"هل المغاربة متديّنون؟".. هذا سؤال خارج العادة والمألوف، لكنّه كفيل بإثارة ما يعتقد الكثيرون أنه مسلّمة لا حاجة لأي نقاش حولها؛ حيث يبدو للوهلة الأولى أن الحديث عن درجة تديّن المغاربة ونمط سلوكهم الديني، مجرّد ترفٍ ثقافي. لكن الواقع أن أسئلة الدين والتديّن بالنسبة للأمة المغربية، هي أسئلة الحاضر والمستقبل.
كما أن الإجابات التي تضمنها الحوار مع الدكتور حسن أوريد، المؤرخ والناطق الرسمي باسم القصر الملكي سابقا، وأحد أكبر المثقفين المغاربة المعاصرين، هي إجابات تخصّ طبيعة فهم المغاربة لأنفسهم وللعالم من حولهم.
=========
*ما هو تقييمكم لمدى نجاح السياسة الدينية المغربية؟
تقييم السياسة الدينية المغربية ليسَ بالأمر السّهل. لكن هناك محطات يبدو فيها أنها استطاعت أن توفّق بين مقتضيين؛ مقتضى الارتباط بالتاريخ والتقاليد، ومقتضى مواكبة الحداثة والتطورات الدولية، أو حسب تعبير لوزير الأوقاف: "الدّين حداثة سابقة، والحداثة نوع من التقديس المحيّن".
هناك محطات عدّة يبدو فيها أن هذه التجربة نجحت، سواء فيما يخص مدونة الأسرة، أو فيما يخص ملفات متعددة، أو حتى فيما يخص حرية المعتقد في حدود، ثم كذلك مع هيئات أساسية، سواء فيما يخص إعادة النظر في المجلس الأعلى للعلماء، أو المجالس العلمية الإقليمية، أو حتى في مؤسسات جديدة؛ مثل معهد تكوين الأئمة.
إذن، لحدود الساعة، يمكن أن تعتبر التجربة المغربية سابقة وفريدة من نوعها. طبعا ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار طبيعة المغرب؛ فهو ليس دولة علمانية، والسلطة السياسية تستمدّ شرعيّتها من التّاريخ ومن الدّين. لذلك، هناك سقف لا يمكن تجاوزه عمليا فيما يخص التجربة المغربية، وهو الأمر الذي يظهر جليّا، سواء فيما يخص قضية الإرث التي تثار الآن، أو فيما يخص حرية المعتقد.
*كيف تنظرون إلى التطورات التي يعرفها الحقل الديني المغربي؟
ما يميز التجربة المغربية هو وجود وعي عام وشامل، ظهر جليّا بالأخص بعد أحداث 16 ماي المأساوية؛ حيث حدث حينها تمايز ما بين الدين والدولة من جهة، والدين والسياسة من جهة أخرى.
عمليا، لا يمكن، في السياق المغربي، التمييز بين الدين والدولة؛ لأن الدولة المغربية، بالنظر إلى خصوصيتها، لا يمكن أن تنسلخ عن الجانب الديني. ولكن هناك وعي لدى الدولة، أو حتى داخل الحقل السياسي، بضرورة التمايز بين الحقل السياسي والحقل الديني، وهذا ما أعتقد أنه موضوع يكتنفه نوع من التّوافق.
أظنّ أن المغرب بلغ نوعا من النّضج الذي أفضى إلى التمايز ما بين السياسة وما بين الدين.
*هل يمكن اعتبار أن هناك "سوقا دينية" في المغرب؟
سوق دينية أو بضاعة دينية، أنا شخصيا، لا أحب هذه الكلمات المستمدة من السياق الميركنتيلي؛ إذ لكل مجال خصوصياته ومفاهيمه.
طبعا أنا أفهم أن هناك شيئا يسمى بـ"التديّن"، وهو موضوع لا يدخل في دائرة اختصاصي. ما يهمّني وما اشتغلت عليه، هو توظيف الدين في السياسة، ويمكن أن ألخصه في جملة واحدة: هناك مدّ متواصل ومسترسِل نحو نوع من الدنيوية، أو ما يسميه البعض بـ"العلمانية مع وقف التنفيذ".
*كيف ترون تنامي حضور رموز خطاب الوعظ الديني خارج الإطار الرسمي، أمام تواضع أداء المؤسسات الدينية في الترويج لمرجعية ومكانة مؤسّسة إمارة المؤمنين؟ وهل يعتبر هذا الحضور القوي تشويشا على أدائها؟
أظن أنه ينبغي التمييز بين الوعظ وبين الدعوة والخطاب الديني. ويبدو لي أن كل ما يدخل في الوعظ والإرشاد يقع في دائرة الدولة، من خلال مؤسساتها، إما في المساجد، أو خطبة الجمعة، أو المجالس الإقليمية، أو المجلس الأعلى.
وأظن موضوعيا أن هذه المجالس عرفت نوعا من "البيريسترويكا" أو "إعادة الهيكلة"، وتتوفر على عناصر جيدة من حيث التكوين، ومن حيث فهم قضايا المجتمع. كما أن هناك مؤسسات انكبت على قضايا آنية؛ مثل الرابطة المحمدية للعلماء، التي تقوم بجهد جبار. لذلك، أظن أنه عمليا وموضوعيا، وعلى خلاف ما يُعتقد، التجربة المغربية الرسمية واكبت هذه التطورات من خلال مؤسسات وعناصر كفؤة، إنّما تشتغل تحت سقف معين لا يُمكن تجاوزه. طبعا في الجانب الآخر، هناك خطاب دينيّ سياسيّ، يدخل إما في دائرة الإسلام السياسي، أو أحيانا ربما في دائرة التطرف.
هذا الخطاب الديني السياسي حاضر إعلاميا، ولكن ليس بالضرورة أنه مؤثر مجتمعيا، وهذا في اعتقادي شيء أساسي، وكمثال على ذلك، الظاهرة السلفية محدودة التأثير.
طبعا الخطاب المتطرّف يحظى بالاهتمام، لأن له مضاعفات تمسّ الأمن بالأساس. ولكن موضوعيا، ينبغي الإقرار بأن المؤسسات الرسمية، سواء من خلال هيئات جديدة ومستحدثة ومحيّنة، استطاعت مواكبة التطورات الدورية، بشهادة الكثير من المتابعين والمراقبين.
*لكن هناك مؤاخذات على الحضور الباهت والمتواضع للمؤسسات الدينية الرسمية رقميا، مقابل حضور قويّ للحركات الإسلامية!
الخطاب الرسمي في أي دولة ليس له جاذبية، ثم إن الخطاب الرسمي يقع دائما في دائرة قوانين معينة ودائرة مرجعيات؛ مما يحدّ مجال الحريات. هذا واقع.
لا أستطيع التحدث عن كل المؤسسات. لكن يمكنني الحديث مثلا عن الرابطة المحمدية للعلماء، على الأقل في الفترة التي اشتغلت عليها، والتي تقوم بعمل جبار فيما يخص قضايا آنية؛ منها تفكيك خطاب التطرف، إنما لا تحظى بمتابعة إعلامية.
كما أستطيع التحدث عن مجلس الجالية المغربية بالخارج الذي يواكب بدوره التطورات، ويُسترشد به فيما يخص التأطير الديني، أو حتى قضايا ذات مضاعفات أمنية، كما حدث في الهجوم الإرهابي ببرشلونة، سنة 2017؛ حيث اضطلع بدور تشاوري مع السلطات الإسبانية. إنما كما قلت لك، الخطاب الرسميّ عادة لا يحظى بجاذبيّة.
*ما الذي يجعله يفتقد إلى هذه الجاذبيّة؟
لأنه خطاب مُحافِظ بالأساس.
*ما المؤثر الأكبر على تديّن المغاربة، توجيه عقل الدولة أم توجيه عقل الأيديولوجية؟
الدولة يمكن أن تستند على أيديولوجية كذلك. نحن نعيش في عالم لا يمكن أن تقوم فيه أيدولوجية واحدة أو شمولية، هذا غير وارد.
قد تكون للدولة مرجعية عقدية أو سياسية، وهذا مشروع. ولكن شريطة ألا تكون هذه المرجعية هي الوحيدة التي تنمّط المجتمع. طبعا الحداثة هي أن نأخذ بالاختلاف في كل أوجه التوجه السياسي، وبالاختلاف الثقافي، ونأخذ كذلك بالحرية.
والمرجعية الدينية، إن كانت، قد لا تنطبق بالضرورة مع هذه المقتضيات، لا من حيث احترام الاختلاف، إلا في حدود معينة، أو الحرية، لأن الحرية المقيدة، ليست حرية. لذلك، من المفروض أن تكون الحقول الخارجة عن الدولة، أكثر جرأة، لأنها أكثر حريّة.
*بخصوص الأمن الروحي، هناك من يؤاخذون على المؤسسات الدينية الرسمية إصرارها على الاشتغال بمنطق ما يسمى بـ"الجزر المؤسساتية المعزولة".. ما رأيكم؟
ينبغي أن أكون بداخل البنية لكي أصدر حكما. كما أنني لا أشتغل على ما ينبغي أن يكون، بل على ما هو كائن. أنا خارج مرجعية الدولة. هذه المرجعية في الحقل الديني التي تقوم على تحديث الإسلام، وما يهمني أنا هو تحديث المغاربة.
ما يمكنني قوله بهذا الخصوص هو إن جهد الدولة بالأساس، هو جهد من أجل الالتئام مع التطورات. فهو دائم جهد بَعديّ، وليس جهدا استباقيّا. لذلك، هو متأخّر عن تطور المجتمع. وكمثال على ذلك، إصدار المجلس العلمي الأعلى فتوى "قتل المرتد"، قبل أن يتراجع عن ذلك. لا يمكن عمليا قبول الحكم بالإعدام على شخص "مرتدّ". هذا غير مطابِق لا للعصر، ولا لتوجّهات الدولة. وهذا دليل على تأخر المؤسسات الرسمية عن دينامية المجتمع.
للمهتمين بالاطلاع على باقي أجزاء ملف "هل المغاربة متديّنون؟" الذي كان الحوار مع فضيلة العلامة مصطفى بن حمزة، أحد محاوره.