حوار.. كريشان: إقحام تونس في صراع الصحراء خطأ كارثي والناس ثاروا في الربيع العربي بدون بدائل ناضجة

بشرى الردادي

يصفُونه بـ"عميد الصحفيين" بقناة "الجزيرة"، التي كان عضوا بالفريق المؤسّس لها، عام 1996. أحد الأوجه الإعلامية البارزة في العالم العربيّ. راكم، خلال مسيرته المهنية، خبرة لأكثر من 40 عاما، عمل خلالها في مؤسسات عريقة، ومجالات إعلامية مختلفة.

بمناسبة عيد الاستقلال التونسيّ، يحاور موقع "تيلكيل عربي" الصحفي التونسي، محمد كريشان، حول عدة مواضيع مهمة تخصّ الإعلام والسياسة؛ كالاتّهامات التي وُجهت لقناة "الجزيرة" في تغطيتها للثّورات العربية، وتقييمه لوضع تونس في عهد قيس سعيّد، وما إذا كانت تحتاج لربيع عربيّ جديد، بالإضافة إلى رأيه في قرار خروجها من منطقة الحياد بخصوص ملف الصحراء المغربيّة، وفي وضع الإسلام السياسيّ حاليا، إلى غير ذلك من القضايا السّاخنة.

يعتبر الكثيرون أن حلقات محمد حسنين هيكل بسلسلة "المصير" أقوى موادك الإعلامية.. لماذا لم نر لك تجربة إعلامية مشابهة بعدها؟

لأنه من الصعب أن تجد نفس المواصفات في شخصيّة مثل محمد حسنين هيكل، الذي أجريت معه 20 حلقة ضمن السلسلة. هو حالة خاصّة ومتميّزة، ليس دائما مُتاحا أن تجد مثلها من أجل سلسلة من هذا النوع.

ما هو أصعب جمهور بالنسبة إليك؟

كل الجمهور إرضاؤه صعب، لأنه قد يُعجب بك الآن، وينقلب عليك غدا. الجمهور حالة مزاجيّة في الغالب، ليست دائما عقليّة، وقد ينقلب عليك نتيجة مواقف سياسية، أو نتيجة خطأ بسيط ترتكبه على الشاشة، أو نتيجة نشرك لتغريدة من التغريدات، فتكتسب عداوة، لكنك أيضا، قد تكتسب حبّا وتعاطفا من شرائح أخرى، في سياق معين. لذلك، يجب تقبّل الجمهور بغضبه وحِلمه.

في أيّ مرحلة واجهت قناة "الجزيرة" أكبر تقلّب مزاجيّ للجماهير؟

في فترة الثّورات العربية، التي أحدثت هزة كبيرة في التاريخ العربي الحديث وفي وجدان الناس. فهناك من ساند هذا التغيير ورآه مؤشرا على بداية عهد جديد من الديمقراطية والحريات، وهناك من رآه بثّا للفوضى، بدليل دخول كل من ليبيا وسوريا واليمن في حرب أهلية.

هنا، كانت محطات مفصلية؛ إذ ساير البعض هذا التوجه نحو التغيير الديمقراطي، فيما عارضه البعض الآخر، وهو ما خلق حالة من الانقسام في الرأي العام، تحمّلت وزرها "الجزيرة"، بشكل خاص، والإعلام، بشكل عام.

صرّحت في أحد لقاءاتك الصحفية بأن تغطية "الجزيرة" لثورات الرّبيع العربيّ اعتراها ما لا يُستحب ذكراه.. ماذا كنت تقصد بالضبط؟

قد نكون سايرنا وتعاطفنا مع الثّورات العربية بأكثر ممّا يمكن أن تتحمله وسيلة إعلام؛ بمعنى أننا أبدينا حماسا لهذا التغيير، ربما بشكل مبالغ فيه.

كان بالإمكان أن نغطي هذا الحراك الاجتماعي والسياسي، دون أن نبدي أننا متعاطفون معه ومؤيدون له كثيرا، لأن هذا الأمر حُسب علينا، أحيانا، أنه نوع من التّحريض، في حين أن نيّتنا لم تكن كذلك. هذه ربما كانت هنة كبيرة، وهذا الكلام أسمح لنفسي أن أقوله؛ لأنني قلته في "الجزيرة" نفسها، ببرنامج تامر المسحال "ما خفي أعظم".

كيف تتوقع من الجمهور أن يصدّق أن منبرا إعلاميا مثل "الجزيرة" يشتغل بمنطق النّوايا الحسنة؟

الموضوع ليس قضية نوايا، وإنّما قضية أنه في بعض المنعطفات التاريخية، خاصة ما حصل في تونس، فما بعد ذلك، كانت هناك حالة سياسية جارفة وعاطفيّة، وحتى دوليا، حارت بعض الدول في كيفية التعامل معها؛ كأمريكا، وأوروبا.

قد تأتي بعض اللحظات، التي ليس من السهل فيها إدارة الجوانب العاطفية والسياسية، خاصة بالنسبة لقناة تشتغل على مدار 24 ساعة، ثم إننا لم نستطع حتى أن نلتقط الأنفاس في خضمّ ما شهدته تونس، ثم ليبيا، والجزائر، فسوريا، واليمن؛ إذ لم يُتح لنا القيام بوقفة تأمّل، حتى نراجع أداءنا، ونرى أين وُفّقنا، وأين لم نُوفّق.

وربما الحماسة الشديدة لبعض من صحفيينا ومذيعينا جعل المسألة تسير بالشكل، الذي سارت به، والذي فيه جوانب ربما يستحسنها البعض، وجوانب قد يلومنا عليها البعض الآخر، وهو أمر مقبول.

في نظرك، هل تمّ التحضير لبديل جيّد بعد ثورات الرّبيع العربيّ؟

هذا سؤال ممتاز، الحقيقة أن الناس ثاروا بعد سنوات من القمع والظلم والحيف الاجتماعي والفساد، رغم عدم جاهزية ونضج البدائل؛ ولهذا يقول البعض: "هذه ليست ثورات"؛ لأنه يفترض أن يكون في الثّورات فكر وقيادة وبديل جاهز.

ولأن البديل لم يكن جاهزا، دخلنا في نوع من التجربة مع الإسلاميين وغيرهم، وهو ما لم يسمح لهذه الثّورات أن تنجح، فتعثّرت في ليبيا، وفي تونس، مؤخرا، وفي مصر، بعد سنوات من حكم العسكر، وفي سوريا، بسبب سيطرة عائلة وطافية معينتين.

ما هو تقييمك لوضع الإسلام السياسيّ حاليا، أترى أنه متخبّط لكن يمكن له العودة، أم سقط بشكل نهائيّ؟

التاريخ لا يسير بالأهواء، بل بتنظيم البدائل والحلول. أعتقد أن الإسلام السياسيّ عاش لفترة منتعشا بمظلوميّة معينة وبحكم فاسد وغير ديمقراطي. المعارضة شيء والحكم شيء آخر. أعتقد أنه كان لدى هذا التيار قدرة جيدة على المعارضة، لكن قُدرته على الحكم وإيجاد البدائل كانت ضعيفة. والناس لا ترحم؛ حيث انفضوا من حولهم، حينما لم يقدموا، وهم في الحكم، بدائل مقنعة، ولم يساهموا لا في تحسين ظروف الناس، ولا في تقديم مشاريع تنمويّة مُغرية. لقد أصيبوا بنكسات، وإذا لم يستفيدوا منها، قد لا يعودون أبدا، لكن إذا قاموا بمراجعات، وقدموا نقدا ذاتيا، وأصلحوا الثغرات، التي اعترت أداءهم، قد يستطيعون العودة. لا شيء مستحيل!

قلت إن الإسلاميين راهنوا على المظلوميّة والفساد. لنفترض عدم توفّر هذين العنصرين، هل كانوا سيلاقون نفس القُبول لدى الناس؟

بالتأكيد لا، هم يعزفون على وتيرة الهوية والقيم الأخلاقية والعقيدة، وهذا الجانب قد يفيد، أحيانا، كما يمكن أن ينقلب عليك، في أحيان أخرى؛ لأن الجانب الديني يفترض أن يكون جزءا من هوية ثقافية وحضارية عامة للبلد، وليس بالضرورة وسيلة سياسية للوصول إلى السّلطة. إذا لم يعالجوا هذه المسألة، بطريقة ذكية، ستسبب لهم متاعب أخرى، في المستقبل.

في نظرك، هل تعيش المنطقة العربية حالة فراغ سياسي حاليا؟

أكيد، هناك فراغ اشتغلت عليه الأنظمة، وليس وليد الصّدفة. الأنظمة الاستبدادية في تونس ومصر وليبيا وسوريا صحّرت الحياة السياسية، وجعلتها خرابًا؛ حيث كان كل صوت مخالف يُسجن، أو يُنفى، أو يُقمع، أو يُقتل، إلى آخره. فبالتالي، حينما أزيحت هذه الأنظمة، لم يكن هناك شيء اسمه نخبة جاهزة قادرة على استلام السلطة، لأنه تم إفراغ الساحة السياسية من كل صوت يكون مقنعا ويشكّل بديلا، في يوم من الأيام.

إلى أيّ مدى تستطيع المنطقة تحمّل هذا الفراغ السياسيّ؟

في تقديري أن أيّ مرحلة انتقاليّة، بعد سقوط أنظمة، يجب أن تكون مرحلة ائتلافية، لا هيمنة فيها لأي تيار، بل يجب أن تكون هناك قدرة على المزج بين الإسلاميين والليبراليين واليساريين والتكنوقراط، وغيرهم؛ بحيث تمر هذه المرحلة الانتقالية بأخفّ الأضرار المُمكنة.

لا يمكن لأي تيار ولا يملك أي تيار القدرة على أن يتصدّى لمرحلة انتقالية يقودها بنفسه، لأنها لا تثمر أيّ نتائج.

جُرّبت المسألة الائتلافية مثلا في تونس، بين الإسلاميين وغيرهم، ولكن، للأسف، لم يُكتب لها النجاح؛ لأنها لم تكن مبنية على برنامج واضح ومفصّل، بل كانت نوعا من الترضيات بين تيارات لتقاسُم السلطة، وليس بلورة بديل يكون محلّ إجماع وطني واسع.

بماذا تصف وضع تونس اليوم مع قيس سعيّد؟

سأستعمل هنا وصفا لأستاذ جامعي، اسمه أيمن بوغانمي، أجده وصفا دقيقا، حين قال: "نحن لسنا في نظام استبداديّ، نحن في نظام اعتباطيّ، وهذا أخطر من الاستبداد، وسيؤدي بنا إلى المهالك". أعتقد أن تونس حاليا في مرحلة من التيه والتخبط والعشوائية نرجو ألا تطُول.

المعارضة التونسية تصف قيس سعيّد بـ"الاستبداديّ"، أيمكن اعتبار وصوله للحكم انقلابا بدون دم؟

هناك مفارقة غريبة في الحالة التونسية، وهي أن رئيسا انتخب ديمقراطيا، ونجح بنسبة تقارب 70 في المائة، ووصل إلى الحكم، بناءً على دستور معين وقواعد لعبة معينة، ثم ينقلب على كل هذا.

ما حصل انقلاب غريب الأطوار. هو انقلاب على نفسه. هو ليس انقلابا عسكريا، وإنما انقلاب على المنظومة القانونية والدستورية، التي أوصلت هذا الرجل إلى السلطة؛ حيث ألغى الدستور، والبرلمان، وهيئة الانتخابات، وهيئة مكافحة الفساد، إلخ، ثم أرسى كل شيء على مزاجه، بعد ذلك.

لم نسمع أبدا في التاريخ المعاصر رئيسا يكتب دستورا لنفسه بنفسه، ويفرضه على الناس، ورغم مقاطعتهم الشديدة، فهو يعيش حالةً من الإنكار، ويواصل مسارا لا شرعيّة ولا مشروعيّة له، على الإطلاق.

وصفت هذا الانقلاب بـ"الغريب".. أيمكن القول إنه كان مخطّطا له؟

في تقديري، التقت الدولة العميقة في تونس، من مؤسسات أمنية ومخابراتية، مع رغبة إقليمية ودولية غير مرتاحة لنموذج تونسي فيه انتخابات حرّة، وبرلمان يحاسب ويصوّت، وتداول سلميّ على السلطة، فعملوا على إجهاض هذه التجربة، للأسف.

كيف تقرأ الموقف الفرنسيّ إزاء التطورات السياسية في تونس؟

أراه موقفا مخاتلا، حتى لا أقول متواطئا، وهذا ستدفع ثمنه فرنسا باهظا، في المستقبل؛ لأنه يُفترض أن الدولة الفرنسية تراهن على مسار تاريخي أفضل لتونس، وليس على الاستبداد، مثلما راهنت على بورقيبة وبنعلي. المرة القادمة التي سيحصل فيها تغيير في تونس، ستأتي نخبة تونسية ربّما تراجع العلاقات مع فرنسا مراجعة جذريّة.

ما رأيك في خروج تونس مع قيس سعيّد من منطقة الحياد، بخصوص قضية الصحراء المغربيّة؟

هذا خطأ كارثيّ بالنسبة للدبلوماسية التونسية، أن تقحم نفسك في هذا الصراع المؤسف، وتميل إلى الكفة الجزائرية على حساب الكفة المغربية، بعد أن كنت على مسافة واحدة من جميع الأطراف.

هل كان موقفا متوقّعا بالنسبة لك؟

لا، لم يكن موقفا متوقّعا. أعتقد أن حسابات قيس سعيّد الإقليمية وعلاقاته مع الجزائر جعلته يُقدم على خطوة من هذا القبيل ستدفع ثمنها تونس غاليا، للأسف.

كانت هناك أيضا، تصريحات عنصريّة لقيس سعيّد اتجاه المهاجرين، إلى أي درجة يضرّ ذلك بسياسة تونس الخارجية؟

تصريحاته كانت كارثة أكبر. تونس حاليا في حالة من العزلة، تونس تقريبا الآن لا صديق لها، لا في العمق الإفريقي ولا العربي، كما أن علاقاتها ليست بالطيبة، لا مع أمريكا ولا مع أوروبا. قيس سعيّد جعلنا دولة، إلى حدّ ما، منبوذة، وهذا مؤلم.

بالحديث عن سياسة تونس الخارجية.. ما رأيك في عزم قيس سعيّد إعادة فتح سفارة البلد في دمشق؟

ونحن نتحدّث عما هو متوقّع وغير متوقّع، هذه الخطوة كانت متوقّعة؛ لأن الأحزاب المؤيدة لقيس سعيّد المحدودة والمجهرية، يسارية وقومية، هي أحزاب مُعجبة ببشار الأسد، وهي التي دفعته إلى أن يعيد العلاقات مع سوريا.

إنها لمفارقة رهيبة أن يكون قيس سعيّد مُعجبا بالثّورات العربيّة وبالإطاحة ببنعلي، وفي نفس الوقت، يؤيّد الأسد!

في ظلّ كل ما يحدث، هل تونس الآن في حاجة إلى ربيع عربيّ جديد؟

أظنّ أن تونس لا يمكن لها أن تبقى على هذا الحال، وإن ظلّت عليه، فيا خيبة المسعى!

تونس اليوم في حكم استبدادي واعتباطي لم تعرفه لا مع بورقيبة ولا بنعلي، وإذا استمرت الضائقة الاقتصادية، وهي مستمرّة، من غلاء معيشة، وغياب أدوية، ومواد أساسية، إلخ، سنشهد ما يصفه البعض بـ"ثورة جياع" ستخرج. وإن خرجت، ستكون سيئة جدا؛ لأنها ستخرج بغضب كبير، وبدون رؤية سياسية، وستحاول تحطيم كل شيء. وقتها، كيف يُمكن أن ننطلق بعد ذلك في بناء سياسي جديد، بعد خراب كامل مؤسساتي ومعيشي؟ هذه مسألة صعبة جدّا.