رغم كل الصعاب والحروب الداخلية والخارجية، واصل عبد الله إبراهيم الاشتغال بهدوء وثقة، وحقق في فترة قصيرة إنجازات مبهرة:(في الحلقة الماضية تم بسط ما حققته حكومة عبد الله إبراهيم في قطاعي الفلاحة والصناعة وستخصص هذه الحلقة لباقي القطاعات)
"جرى تنويع التجارة: تقلصنصيب منطقة الفرنك إلى 40% بعد أن كان 80%، وتم تأميم استيراد الشاي والسكر، وفرضت تعريفة جمركية جديدة لحماية المنتوجات الوطنية.
وظهر الحس الإبداعي المدهش لحكومة عبد الله إبراهيم في القطاع الاجتماعي، إذ تم إحداث "الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي" (CNSS) بظهير 31 دجنبر 1959، وإصدار تشريع جديد للشغل، والاتفاقيات الجماعية. كما تم توحيد المنطقتين الشمالية والجنوبية، وخلق محاكم خاصة بنزاعات الشغل، وصندوق التعاون الوطني، ومفتشية الشغل، وتم إقرار الحد الأدنى من الأجور، والملاءمة بين الأسعار والرواتب، وجرى كذلك تجميد أثمنة المنتوجات الأساسية.
في مجال التعليم، أفضت مخططات التمدرس، التي شملت خمس سنوات، إلى استيعاب 60% من الأطفال الممدرسين. ونجحت حكومة عبد الله إبراهيم في كسب تحدي الانتقال من نسبة تمدرس لا تتجاوز10% في 1955 إلى 45% في 1960، دون إغفال تشييد جامعة محمد الخامس، واعتماد برامج للإنعاش الثقافي ومحاربة الأمية والتكوين المهني، ودون إغفال إقرار تنظيم إداري جديد، ولا التحولات الاجتماعية التي تتولد من التمدن المطرد (+5.3% سنويا)...
كان عبد الله إبراهيم يشتغل في حقل يعج بالمشاكل العويصة دون أن يفقد قط لا هدوءه ولا إيمانه بما يفعل، وبصرامة أخلاقية فرضت على الجميع احترام الرجل.. هذه الصرامة التي ستظل ملازمة له طيلة حياته.
وأفلح في الحد من آثار الأزمة المالية والاختناق الاقتصادي، ونجح في الصمود امام الحرب التي شُنت عليه من طرف فرنسا وديوان الأمير مولاي الحسن، وحزب الاستقلال، وأصحاب الأعمال.
وأعطت سياسته، التي كانت تتعرض للضربات من كل جانب، ثمارها سريعا: فما بين 1959 و1960 بلغت نسبة النمو 10% على المستوى الصناعي. وفي بداية 1960، قبل رحيله عن رئاسة الحكومة في 10 ماي، كان عبد الله إبراهيم، الذي وجد الصناديق فارغة لما تسلم مهامه، قد ضخ في خزينة الدولة عملة صعبة تغطي ستة أشهر من العملة الصعبة.
فضلا عن المحن والهجمات الخارجية، والصعوبات التي تعترض تطبيق برنامج من هذا الحجم، جاءت الصراعات والحزازات الداخلية لتنضاف إلى الكابوس الذي كانت تتحرك حكومة عبد الله إبراهيم وسطه. (...)
ويقول أبوبكر القادري في شهادته 'ظهرت التوجهات الفكرية والعقدية لعبد الله إبراهيم منذ أن كان طالبا في باريس. فمنذ تلك الفترة لاحظت أن توجهاته تختلف عن توجهات عبد الرحيم بوعبيد رغم انتماء الرجلين إلى نفس الحزب. وكان يغيب أي تعاون بينهما في الإطار الإيديولوجي، حتى وإن كان بوعبيد قد أخذ يتجه شيئا فشيئا نحو الخط الاشتراكي، ولكن كانت تحاليله اقتصادية أكثر منها سياسية، ولهذا كان أقرب إلى الحزب (الاستفلال) من عبد الله إبراهيم، الذي كان يحلق في السماوات الفلسفية والعقدية، اليسارية وحتى البعثية في بعض الأحيان.. وهذا ما يفسر الاتساع المتزايد للهوة التي كانت تبعده عن الحزب'..
الواقع أن ما سمي بـ"عناد" عبد الله إبراهيم، بالإضافة إلى تواضعه الجم، وحرصه على الابتعاد عن الأضواء، وتحاليله الجريئة والصارمة، كلها عوامل جعلته على هامش الأوساط السياسية.