يعتبر النائب السابق لرئيس حركة النهضة التونسية، عبد الحميد الجلاصي أحد أبرز قيادات الحركة ومنظريها. ويرتقب أن "يسقط" زعامة راشد الغنوشي ويتربع على رأس الحركة.
الجلاصي الذي قضى في سجون بن علي 17 سنة، وفقد فيه نبرة صوته بكثرة التعذيب، كان منسقا عاما للحركة ونائب رئيسها في سنة 2014، والمسؤول عن التخطيط والتفكير الاستراتيجي لها.
القيادي اختار التخلي عن مهامه في المكتب التنفيذي، لاعتبارات يقول إنها "شخصية وحركية"، وهو الآن عضو بمجلس الشورى الذي يعتبر كسلطة موازية للمكتب التنفيذي، حيث يركز على الجانب التشريعي والرقابي للحركة.
في هذا الحوار (بجزأيه) ، يكشف عبد الحميد الجلاصي لـ "تيل كيل عربي"، كواليس حركة النهضة ومساهمتها في اندلاع الثورة، واستفادتها منها. كما يوضح القيادي مرجعتهم الإسلامية وعلاقتهم بالتشدد وبالأطياف السياسية والعلمانية بتونس، فضلا عن سيناريوهات انشقاق الحركة، وانتخاب رئيسها المقبل في سنة 2020.
كيف تلخص تجربة حركة النهضة قبل الثورة التونسية ؟
لا بد من قراءة هادئة للأمور، فالثورة ليست حدثا عابرا. وقوعها كان مفاجئا، إذ إن استطلاعات الرأي ومراكز الدراسات والمتخصصين في شهر أكتوبر من سنة 2010 لم يكونوا يتوقعون أن تحصل بمنطقتنا أي ثورة.
الدولة التونسية في فترتي بورقيبة وبن علي كانت دولة متفردة وقامعة، وبالتالي تداولت الأطياف السياسية على السجون وجربتها؛ بما فيهم؛ طلبة، نقابيون، سياسيون.. وغيرهم. ومورس أيضا ما يسمى بالحيف الاجتماعي؛ وبالتالي لم تعد الدولة قادرة على تمثيل مواطنيها لا سياسيا ولا اجتماعيا.
النهضة في ظل هذا الوضع، كانت مساهمة بالمعنى السلبي، إن صح القول؛ أي أن الآلاف منا كانوا في السجون أو في المنفى. بعد فترة التسعينات، الأعضاء كانوا يتحركون في دوائر مختلفة خارج تونس. والسجين السياسي لم يكن معتقلا لوحده، بل كنا عائلة جماعية منتشرة في البلاد.
انخرطنا في الحراك الحقوقي في المهجر وداخل البلاد، ودخلنا أيضا في الحراك الإعلامي. وما قلب الموازنة في البلد هو كسر الاحتكار الإعلامي والفضائي؛ إذ أعطت قناة الجزيرة مع بدايتها، بعدا آخر للمنفيين والصامتين، ولم تستطع السلطة التونسية أن تبني جدارا عازلا بينها وبين الشعب.
شاهد الشعب من خلال هذا الإعلام الجديد، حركة النهضة موجودة في السجون ومقموعة، وظلت حاضرة كضمير مقموع عبر سنوات.
لم يكن قبل الثورة أي تنظيم للنهضة داخل المجتمع، كان لنا تنظيم قيادي نخبوي فقط
وكيف ساهمت النهضة في الثورة ؟
أثناء وقوع الاحتجاجات كان الناس متعطشون للراي الآخر وللاتجاه المعاكس، لذا وجدت النهضة، نفسها كخميرة للثورة، بالمعنى الاجتماعي. لكن ليس معناه هذا أننا سبب شرارة الثورة، بل كنا مشاركين في الاحتجاجات مع عامة الشعب.
وللتدقيق أكثر بشكل صريح، لم يكن قبل الثورة أي تنظيم للنهضة داخل المجتمع، كان لنا تنظيم قيادي نخبوي فقط. وعند وقوع الثورة والاحتجاجات، أي قبل 14 يناير (سقوط بن علي)، انخرط الجميع بشكل عفوي. لكن في سنة 2011 سارعت النهضة بالتشكل والتهيكل، وسارعت بتوجيه الشارع، وبمحاولة ضبط وتحديد الأسقف السياسية، لتحديد وجهة الحراك الاحتجاجي.
وبعد الثورة أعدنا بسرعة خارطة تنظيم أنفسنا، فأصبحنا منخرطين في الشأن السياسي.
مع هذه الارتجالية، ورغم وصولكم للسلطة بعد ذلك، ألا ترى أنكم وجدتم أنفسكم منخرطين بشكل فجائي مع أطياف أخرى، من دون تجربة، وبالتالي أثر هذا في "سوء" تدبيركم للحكم ؟
في هذا الكلام جانب من الحقيقية، لكن يحتاج إلى تدقيق أكثر؛ فمن حيث كنا بدون تجربة؛ نعم كنا غير مؤهلين. لكن لا تنسى أنه لا نحن ولا غيرنا كان مؤهلا. فقبل الثورة لم تكن هناك حياة سياسية ومعارضة، والفرق واضح. المعارضة في الحياة السياسية هي أحزاب وكيانات لها نفس الحقوق التي لللأحزاب التي تحكم، تحضّر حكومات في الظل، احتياطا لأزمة سياسية أو استعدادا لانتخابات تجد نفسها مستعدة لتدبير البلد بسلاسة.
بعد الثورة.. كنا بدون تجربة وغير مؤهلين. لكن لا تنسى أنه لا نحن ولا غيرنا كان مؤهلا.
لكن للأسف لم تكن هذه المعارضة موجودة ما قبل الثورة. كان لدينا في تونس حزب تابع للسلطة، بشكل إداري أكثر وتوغل في أجهزة الدولة، وتقوم السلطة بصنع حزيبات (تصغير حزب) حوله. أما باقي الأطراف، فهي بين سجين وبين باحث عن الحد السياسي الأدني الذي يتنافسون به.
ما قبل 14 يناير، لم يكن الجميع مهيئا للحكم، ولم تكن برامج ولا إدارات ولا أشخاص جاهزين. في المغرب أنتم متقدمون عنا من هذه الناحية، إذ تمتازون بتجربة في الانتخابات البرلمانية والجماعية، سيما بعد تجربة التناوب. وبالتالي لما وصلت إشعاعات الربيع العربي إليكم، وجدت بعض الأحزاب عندكم (بما فيهم الإسلاميون) على الأقل، تمتاز بالخبرة السياسية.
النهضة وجدت نفسها مضطرة أن تنتقل من ثقافة الاحتجاج والاعتراض، إلى ثقافة البناء والمساهمة، وهي ثقافة جديدة علينا. نحن حركة اجتماعية بالأساس.
كيف كانت علاقتكم مع باقي الأطياف العلمانية واليسارية، وهل حاولتم التحكم في سفينة التحالفات ؟
في انتخابات 2011، فزنا بأغلبية، لكن لم تكن النتائج تخولنا الحكم لوحدنا، لذلك اخترنا من حينها الانفتاح، على حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل. كنا مدركين أن المرحلة لا يمكن أن يحكمها حزب لوحده.
وجوابا على سؤال التأثير على التحالف، أظن أن النخب السياسية في تلك الفترة لم تكن بالنضج الكافي لإدارة مرحلة ما بعد الثورة. في 2005 في عهد الاستبداد توافقنا على تحالف "18 أكتوبر" للحقوق والحريات، وقلنا لنترك الجوانب الأيديولوجية جانبا ولنتفق على المهام الأساسية التي تضمن حرية التعبير والتنظيم. وفي نفس الوقت أدرنا نقاشات بين المكونات اليسارية والعلمانية والإسلامية، حول حرية الضمير والتدين والمعتقد.
كنا نعتمد في النهضة على هذه الأرضية التوافقية ، لكن للأسف الشديد اليسار التونسي فوت على نفسه بعد الثورة أن يكون يسارا اجتماعيا وتحول إلى يسار ايديولوجي. كنا متضررين من الاستبداد نحن الاثنين ويجمعنا التوق للحرية والعدالة الاجتماعية، لكنه أعاد فتح نقاشات وافتعل مجموعة من القضايا، كعلاقة الدين بالدولة وغيرها.
لكن تم اتهامكم بأنكم تلعبون على الوترين، أي حاولتم التقرب، في نفس الوقت، من التيارات الإسلامية المتشددة؟
أنا لا أنزه حركة النهضة، فهي لم تقم بمجهود لتطمئن الجميع، سيما بعد خروجها من نطاق المظلومية وظهورها إلى الساحة. لذا تخوفت الأطياف الأخرى من أن تلتقي النهضة مع الأطراف الإسلامية المتشددة، ولم نبذل جهدا في التمايز مع الغلاة في الساحة الدينية. ورغم أن التيار الإسلامي المتشدد لم يكن يعترف بالديمقراطية وبالانتخابات، رأى البعض منا أن استدراجهم للعبة السياسية لمربع السلمية والوسطية، من خلال الحوار معهم، لكن هذا الأمر أوجد نوعا من الالتباس لدى الجميع تجاه خطاب النهضة.
لم تقم النهضة بمجهود لتطمئن الجميع، سيما بعد خروجها من نطاق المظلومية وظهورها إلى الساحة. لذا تخوفت الأطياف الأخرى من أن تلتقي النهضة مع الأطراف الإسلامية المتشددة.
بعض الدعاة جاؤوا من المشرق وتحدثوا عن قضايا بعيدة عن المزاج التونسي الديني، فلم يطمئن هذا شركاءنا وأعطى انطباعا بكونه نوعا من التغول. وبالتالي لم نتمايز في الوقت الكافي وبالقدر المناسب مع باقي المكونات الدينية الأخرى.
في فترة حكمكم، ساد تخوف من أن توظيفكم للمرجعية الدينية، شكل خطرا على مكتسبات الحرية في تونس؟
عندما دخلنا الانتخابات دخلنا ببرنامج سياسي محض، في التعليم والصحة والتشغيل.. المرجعية الفكرية في البرامج السياسية تصبح خلفية فقط، نحن لا نقول للناس إذا صوتم علينا ستدخلون الجنة، ولم نقم بالتبشير. مثلا مطلب العدالة الاجتماعية في البرامج السياسية، يمكن أن تجد له مبررات. لكن بالنسبة للناخب كمستهلك للبضاعة السياسية يهمه المنتوج، أي نسبة النمو والبطالة.. بغض النظر عن المرجعية.
بعض الأوساط إما تتخوف أو تخوّف، وهذا خطأ النخبة التونسية. فبعد الثورة عادت الشيطنة وقيل بأننا سنجعل المرأة في المنزل ونبيح تعدد النساء، هذا كله لا أساس له من الصحة.
نقطة أخرى أشير إليها وهي أساسية: يتصور البعض أنه يمكن لحزب ما أن يتستر ويستولي على السلطة ثم على المكتسبات، في المجتمعات المعاصرة التي تشهد فورة إعلامية. حسب ما علمنا التاريخ؛ الحرية وعبر مسارات تاريخية، لا يمكن للدولة ولا العسكر وللتكنولوجيا أن تسيطر عليها. إذن لا خوف على موضوع الديمقراطية والحريات.
التقدم العلمي و(والمعلوماتي) المتسارع، سيساهم في ترسيخ صيغ أخرى لتعميق الديمقراطية، وليس للتراجع عنها، سواء حكم من لهم مرجعية إسلامية او علمانية، فالامر سيان.
يتبع.. (الجزء الثاني)