بعد أن تجاوز الصدمة واستأنف عمله وصار جاهزا لاستعادة ما حدث بالتفصيل، استجاب يوسف لطرش، الدكتور الصيدلي، حصريا، لدعوة "تيلكيل – عربي"، من أجل إعادة تركيب وقائع جريمة إطلاق الرصاص بمراكش بتفاصيلها الدقيقة، كما عاشها، سيما أنه كان من أكثر الحاضرين في مسرح الجريمة، شجاعة في التعامل مع الموقف بحكمة وعقلانية إبان وقوعه، بحكم مهنته وتكوينه، فسارع إلى تقديم الإسعافات إلى الضحيتين فاطمة الزهراء الكمراني، وأيوب المساري. الحوار ينشر على جزأين، وحلقة اليوم يستعيد فيها الصيدلي، تفاصيل ما حدث إلى غاية حضور الشرطة ونقل الضحايا في الإسعاف، لنترك للجزء الثاني، المرتقب نشره مساء غد (السبت)، تفاصيل ما حدث في الطريق وداخل المحصة، واستماع المحققين إليه، وخلاصاته وما تغير فيه بعد هذه التجربة القوية.
بداية من يكون يوسف لطرش؟
في عمري 27 سنة، رأيت النور ببني ملال، وترعرعت في مراكش، أنهيت دراساتي العليا في أوكرانيا، حيث حصلت على شهادة الدكتوراه في الصيدلة خلال 2016، وحاليا أزاول مهنتي كصيدلي في مراكش، وأعد في الوقت نفسه شهادة الدكتوراه الثانية في البيولوجيا.
هل كنت على معرفة سابقة بالضحية القتيل حمزة بن الشايب الذي يتحدر بدوره من بني ملال؟
أنا أيضا علمت بذلك من الإعلام، ولكن لا. لا أعرف مسبقا أي واحد من الضحايا، وعلى كل أنا أنتمي إلى الجمعية المغربية لدراجي الأطلس، وهي جمعية لركاب الدراجات، ونشتغل في العمل الخيري، وخلال يوم الجريمة، برمجنا اجتماعا للجمعية، واتفقنا أن نعقده في مقهى "كابوتشينو"، لكن لما وجدها أحد الأعضاء مملوءة، اتصل بنا فقررنا عقد اللقاء بالمقهى المجاورة، أي مقهى "لاكريم".
جلس صديقنا على مقعد قريب من حيث كان الضحية، قبل أن يغير مكانه،لما توافد بقية الاعضاء، بحكم أن عددنا كان كبيرا، عشرة أشخاص إذا تذكرت جيدا، فاخترنا مائدة يسمونها في المقهى بـ"لاتابل روايال"، كان موعدنا مقررا في السابعة مساء، وأنا انضممت إليهم في حوالي السابعة وعشر دقائق. كانت الأمور عادية جدا في المقهى ولم يكن هناك ما يوحي بأن شيئا غريبا سيقع، والموسيقى كانت مشغلة، فبدأنا لقاءنا على طريقة المراكشيين، نسخر من هذا، ونضحك على ذاك.
هل كان الهالك حمزة وصديقته فاطمة الزهراء موجودين حينها في المقهى؟
لا. المرحوم والفتاة لم يأتيا إلى المقهى إلا في حدود ما بعد الساعة السابعة وعشرين دقيقة، إذ دخلا وجلسا على المائدة التي توفي فيها المرحوم، بشكل عاد جدا.
تردد كثيرا أن مالك المقهى كان جالسا في المكان قبل أن يجلس فيه الضحية، هل ذلك صحيح؟
صراحة، لا أقول إلا ما رأته عيني، أنا لم أر الرجل الذي يقول الناس إنه كان في المقعد، ولست متأكدا من ذلك، لكن بخصوص الضحيتين حمزة وفاطمة الزهراء، فقد كانا بهندام عاد جدا، لا يشي بأي شيء عنهما، سواء هل هما طالبين، أم شخصيات معنية ببتصفية حسابات، ولو كانا كذلك، كانا ليحميا نفسيهما، ولن يختارا مقعدا في المقهى "منو للشارع".
وبعد حلول الضحيتين بالمقهى، لم تمر سوى 10 دقائق، حتى لمحنا دراجة سوداء من نوع "تيماكس"، وبحكم أننا أعضاء في جمعية للدراجين، كان من الطبيعي أن تثير الدراجة انتباهنا، إذ نريد دوما أن نعرف من أي نوع، وماهي طبيعة الأكسسورات الموجودة فيها.
الدراجة التي كان على متنها شخصان يرتديان ملابس سوداء، لم تتوقف في الطريق العمومية، بل صعدا بها إلى الرصيف، ثم توقفت الدراجة بشكل عادي جدا، ونزل منها الراكب الثاني، في حين ظل سائقها فوقها، ولم ينزعا عنهما الخوذات الواقية (casque shark)، التي لاتبرز أي شيء من ملامح الراكب، وبعدها قام الراكب بفتح سترته، واستل المسدس...
هل دخل إلى المقهى؟
لا. قام بذلك من الخارج. لقد كنت مقابلا له وكنا حينها ما نزال مهتمين بالدراجة، وكما قلت "حل الجاكيت وجبد البيستولي"، فبدأ يطلق النار، الرصاصة الأولى توجه بها رأسا نحو الضحية حمزة "باااق"، ثم توقف، وبعد ثوان، استأنف إطلاق النار، بشكل عشوائي، فسمعنا دوي رصاصات أخرى.
ماذا فعلت حينها أنت وأصدقاؤك؟
لا أخفي عنك، كان معنا في مائدتنا صديق يعمل في السلك العسكري، وسرعان ما أمرنا بأن نستلقي تحت الطاولات ونحتمي بها، وسمعته يقول "دكتور هبط، دكتور هبط"، فمع الصدمة، وقفت من مكاني لحظة إطلاق النار، وعاينت شيئا يخرج من رأس الضحية بعدما أصابته الطلقة.
هل غادر حينها مطلق الرصاص المكان؟
اعتقد أنه أطلق ما بين أربع إلى ست رصاصات قبل أن يغادر المكان، بينها طلقتان، واحدة أصابت الضحية فاطمة الزهراء في بطنها، والثانية أصابت المهدي المساري، الضحية الثالث، في رجله، هذا الأخير الذي لم يحس بالضربة، حتى انتبه صديق له إلى الدماء في سرواله، قائلا له: "عنداك عنداك".
وقبل أن يغادر المهاجم، قلب المائدة، حينها سمعنا "تشاااخ" ليتناثر الزجاج في المكان، و"غوتو" مجموعة من الفتيات "واااع"، ثم التحق المهاجم بالدراجة النارية بكل برودة دم، وفر رفقة سائقها من المكان "فرررر، وزاد"، بشكل عادي جدا كأنه قتل ذبابة. ولا أخفي أنه في البداية لم نع كثيرا ما يحدث، فمناسبة عاشوراء انتهت لتوها، وهناك من خيل إليه أن الأمر يدخل في إطار الألعاب النارية للمناسبة.
ومتى سارعت إلى تقديم الإسعافات الأولية لفاطمة الزهراء الكمراني؟
أتذكر أن الضحية وقفت وتوجهت نحوي، فانتبهت إلى طبعة (طاش) حمراء في بطنها، وعلى وجهها بعض من دم صديقها حمزة بن الشايب، وبعض فتات مخه وعظام جمجته، وعندما جاءت نحونا، الأغلبية لم يشاؤوا الإمساك بها، إذ خيل لكثيرين أنها مستهدفة بالقتل، وقد يطلق المهاجم مزيدا من الرصاص.
وقد كانت تقول لي "شدني شدني"، فأمسكت بها، و"تخشينا تحت طاولة"، وجعلتها تستلقي على جنبها الأيمن، وبدأت تقول "أنا مامضروباش، راني مامضروباش"، قلت لها: لا. لقد أصبت.
وبعد ذلك، "عريت ليها على التيشورت ديالها"، فلاحظت أنها أصيبت تحت ثديها، فطلبت منها أن تظل مستلقية على جنبها الأيمن، ومواصلة الحديث معي، ثم اقتربت من المرحوم، فلاحظت أن مخه مشتت، وعينه مصابة، فاستنتجت أنه لا مجال لإسعافه.
طلبت منها أن تظل مستلقية على جنبها الأيمن تحديدا، هل يتعلق هذا بمعرفة طبية بحكم أنك صيدلي؟
صحيح. وبعدها تسلمت منشفة وردية اللون من عند النادل، ولأن الدم الذي كانت تنزفه كان متدفقا بكثرة، وضعت المنشفة ويدي على جرحها، وقلت لها لا تتوقفي عن الكلام معي، في وقت، "تبارك الله، المغاربة ديالنا كلشي هز تلفون كايصور، وأنا أقول آعباد الله عيطو للإسعاف"، وهي تلك اللحظة التي وثقها شريط "فيديو" أظهرني أصرخ في وجههم.
وبعد ذلك، بدأت فاطمة الزهراء تقول لي بالفرنسية "إن الأمر مؤلم، إن الأمر مؤلم.."، وأجيبها: "هل تسمعينني، أرجوك لا تفقدي وعيك"، لأنني أدركت أنها بدأت تلج مرحلة الصدمة، ثم طلبت منها أن تضع يدها على الجرح، وذهبت نحو الأخ الذي أصيب في رجلة، فحملناه من الأرض أنا وصديقه، وأجلسناه على كرسي.
وبعدها، نزعت من نادل آخر "الطابليي" الذي كان يلبسه، واستعملته لحزم حوض الضحية، حتى أوقف تدفق الدم، وطلبت منه أن يسرح رجله ويظل في مكانه، في انتظار مجيء الإسعاف.
لقد كان المشهد مروعا، وأشبه بما يحدث في الأفلام، سمعنا صراخا كثيرا، وكان الزجاج متناثرا في كل الأجزاء، دون أن تتوقف الموسيقى التي كانت مشغلة قبل وقوع الجريمة.
وعدت إلى فاطمة الزهراء، وطلبت من النادل أن يحضر لي كأسا مليئا بقطع الثلج، فطلبت منها أن تدخل يدها في الكأس، ثم أخذت قليلا منه وبدأت أمرره بيدي على عنقها ووجهها، لكي تستفيق وتحافظ على وعيها.
لماذا أصررت على فاطمة الزهراء أن تحافظ على وعيها وألا تغيب عن الوعي؟
إذا دخلت في "لوشوك" وغابت عن الوعي، لن يبقى لي حينها شيء أقوم به لمساعدتها، أعتقد أنه علاوة على ألطاف الله سبحانه وتعالى، ما جعلها تحافظ على وعيها وتتفادى الدخول في غيبوبة، أنها فتاة قوية، ولأنها طالبة في الطب، كانت تعي ما أطلبه، وتدرك ما تقوم به، أما حمزة فقد توفي حينها، وظل الناس يصورونه. بعدها جاء رجال الشرطة والوقاية المدنية (...).