كمال داود، كاتب جزائري معروف بانتقاداته اللاذعة لنظام بوتفليقة. في هذا الحوار- الذي أجري معه قبل إعلان رئيس أركان الجيش الجزائري، الجنرال أحمد قايد صالح، عن إمكانية تطبيق الفصل 102 من الدستور الجزائري الذي يتحدث عن شغور المنصب الرئاسي- يبسط رأيه في الاحتجاجات الجزائرية ومآلها المحتمل والمخاطر التي تحدق بها.
بعد تأجيل الانتخابات الرئاسية والإعلان عن مؤتمر وطني، واصل المتظاهرون بالجزائر النزول إلى الشارع بالملايين، هل وصل النظام إلى الباب المسدود؟
نعم. ولكنه يواجه الباب المسدود بسوء نية، لأن أمامه أوراق أخرى أكثر حساسية. ففي 1990، لما كان الهدف هو إقالة الرئيس الشاذلي بنجديد، بعد انتفاضة أكتوبر 1988، لم يتردد النظام في تطبيق الدستور بكل بساطة، أي حل غرفتي البرلمان، استقالة الرئيس وتنظيم انتخابات جديدة في الآجال المحددة من طرف ذلك الدستور. هذه المرة، يريدون تمديد ولاية بوتفليقة بأي ثمن، وهذا ما كان دائما يعتمل في أذهانهم. منذ البداية، منذ حوالي ستة أشهر، كانت هناك مناورات لتأجيل الانتخابات والحصول على تمديد للولاية الحالية، وهذا لعدة أسباب: أولا، بوتفليقة يريد، حسب السردية السياسية الجزائرية، أن يموت رئيسا. ثانيا، الإعداد لانتقال يناسبهم يأخذ وقتا طويلا، ولا يرغبون في الانخراط في انتقال قد يشكل قطيعة لا تكون في صالحهم بتاتا. فهم مازالوا يضعون يدهم على جهاز الدولة برمته ولا يريدون رفعها. وأعني هنا غرفتي البرلمان، النقابات، الأحزاب التي تدعمهم، وسائل الإعلام...
يوجد في أذهان العديد من الجزائريين حارس يقظ يتمثل في صدمة الحرب الأهلية. فعدد كبير منهم يحملون هذه الذكرى معهم لأنه عاشوها أو لأنها حيكت لهم، ويحاولون تجنب الوقوع في خطأ التسعينيات من القرن الماضي(...)
إن الطابع الحضاري للمظاهرات وغياب أعمال العنف يبعثان على الإعجاب. أليس هناك خطر انزلاق هذا الحراك في لحظة ما وخروجه عن هذا الطابع السلمي كما رأينا ذلك مع حركات احتجاجية مشابهة؟
هناك تهديدان حددهما الجزائريون. أولا، قيام النظم باحتواء الاحتجاجات عن طريق افتعال أعمال العنف والظهور بالتالي بمظهر الحكم والمدافع عن الأمن. وهذه وصفة قديمة تلجأ إليها الأنظمة وتقوم على افتعال الفوضى لفرض النظام.. نظامهم هم طبعا.
التهديد الثاني يتمثل في الإسلاميين. لحد اليوم يقال لا وجود لهم، ولكنهم في الواقع موجودون. هم يتربصون فقط. فالإسلاميون متعودون على انتظار انتصار الثورة قبل الإقدام على سرقتها. ونتابع منذ الآن مناوراتهم على الشبكات الاجتماعية، إذ شرعوا منذ الآن في العمل على خلع المصداقية عن الوجوه البارزة في المعارضة.. القادة الذين برزوا في الشارع.
في الأصل، هذا الحراك ولد بدونهم ومن المحتمل جدا أن يستمر من دونهم، وهم يسعون إلى نزع المصداقية عن هؤلاء القادة لاستعادة زمام الأمور.
في الواقع، التطورات رهينة بكل شيء وبلا شيء. إذ يكفي تفصيل صغير، أو حادث بسيط حتى ينقلب الوضع. ولكن يوجد في أذهان العديد من الجزائريين حارس يقظ يتمثل في صدمة الحرب الأهلية. فعدد كبير منهم يحملون هذه الذكرى معهم لأنه عاشوها أو لأنها حيكت لهم، ويحاولون تجنب الوقوع في خطأ التسعينيات من القرن الماضي(...)
أعتقد أن رد فعل العديدين، رد فعل الحشود كما تقول، كان الهدف منه البرهنة على أننا لسنا بتلك الوحشية والبربرية التي أراد النظام دائما أن يصمنا بها. في هذا الحراك إذن رد على النظام وعلى الصور النمطية التي شكلها عن الجزائريين.
العامل الثالث يتجلى في الإنترنيت، الذي يسمح بتعبئة منظمة إلى حد ما مقارنة مع وسائل الضبط الأخرى. فإن كان هناك أدنى حادث وسط الحشود، تجد فوق رأسك المئات من الهواتف الذكية التي تنقل ما يجري. فهذا الجهاز يوفر نوعا من المراقبة.. المراقبة الذاتية.
الإسلاميون موجودون. هم يتربصون فقط. فالإسلاميون متعودون على انتظار انتصار الثورة قبل الإقدام على سرقتها
نجد بين المتظاهرين، قضاة وصحافيين يعملون بالقطب العمومي الجزائري. هل هذا يعني أن هيكل الدولة نفسه أخذ يتحلل؟
أعتقد أن الجزائريين يجمعون على شيء واحد: لا يريدون زوال الدولة بل نهاية النظام. يريدون الحفاظ على الدولة. لا يسعون إلى محو كل شيء على الطريقة العراقية أو الليبية.
ولكن يجب الإقرار بأن نظام بوتفليقة عرف كيف يفسد كل المؤسسات وكل الأجهزة. على غرار كل الديكتاتوريين، وضع رجاله في كل مكان: في النقابات، في وسائل الإعلام، وبالخصوص في جهاز القضاء.
ما يجري حاليا في الجزائر، ليس حراكا شعبيا فقط، بل كذلك حركة ضد التكتلات المصلحية.. ضد الهيمنة المفرطة للنظام على كل الأجهزة والمؤسسات. لهذا فأنا أعتقد أننا لسنا أمام انهيار للدولة بل انهيار منظومة الدولة العميقة كما يقال.
لسنا أمام انهيار للدولة بل انهيار منظومة الدولة العميقة كما يقال.
يبدو أن الكلمة الأخيرة ستكون للجيش. هل تظن ان عناصره ستختار الوقوف إلى جانب الشعب إن صدر الأمر بإطلاق النار على المتظاهرين؟
لا يمكن حقا التكهن بما سيقع بهذا الخصوص. وأنا أتحدث بناء على حدسي. وحسب ما رأيت وسمعت والمعطيات التي قارنت بعضها ببعض وربطت بعضها ببعض، فإن الجيش يعاني من نفس التقاطب بين الجيلين القديم والجديد، بين حكم الشيوخ وتطلعات الضباط الجدد. فرئيس الأركان (الجنرال احمد قايد صالح) يبلغ من العمر 85 سنة، ويوصف في الجزائر بأقدم جندي في العالم. وأعرف أن عمليات التطهير المتوالية أخلت الجيش من كل ضباطه الشباب بشكل منتظم، لأن الشيوخ لا يريدون بتاتا ظهور طبقة من أصحاب الرتب العسكرية الشباب الذين يمكنهم تسلم المشعل.
في تقديري، وحسبما ما رأيت من تطور في سلوك رجال الشرطة مع توالي الاحتجاجات، لا أعتقد أن الجيش سيصل إلى درجة إطلاق النار على حشود المتظاهرين. ولعل هذا من الأسباب التي جعلت النظام مترددا، ويساورني الظن أن النظام يعي جيدا ان إصدار الأمر بإطلاق النار على المحتجين، سينقلب عليه فورا.
صحيح أن الجيش يظل هو مفتاح المرحلة الانتقالية بالجزائر، لكنه المفتاح الخطأ. فإذا اعتمدنا عليه لتدبير هذه المرحلة الانتقالية، سنقع في الفخ وقد ننزلق إلى السيناريو المصري.
المطلوب اليوم هو ظهور قائد جديد، يكون مدنيا، يمكن أن يلتف حوله الضباط الجدد، مع بقائهم في الظل والتحلي بالانضباط اللازم ودعم القيادة الجديدة.
صحيح أن الجيش يظل هو مفتاح المرحلة الانتقالية بالجزائر، لكنه المفتاح الخطأ. فإذا اعتمدنا عليه لتدبير هذه المرحلة الانتقالية، سنقع في الفخ وقد ننزلق إلى السيناريو المصري.
هل توجد في الجزائر معارضة تتحلى بالمصداقية والقوة، وقادرة على قيادة البلاد، أو على الأقل قادرة على جعل الانتقال السياسي ممكنا؟
لقد قضت السلطة القائمة على المعارضة الحزبية، ولم تترك سوى بعض الدمى لتأثيث المشهد. اليوم هناك- في معارضة الشارع.. هذه المعارضة غير الحزبية- تلة من النساء والرجال القادرين على تدبير المرحلة الانتقالية، على الوقوف في الطليعة، على التفكير وترجمة شغف هذا الشعب، وكل هؤلاء الناس الذين يرفضون النظام.
ولكن يلزم تحقق بعض الشروط. أولا، على الناس في بلداننا – أتحدث هنا عن المغرب الكبير برمته- تعلم الوثوق في النخب، لأن لدينا قطيعة عميقة بين الطرفين. ثانيا يجب أن يظهر في النظام نفسه أصحاب النيات الحسنة الذين يقبلون بأن حقبة قد بلغت نهايتها وأنه من الضروري حدوث انتقال سلس يحفظ مصالحهم ومصالحنا. ولكن المشكل أن الأنظمة لا تسمح أبدا ببروز قيادات شرعية وقوية.
يخرج اليوم إلى الشارع ملايين الجزائريين للمطالبة بنفس الشيء. ولكن في ظل غياب قائد قادر على توحيد المحتجين حول أهداف مشتركة، كيف يمكن للحراك الحالي الحوار مع النظام لإنجاز المرحلة الانتقالية؟
يجب أن نعرف أولا أن النظام في بلادنا قد دمر الثقافة السياسية. فالسياسة كانت دوما حكرا على أجهزة هذا النظام. والناس في بلداننا يجهلون كيف تمارس السياسة لأنه لم يتجشم أحد عناء تعليمهم. في الستينيات، كانت النخب في المغرب والجزائر مسيسة أكثر من نخب اليوم وقادرة على تحليل الأوضاع التي تعيشها. لقد تم تجريدنا من الشأن السياسي، وهذا الأمر صحيح في الجزائر والمغرب وتونس.
وبات من الضروري والمستعجل تعلم السياسة من جديد، ولكن هذا لا يمكن أن يتم دون أداء الفاتورة اللازمة.
بالعودة إلى الحراك الحالي، فهو قوي لأنه لا يعرف له رأس، وإلا كان سيتم قطعها فورا. وهذا الوضع قد يشكل، في المدى المتوسط، ثغرة يمكن أن يتسلل منها العديد من الانتهازيين، من الإسلاميين... إلخ
إلى الآن، هذا الحراك ليس له قائد ولكن هناك شخصيات تستمد شرعيتها من معارضتها لبوتفليقة منذ الولاية الثانية أو الثالثة، وتتمتع بالمصداقية عند الناس. إنها شخصيات تحظى باهتمام الإعلام في الفضاءات التي يرتادها المثقفون والمناضلون والكتاب الذين ينخرطون في هذا الحراك الوطني اللائكي... وكما قلت لك سابقا، فالإسلامييون قد شرعوا منذ الآن في استهداف هذه الشخصيات على أمل الاستحواذ على القضية.
كانت النخب في المغرب والجزائر مسيسة أكثر من نخب اليوم وقادرة على تحليل الأوضاع التي تعيشها. لقد تم تجريدنا من الشأن السياسي، وهذا الأمر صحيح في الجزائر والمغرب وتونس.
في مقال لك ظهر مؤخرا على صفحات "لوموند"، تشير إلى ثورة "ثقيلة ومحفوفة بالمخاطر.. جميلة وطويلة الأمد". هل الجزائريون مستعد لمواجهة المجهول وتحويل حركتهم الاحتجاجية إلى ثورة؟
هذا ممكن لأن النظام لا يقوم بأي شيء يذكر. هذا النظام هو الذي يدفع الناس نحو التطرف بمحاولته إنهاكهم وبث اليأس فيهم. فالناس لا يرغبون في العودة إلى بيوتهم بأيد وقلوب فارغة. لحد الآن، أفلح الجزائريون في مقاومة الاستفزازات، وينظمون أنفسهم، ويخرجون في مسيرات حضارية رائعة. ولكن، كما تدري، لا يوجد نظام "لطيف"، بل هناك فقط أنظمة تحاول بكل الوسائل والطرق البقاء والاستمرار.
ترجمة عن "تيل كيل"