د. كمال القصير - مفكّر مغربي
أسمح لنفسي أن أخالف الجميع في القول: إننا إذا أعدنا قراءة أحداث العقد الماضي بهدوء، فسوف نرى أن الذي صنع التحول الأساسي في مسار الثورات العربية منذ البداية، لم يكن هبة الشعوب وانتفاضتها. بل كان التحول الأهم في قيام الرئيس التونسي بن علي بحركة غير متوقعة، بالتنازل عن الحكم والفرار.
وهو أمر أولا لم يعهده العقل والسلوك العربي، وثانيا كانت تلك الخطوة تحفيزا للناس للإيمان أن الأمر ممكن، وأن بالاستطاعة المضي إلى أكثر من ذلك. فكم يحرق الناس أنفسهم الآن، وكم يخرجون صارخين في الشوارع، دون أن يكون لذلك أثر في تونس أو في غيرها في الوقت الحالي.
لقد فعل الرئيس المصري حسني مبارك بعد مدة قصيرة الشيء نفسه، وقرر أيضا المغادرة. فكانت تلك الخطوة بالغة الأهمية في مزيد تحفيز المصريين والمنطقة، وإقناع الجميع بفكرة الممكن بشكل أكبر. ومن دون استحضار ما فعله كلا الرئيسين يصبح فهم الأحداث غامضا وبلا معنى. وعندما استمات الآخرون وقرروا البقاء واستئصال المعارضين والثائرين، انقلب الربيع عندهم إلى خريف، وأصبحت الأوضاع أسوأ مما يمكن تخيله.
فلم يتوقع الناس في سوريا وليبيا ما كانت تخفيه الأنظمة من شراسة غير محدودة، ولم يكن ذلك الممكن الذي ولد في المنطقة ممكنا في سوريا واليمن وغيرها.
قياس خاطئ على الربيع الماضي
هناك خسائر عديدة يمكن عدها في العقد الأخير الذي أعقب الثورات العربية، وهي الخسائر التي تجعل فكرة قيام ربيع آخر قريبا مجرد حلم. فلم تعد النخب الإسلامية والعلمانية تمتلك خطابا سياسيا وثقافيا قابلا للقياس والنقد، على غرار الخطاب المنتشر في المنطقة في مرحلة ما قبل الثورات. وبالمقابل تطورت موجة هائلة من الشعبوية على حساب الأفكار السياسية والثقافية، بما تنشره من موجة اللامبالاة، التي باتت مفهوما يتحدى باقي المفاهيم التحفيزية.
أما مجموعات أخرى فقد أصبح البرنامج السياسي والثقافي الوحيد الذي تمتلكه، فهو أن تخاطب الآخرين بالقول، أنظروا لقد فشلتم.
إنها للسخرية جملة تعبر عن مشروع سياسي متكامل وجذاب في نظرها. أما مجموعات أخرى فما زالت تعتقد أن تحالف الإسلاميين والعلمانيين في المنطقة، أو مجرد تفاهمهم بإمكانه إطلاق موجة تغيير جديدة.
إن هؤلاء لا يدركون أن الديمقراطية في المنطقة لا تخدم العلمانيين بتاتا، وأن هذا الأمر سيجعلهم في كل لحظة على استعداد تام لنسف أي تحالف مع الإسلاميين، الذين لا يعتبرون أنفسهم حالة مؤقتة أو عابرة في المنطقة. والتحالف بين الجانبين لا يقدم حاليا أي قاعدة لنشوء خطاب أو حالة سياسية جديدة.
لا شك أن مقعدا فارغا ينتظر أن يتم ملؤه في المنطقة، وما أستطيع قوله هو أن لا الإسلاميين ولا العلمانيين الحاليين مؤهلون لملء الفراغ.
وقد نسي من يراهن على العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين، أن هاته العلاقة لم تعد محددا أساسيا لتصور مستقبل المنطقة. فكلا الفريقين لا يملك مشروعا تنمويا أو مجتمعيا أو فكريا، بعد أن فقدا أيضا فاعلية أيديولوجيتهما.
التوقعات السياسية
القياس على ما مضى في التاريخ لا يكون دائما صحيحا، والتوقعات السياسية للعقود المقبلة في الغالب ستكون خاطئة، بسبب طبيعة حركة التاريخ التي تؤدي إلى حدوث طفرات مفاجئة. وربما لا يحتاج المستقبل أيّا منا، من الموجودين والمتحدثين في الوقت الحالي.
أما السيناريو الوحيد الصحيح فهو أن الواقع سيكون مغايرا. ويحدث في الغالب أن الناس يتوقعون موجات احتجاج كبيرة ضد الأوضاع في المنطقة، لكنهم لا يتخيلون سيناريو آخر، مثل أن تقوم بعض الأنظمة بخطوات نحو الإصلاح الذاتي.
والواقع أن الكثيرين لا يريدون لهذا السيناريو أن يكون هو المستقبل. وذلك ربما لاعتقادهم المفرط أن الإصلاح يمضي بالضرورة خطيا من الأسفل نحو الأعلى.
أما رأيي الشخصي فهو أن الإصلاح من فوق هو الأفضل والأسلم والأقل تكلفة والأكثر فاعلية وأثرا. وربما يعترض البعض أن هذا النمط من الإصلاح غير ممكن ونادر الحدوث. لكنني أقول أنه هو الوضع الطبيعي في الاجتماع العربي الإسلامي على مر التاريخ.
إن الإصلاحات الحقيقة في تاريخنا لم تنشأ من حركات مجتمعية أو ثورات سياسية وشعبية. بل هي تغيرات ذات طبيعة فوقية، بإرادة تتولد لدى الحكم للدفع نحو وجهة التغيير. والذي يقدمه لنا تاريخ المنطقة هو أن أهل السنة والجماعة في تتبع الخط البياني الخاص بسلوكهم، أنهم يسعون إلى الإصلاح الفوقي قدر المستطاع، لمن أراد أن يراجع في ذلك مواقف أعلامهم ومنظريهم على مر القرون.
لقد قدم كثير منهم بشكل فردي ضريبة هذا السعي نحو إصلاح الحاكم ونظامه، دون أن يحشر عموم المسلمين في عاقبة ذلك الأمر. وقام ابن تيمية عبد الحليم بوضع نفسه ثمنا مدفوعا لكل محاولاته إصلاح السلطان، كفرد من المسلمين عالم مجتهد متمكن. وكذلك فعل الإمام مالك والشافعي وأحمد من قبل، فقد قدموا أثمنة الإصلاح الفوقي بشكل فردي دون توسيع دائرة المحن والفتن على المسلمين.
إننا جميعا عندما نتوه في الطرقات نحتاج العودة إلى النقطة الأولى التي كنا فيها، لنعلم أننا موجودون في نقطة الانطلاق الصحيحة.
لا ينبغي على النخب أن تدفع باتجاه التغييرات الصفرية، التي تهدم المقدرات. وعلى من يتوقعون ربيعا عربيا آخر أن يجيبوا عن سؤال، ما الذي تبقى من المنطقة ليتم إحراقه بالمزيد؟
وأعود في أكثر من مرة إلى نموذج التحول في تركيا الذي لم يصل يوما إلى نقطة التدمير الذاتي للمقدرات. وفكرتي الأساسية هو أن المنطقة العربية مستقبلا لن تحرز تقدما من خلال الثورات، بل من خلال الإصلاح بتطوير مفهوم وأدوات الضغط. وعلى الأقل بإمكاننا أن نرى أن ماليزيا وأندونيسيا لم تمرا في تحولهما الكبير بثورات طاحنة.
مفهوم الضغط بديلا عن الثورة
إن أهم ما يمكن استنتاجه من أحداث العقد الماضي، هو أن الضغط المتواصل من أجل الإصلاح أسلم من الثورة، التي تهدم حتى الأساسيات التي كانت موجودة في السابق، فيقوم السعي من جديد لمجرد استعادة ما ضاع، دون الحديث عن تحصيل منافع جديدة. إن الأصوات الثورية ينبغي ألا تحسب حساباتها الخاصة فقط. والثورة التي ترجى في مجتمعات لا تحسن التناوب أو إدارة الخلاف تنتج من الفوضى ما لا يمكن حصره. وهذا بشكل خاص عندما يفكر الناس من منطلق الحل الثوري، في منطقة مبنية على فسيفساء قبائلية ومذهبية وعرقية، تنتظر الفرصة المناسبة لإعلان الانقسام وتأكيد خصوصياتها.
وبشكل شخصي أرى أن مفهوم "الضغط" الذي بالإمكان تطوير أدواته وأساليبه للتعامل مع حالة الاستبداد أفضل من مفهوم الثورة في السياق العربي الإسلامي.
إن نموذج التفاهمات الداخلية ينبغي أن يكون الأكثر حضورا ونقاشا في المنطقة، بعيدا عن تأثير النموذج الفرنسي القاتل. ولا يسمح حجم الكراهية والقتل والانتقام الذي برز لدى الناس في المنطقة في العقد الماضي، بأن يُبنى عليه توقعات بربيع عربي محتمل ومنسجم في عناصره، ومكونات فئاته الاجتماعية والسياسية.
إن المؤرخين أو من يحللون أوضاع المنطقة، عليهم أن يصفوا الحقائق. وأن الربيع العربي بدأ حقيقة من فوق، بسبب قرارات رآها البعض جريئة، ورآها آخرون غبية، في تلك المنطقة الرمادية.
وهي قرارات بعض الحكام في التخلي عن الحكم، بما حفز الناس، أو من جهة أخرى في قرار القيام بإصلاحات هدأت الناس، كما هو الحال في المغرب. ومنحت درجة من التوازن لدى الجميع، ومنعت لحظة صدام غير محسوبة.