسط شارع بورقيبة، وقبل أن أنادي على الطاكسي، أثار شكل حقيبتي الصغيرة الممتلئة بالكتب، اهتمام دورية الأمن الوطني. تقدموا نحوي وهم يحملون بنادقهم (منها بندقية قنص)، واستفسروا عن هويتي وجواز سفري وعن محتوى الحقيبة الصغيرة بالتحديد. قلت لهم إنها مجرد كتب، ظانا مني أن الأمر فخر وأنهم سيسرّون بها وتطمئنهم.
قلّبوا الكتب (عددها 14)، وأول ما صادفهم من العناوين، كتاب "التيار السلفي وعلاقته بالدولة التونسية"، ثم رواية "رحلة بجواز سفر داغشي"، وكتاب "تاريخ الصلاة في الإسلام" لجواد علي. بالإضافة إلى كتاب "جدل الهوية والتاريخ"، الذي خصص تكريما للمؤرخ الكبير هشام جعيط، وكتب أخرى عن التاريخ.
أعطيتهم جواز سفري المغربي، واستفسروا عن سبب حملي لهذه الكتب؟ استغربت وأخبرتهم بأني صحافي ومهتم بهذا المجال. طلبوا إثبات الهوية بكوني صحافي وبسبب قدومي إلى تونس. أمددتهم بكل ما أحمل لإثبات هويتي وصفتي.
تقدم إلي رئيسهم بلباس مدني، وقال لي من التقيت في تونس؟ أخبرته أني التقيت المؤرخين هشام جعيط وعبد الجليل التميمي المعروفان في تونس.
ونحن لا نزال في الشارع وأمام مرآى المارة، سألت رئيسهم هل هذه الكتب ممنوعة هنا في تونس؟ وهل ممنوع على السياح حملها خارج البلاد؟ كما حاولت أن أضغط عليهم بأني سأفوّت طائرتي وإجراءات المطار إذا لم يخلوا سبيلي.. أجابني الرئيس: هذه مشكلتك وليست مشكلتنا.
في تلك الأثناء، حام من حولي رجاله، ووجد أحدهم مذكرتي التي أدون فيها الأسئلة والأفكار، وبدأ يقرأ فيها صفحة صفحة، فسقطت من بينها بطاقة شخصية للقيادي في حزب النهضة عبد الحميد الجلاصي، فارتابوا أكثر.
أخذ رئيسهم هاتفه واتصل بدائرة الأمن وملى عليهم عنوانين الكتب التي أحمل، مركزا على التي تحتوي على "شبهة تطرف" دون غيرها. وأصر على أن يغيّر عنوان الرواية المذكورة إلى "رحلة بجواز سفر داعشي". قاطعته وصححت له بأن العنوان فيه "داغشي" وليس "داعشي"، لكنه لم يعرني اهتماما وطلب أن يتم نقلي إلى مركز الأمن.
التفت ووجدت عنصر أمن آخر يفتح حقيبتي الكبيرة ويفتشها وترك الأغراض ملقاة على الأرض، وقال لرئيسه إنه يحمل حاسوبا. نهرته بنبرة حادة لأنه فتح الحقيبة التي أخذت مني وقتا لأرتب الأغراض داخلها، وتركها بذلك الشكل.
وقبل التوجه إلى مركز الأمن، سمعت هاتف رئيس الدورية يقول، إن ملفي خال ودون سوابق وبأني غير مشتبه. (لا أعرف كيف وجدوا ملفي بهذه السرعة عندهم!)
ورغم ذلك توجهنا إلى مركز الأمن مشيا على الأقدام، نحو 300 متر، وأنا مثقل بحقائبي دون مساعدة منهم. وفي الطريق يحدثني رجل الأمن أن الوضع في تونس يحتم الاشتباه في أي شخص يقرأ مثل هذه العناوين.
بمركز الأمن
عند الدخول إلى مركز الأمن بنهج (زنقة) ابن خلدون، انتظرت في مكتب يشبه تماما مراكز الأمن عندنا في المغرب، من حيث شكله الداخلي. جاءني رئيس المركز (أظن) بوجه بشوش، وقال لي أنت صحافي وكاتب، أخبرته بأني قدمت لتونس من أجل لقاء المؤرخ الكبير وفخرهم في تونس؛ هشام جعيط.
فتح الكتب ضابط آخر وسألني عن هويتي واسم أبي وأمي وأجدادي.. وعنواني في المغرب ومقامي في تونس. بعد ذلك سألني عن مضمون الكتب، ولماذا أقرأها؟ فحاولت أن أفسر له أنها كتب تنويرية؛ أي ضد التطرف، وأن رواية "داغشي" هي لمغربي التقيته، وهو يعيش في تونس منذ 17 سنة، وأن كتب السلفية التي اشريتها في تونس، قمت بذلك بحكم تتبعي لفكرهم.
تحاشيت الدخول في أسباب التوقيف والكتب التي تباع في المكتبات بشكل قانوني، لكي أتمكن من اللحاق بطائرتي.. وحاولت أن أوضح له أني التقيت هشام جعيط وأجريت معه حواراً بحكم قامته الفكرية، وأريته إهداءه وتوقيعه على الكتاب. لكنه سألني عن كتب القيادي بالنهضة، وكشفت له أني التقيته وأهداني إياها.
أخرج الضابط من الحقيبة كتاب "عكارة: في سوسيولوجية القبيلة المغاربية"، وهو كتاب لسالم الأبيض، الأكاديمي ووزير التربية السابق في حكومتهم سنة 2013، فابتسم قليلا وهدأ روعه.
بعد مدة من الانتظار (دون فعل أي شيء)، عاد إلي رئيس المركز وطلب مني التوقيع على بضعة أسطر كتبها بنفسه. لم أقرأها (وربما هو خطأ) ولا أعرف محتواها لحد الآن، لكن ربما موعد الطائرة شتت تركيزي ودفعني للتوقيع دون انتباه.
خرجت من المركز ومررت على نفس الدورية التي أوقفتني؛ الآن بابتسامة وبأريحية سلمت عليهم مودعا. لكن ذلك لم يكفهم؛ إذ نادى علي أحدهم داخل السيارة. ظننت أن الأمر مجرد سلام وتحية، إلا أنه أخرج قلما وورقة وسألني مرة أخرى عن اسمي الكامل وعن سني، وعن الشخصيات التي التقيت، ودون كل ما قلته. ثم سألني عن علاقة المؤرخ هشام جعيط بحزب النهضة "الإسلامي"، ضحكت وقلت له إن الرجل في واد والنهضة في واد.
كانت الساعة تجاوزت التاسعة، شكرتهم وحييتهم على يقظتهم الأمنية في الشوارع.. صعدت الطاكسي، وأول ما حكاه لي السائق؛ كان عن شخص يحمل حقيبة سفر قام بتفجير نفسه قبل سنوات قليلة...
قاطعته: هل كان يحمل مثل حقيبة الكتب هاته.. ؟!
ملاحظة لابد من ذكرها: التقيت في مقامي بتونس، بالكاتب والمتخصص في الجماعات الجهادية هادي يحمد، وربما "لحسن الحظ" أني لم أحصل على كتابه الأخير "كنت في الرقة: هارب من الدولة الاسلامية".. لربما كان سيفوت علي هذا الكتاب موعد الطائرة نحو الدار البيضاء !