أكد إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي، أن المغرب وفرنسا سيستفيدان معا من الموقف الفرنسي حيال ملف الصحراء، مسجلا أنه لا مكان في العلاقات الدولية للمواقف المجانية.
وأضاف لكريني، في حوار خص به "تيلكيل عربي"، أن فرنسا ورطت الجزائر، بشكل غير مباشر، حينما أشعرتها بموقفها، قبل الإعلان عنه رسميا.
كما تطرق أستاذ العلاقات الدولية إلى سبب إسقاط رسالة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من خطاب العرش، وزيارة هذا الأخير إلى المغرب.
لماذا تغير الموقف الفرنسي حيال ملف الصحراء؟
أعتقد أن الموقف الفرنسي بخصوص اعتبار أن حاضر ومستقبل الصحراء يندرجان في إطار السيادة المغربية ليس نشازا في السياق الذي يعرفه الملف.
أولا، نظرا إلى قرارات مجلس الأمن بهذا الخصوص، والتي أصبحت تحمل نفسا جديدا يستوعب الجهود التي قام بها المغرب، خصوصا فيما يتعلق بطرح مشروع الحكم الذاتي، حيث لم تعد تتحدث عن الاستفتاء، وإنما عن حل واقعي ومتوافق عليه. وثانيا، لأنه يستحضر الدور الجزائري. وثالثا، بسبب الأمن والاستقرار الذي تعيشه منطقة الأقاليم الجنوبية.
لا يمكن أن نقرأ الموقف الفرنسي إلا في ضوء المواقف الغربية التي طرحتها كل من إسبانيا وأمريكا، كما يمكن أن نستوعبه في سياق تزايد القناعات الدولية بأن الخيارات الانفصالية هي خيارات مكلفة، ولا تفضي، بالضرورة، إلى حلول مستدامة، علما بأن المغرب طرح، أيضا، مشروع الحكم الذاتي، وهو مشروع واعد ومتقدم، يوازن بين خياري الاستقلال والسيادة المغربية، فضلا عن كونه خيارا يتيح للساكنة تدبير شؤونها، بصورة ديمقراطية.
أمر آخر لا يمكننا أن ننفيه، هو تحرك الدبلوماسية المغربية، خلال السنوات الأخيرة، بحيث أصبح يأخذ، بعين الاعتبار، إرساء شراكات متوازنة تأخد مصالح المغرب في شموليتها، وليس بصورة انتقائية. وهنا أشير إلى تأكيد الملك محمد السادس، في كثير من المناسبات، خلال خطب ملكية، على أنه يقيس شراكات المغرب وعلاقاته الخارجية بناء على موقف الدول من قضية الصحراء.
ويمكننا أن نقرأ الموقف الفرنسي في ضوء كل هذه التحولات، التي استطاع معها المغرب، في آخر المطاف، أن يحول الأزمة الدبلوماسية الصامتة بينه وبين فرنسا إلى فرصة، مثلما كان الشأن بالنسبة للعلاقات المغربية الإسبانية، مع وعي الطرف الفرنسي بأهمية شريك وحليف استراتيجي وموثوق فيه، والذي قدم مقترحا واقعيا وجديا في ملف الصحراء.
السياسة مع فرنسا دائما ما تحكمها المصالح.. ما الذي سيستفيده المغرب من الاعتراف؟ وما الذي ستستفيده فرنسا؟
بكل تأكيد، لا مكان في العلاقات الدولية للمواقف المجانية. دائما هناك مصالح وأهداف استراتيجية. والمغرب، علاوة على كونه مسلحا بقوة دفوعاته التاريخية والقانونية بشأن قضية الصحراء المغربية، فهو أيضا يمثل شريكا موثوقا به بالنسبة لفرنسا.
سيستفيد المغرب من هذا الاعتراف الكثير، وخصوصا فيما يتعلق بمسار قضية الصحراء، على اعتبار أن فرنسا هي عضو دائم في مجلس الأمن، الذي يستأثر، بشكل أساسي، بتدبير ملف النزاع، ما يعني أن قراراته ستتخذ طابعا آخر فيه لغة جديدة، إيمانا بإيجابية وواقعية مشروع الحكم الذاتي.
وبالإضافة إلى ذلك، لا ننسى وزن فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي، الذي يمكن أن تسخره في خدمة الموقف المغربي، ومواجهة بعض الطروحات التي تسيء للمملكة، تارة باسم حقوق الإنسان، وتارة أخرى باسم الثروات الطبيعية، والتي بدأت تبرز من خلال المحكمة الأوروبية، أو من خلال البرلمان الأوروبي.
كما أعتقد أن الموقف الفرنسي سيدفع مجموعة من الدول، التي تأخذ مسافة أو لا تزال مترددة، إلى اتخاذ المبادرة والتموقع، بشكل واضح، إلى جانب الصف المغربي.
أما من جانب فرنسا، فسيتيح لها هذا الموقف الاستمرار في تعميق شراكاتها مع المغرب، بالنظر إلى الفرص الاستثمارية الكبيرة التي تختزنها الأقاليم الجنوبية، لا على مستوى الطاقة، أو على مستوى الاستثمارات والبنى التحتية التي أطلقها المغرب، وخصوصا أنه يسعى إلى جعل هذه الأقاليم بوابة انفتاح على إفريقيا، بالإضافة إلى المشاريع الضخمة التي أطلقها المغرب على مستوى المبادرة الأطلسية، والتي بإمكانها إغراء الطرف الفرنسي.
المصالح ليست وليدة اللحظة، بل هي حاضرة منذ زمن.. فما الذي دفع فرنسا إلى اتخاذ الموقف الآن وليس سابقا؟
أولا، المغرب أعلن، قبل بضع سنوات، بصورة واضحة، أنه لن يقبل شراكات مختلة أو انتقائية، شراكات تستحضر البعد الاقتصادي وتنفي مصالح استراتيجية أخرى للمغرب.
وبالتالي، فإن الأزمة الصامتة التي دخلت فيها العلاقات المغربية الفرنسية، خلال السنوات الأخيرة، والتي دامت لعدة أشهر، كانت كفيلة بجعل الطرف الفرنسي يستوعب جدية الخيار المغربي، وأن مغرب الأمس ليس هو مغرب اليوم، كونه حقق مجموعة من المكتسبات، وأصبح له وزن إقليمي، فضلا عن امتلاكه لمجموعة من نقاط القوة، التي تعكسها شراكاته المتوازنة مع الولايات المتحدة والصين وإفريقيا، حيث بات يجد معها خيارات أخرى للمناورة، علما أنه ربما كانت فرنسا، في السابق، تستأثر بمكانة محورية في هذه الشراكات.
ويمكن القول إن المغرب، اليوم، ورغم محافظته على علاقاته الاقتصادية التقليدية مع بعض القوى بالاتحاد الأوروبي، أو في إطار ثنائي مع إسبانيا وفرنسا، إلا أنه فتح قنوات أخرى في الدوائر الإفريقية، والعربية، والدائرتين الصينية والروسية، وفي أمريكا اللاتينية أيضا، الشيء الذي جعله يشعر بنوع من الارتياح، عندما رفع أمام فرنسا الخطاب الداعي إلى إرساء علاقات متوازنة.
ثم لا ننسى أنه ربما حتى خروج أمريكا بموقفها الشجاع، من خلال البيان الرئاسي للرئيس السابق، دونالد ترامب، وخروج إسبانيا، كدولة جارة ولها علاقة بهذا النزاع تاريخيا، بموقف صارم وواضح أزعج الجزائر، كل هذا جعل فرنسا، اليوم، تجد نفسها أمام سوابق.
هل الضغط هو ما كان يحتاجه المغرب لانتزاع هذا الاعتراف؟
نعم. فالموقف الفرنسي كان غير واضح، بحيث لا يدعم أي طرف في الحقيقة. كان نوعا ما معتدلا.
ما رأيك في رد الفعل الجزائري على موقف الحكومة الفرنسية؟
فرنسا دولة مستقلة، وتتصرف بشكل سيادي. هي أشعرت الجزائر، لوعيها واقتناعها بأن هذه الأخيرة تجعل من الدفاع عن البوليساريو أحد مرتكزات سياستها الخارجية، وتلعب دورا في النزاع، رغم محاولتها إخفاء أو إعطاء الانطباع بأنها غير معنية بالنزاع.
فرنسا ورطت الجزائر، وإن كان بشكل غير مباشر، لأن هذه الأخيرة أعلنت، يوم أمس الثلاثاء، عن سحب سفيرها فورا من باريس.
إذن، فالأمر لم يتوقف عند رد، عندما أشعرت الجزائر بهذا الاختيار الفرنسي، ولكن الأمر وصل إلى حد استدعاء السفير، وهو ما وقع مع إسبانيا سابقا.
كل هذه سوابق تبرز أن الجزائر، كما أقر بذلك مجلس الأمن، معنية، بشكل مباشر، بهذا النزاع المفتعل، وبأن الحل يكمن عندها وليس عند أي طرف.
و لا توجد أي جهة أو أي دولة تحركت، بشكل رسمي، باستثنائها، وهو ما يؤكد أن الجزائر هي البوليساريو. الأمر بات واضحا.
الجزائر، اليوم، تجازف بعلاقاتها، من خلال هذا السلوك "الأرعن" مع فرنسا، وقبله كان موقف مماثل مع إسبانيا، فضلا عن إعلانها للقطيعة مع المغرب، من جانب واحد، وبحثها عن مغرب كبير، بعيدا عن المملكة المغربية، أو محاولتها إطلاق ردود أفعال يمكن أن نعتبرها مفلسة أو غير محسوبة. إنها تحكم على نفسها بالعزلة. هي لا تسيء للمغرب أو فرنسا أو إسبانيا، بقدر ما تسيء لنفسها.
أعتقد أن هناك أصواتا ونخبا عاقلة في الجزائر عليها أن تدفع باتجاه تجاوز السياسة الخارجية المبنية على ردود الفعل، والتي تكلف الجزائر هدر إمكانياتها، بل ورهن مستقبل الشعوب المغاربية بمصير مليء بالصراعات، في حين أنها تتجاوز الخيار البناء المرتبط بدعم جهود الأمم المتحدة، والانخراط في هذه الدينامية الدولية، في سياق البحث عن حل حقيقي ومستدام لهذا النزاع، في إطار مشروع الحكم الذاتي.
في الأعراف الدبلوماسية، هل كان من الطبيعي أن تخبر فرنسا الجزائر بموقفها؟
إنه أمر عادي جدا.
سألتني سابقا عن سبب تأخر فرنسا في إعلان موقفها. إنه راجع، في جزء كبير منه، إلى الضغوط الجزائرية، تارة الضغوطات، وتارة الإغراءات الجزائرية، فيما يتعلق بتأخير هذا الاعتراف.
هذه هي السياسة الخارجية الجزائرية. فعوض أن تنكب على الدفاع عن قضايا الجزائر الحقيقية، فيما يتعلق بجلب الاستثمارات، واستثمار الإمكانيات المتاحة، خدمة للشعب الجزائري، فهي تحاول أن تنفق هذه الإمكانيات في سبيل الدفاع عن خيار بات مفلسا. فلا أحد يتحمس، اليوم، للخيارات الانفصالية، سواء في أوروبا، أو آسيا، أو إفريقيا، وحتى في أمريكا.
كان هناك إشعار، ولم يكن إشعارا كاذبا، وتم اختيار مناسبة عيد العرش لإصدار بلاغ الديوان الملكي، والذي يؤكد أن الأمر جدي، وأن فرنسا لا تلعب.
تكلمت عن إغراءات جزائرية لفرنسا.. هل تخلت عنها مقابل مصالح أكبر مع المغرب؟
الدول المتقدمة لا تقيس المصالح، أو ما نسميه بمعيار الربح والخسارة، برؤية تقليدية وآنية، بل برؤية مستقبلية استشرافية.
فالمغرب بلد مستقر، وعمره أكثر من 12 قرنا، وقام بإصلاحات وازنة على جميع الأصعدة، في حين أن الجزائر دولة لا يمكن المراهنة على مصالح استراتيجية معها، لأن النظام، وكما يعرف الجميع، هش، ولا يدخل الجزائر سوى في متاهات.
وحتى تدبير قضية الصحراء المغربية بالمنظور الجزائري، يأتي في سياق الاشتغال بمنطق الإدارة بالأزمات، يعني محاولة إيهام الجزائريين بأن هناك عدو يتربص بالجزائر، وهو المسؤول عن كل مشاكلها الداخلية والخارجية.
منطق الإدارة بالأزمات أفلس، اليوم، لأن الجزائريين يطرحون أسئلة حقيقية، يتم إقبارها، من خلال عدو خارجي.
الجزائريون يتساءلون: "لماذا لم تحقق الجزائر الرفاه لمواطنيها، كما حققته دول نفطية، كالسعودية وقطر والإمارات وسلطنة عمان والكويت؟ لماذا مازال الشباب الجزائري يهاجر بطريقة غير شرعية؟ لماذا مازال دخل المواطن الجزائري دون المستوى؟ ولماذا تهاجر الكثير من الكفاءات الجزائرية إلى الخارج؟
هذا الأمر يعني حتى المغرب بالطبع، لكن المغرب لا يتوفر ولو على جزء يسير من الإمكانيات النفطية المتوفرة للجزائر.
لم تعد تنطلي على الشباب الجزائري حيل النظام، بعدما لم تعد تنطلي عليه حيلة الشرعية التاريخية للذين يستأثرون أو يبسطون سيطرتهم على زمام الحكم في الجزائر، أو الحيلة المرتبطة بالتخويف من العشرية السوداء.
وهنا، أعود إلى الفرق بين المغرب والجزائر. فرنسا تعي بأن المملكة تنظر إلى المستقبل.
لكنها تأخرت لكي تعي ذلك؟
تأخرت، لأن الأمر مرتبط، كذلك، بالمرافعات المغربية، في حين أن الجزائر مازالت مرتبطة بالماضي أكثر مما تستشرف المستقبل. والدليل على ذلك، أن الأحزاب تبدو أنها تحكم، إلا أن الحاكم الفعلي هو الجيش.
يبدو أن حياة النظام الجزائري مقترنة بوجود تعقيدات في المنطقة المغربية. فكلما صفت الأمور وحسمت النزاعات، إلا وقصر عمره، وهو ما وعت به وفرنسا، لا يمكن الدخول في شراكة مع نظام لا مستقبل له، أو يبدو مستقبله غامضا.
لماذا أسقطت رسالة ماكرون من خطاب العرش؟
أولا، عندما نتحدث عن الخطب الملكية، فهي وسيلة للتواصل مع الفاعلين، والشعب، والمحيط الدولي. والمؤسسة الملكية، لا على مستوى تدبير الشأن الداخلي أو الخارجي، تستأثر بصلاحيات دستورية وازنة، واختيار لحظة إعلان الموقف الفرنسي تبرز حرص المغرب على تقديم هذا القرار الهام بهذا الشكل، وفي هذه المناسبة.
الرسالة أرسلت إلى الملك محمد السادس، وهو من اختار هذه اللحظة. هناك إمكانية أنه توصل بها قبل ذلك، خصوصا ونحن نستحضر إعلان الجزائر للأمر. لكن لرئيس الدولة اختياراته، والمناسبة شرط.
في الأعراف الدبلوماسية، هل يتم نشر الرسالة الأصلية؟
نعم، لكن المضامين نشرت في بلاغ الديوان الملكي.
البلاغ طرح جميع العناصر الأساسية، لدرجة أنه حافظ حتى على صيغة "الصحراء الغربية"، كما جاءت في بداية رسالة ماكرون.
وحسب الأعراف، قد تنشر الرسالة كاملة، أو قد تنشر مضامينها فقط، نظرا إلى أن بعض الرسائل الدبلوماسية تحمل بعض البروتوكولات المرتبطة بالتحية، أو الحديث عن العلاقات التاريخية بين البلدين، وهو الأمر الذي قد يطول.
كما يمكن أن تتضمن الحديث عن إبرام الاتفاقيات...
أو قد تتضمن موعد زيارة ماكرون للمغرب، مثلا؟
من الممكن ذلك. فالرئيس الجزائري ألغى زيارته إلى فرنسا، وغالبا ما ستكون هناك زيارة لماكرون إلى المملكة. وموقف الدولة الفرنسية يؤسس، الآن، لبداية علاقات متينة وطيبة معنا.