رضاعة سياسية "غير طبيعية"

حكيم عنكر

الحقل السياسي في المغرب يشبه شاشة كبيرة بالألوان.. شاشة مُبهجة، تعكس وهما جليا بالتعدد، فلدينا الآن على الأقل 36 حزبا مرخص لها من قبل وزارة الداخلية، بعضها موجود، وبعضها مجرد ذكرى، والأغلبية الساحقة ملصقات انتخابية وتزكيات يجري المتاجرة بها في "الرهان الانتخابي".

وهم التعدد، هو مثل إرضاع أبناء الجيران، يجر خلفه أمومة بـ"الحليب"، لكنها أمومة لا تصمد أمام الأم الأصلية الجينية، ولذلك تظهر في المغرب، بين الفينة والأخرى "أحزاب مرضعة"، تجمع أحزابا أخرى إليها وتلمها في "عبونها" أو شوالها، تلهو بها لفترة ثم تتخلى عنها في أول "دورة" انتخابية.

حدث هذا مع سيناريو الكتلة، حين أرادت الأحزاب الكبيرة في هذا التجمع "احتواء" الأحزاب الصغيرة، وحدث مع تجمعات أحزاب اليمين، أو مع تفويضات بالرضاعة غير الطبيعية من حليب "الخنشة" للبعض، لكن النتيجة كانت وهم تعدد وأضغاث تكتل. .... الدفاع عن استقلالية القرار الحزبي، نغمة ترتفع في الأوقات التي يصعب فيها طرح البديل، عند هذا التيار السياسي أو ذاك، ثم تخف فجأة حين يتعلق الأمر بتوزيع الغنائم الانتخابية، أو بالبحث عن مواقع، أو السعي نحو تمركز في المشهد.. فالتجارب تحذر من تكدس الأطر داخل أي حزب، ووجودها على رصيف العطالة السياسية، فيه من المضار الجمة ما فيه. أقلها، أنه بوابة لنقل البندقية من كتف إلى كتف، وتنمية مشاعر الاستعداء والاقتتال الداخلي، بدل الاهتمام بالتناقض الجوهري

. حدث هذا مع أحزاب كبيرة، منذ الاستقلال إلى الآن، وكانت النتيجة، انشقاقات، وانشقاقات، وحروب صبيانية شعواء، قتلت معنى السياسة. ....

هل يكون اللجوء إلى الدولة لتصريف فائض الأطر العاطلة عن العمل هو الحل؟

 في السابق، كانت الدولة "تقتني" مشترياتها من كوادر الأحزاب، تخطف هذا أو ذاك من الكفاءات الجيدة. هذا حقها، في حصولها على رأس السوق.  كانت الدولة تفعل ذلك بمنطقها الخاص، تقوم الفكرة على خلق أمومة ثانية عن طريق "رضاعة" حسن الجوار، سرعان ما أتت أكلها، حين أصبح للدولة أصوات شرسة داخل الأحزاب نفسها. .....

يتطلب عمل من هذا النوع وقتا وصبرا، فاختراقات من هذا الوزن لم تكن سهلة تماما في أوقات الصراع، أما اليوم، فلم يعد ما يفزع. بل أن ثدي الدولة ضاق ذرعا بكثرة الأفواه الممتدة إليه. يعتقد متفائل، أن الحقل يتسع للجميع، يحاول أن ينظر إلى الأمور من الجهة الإيجابية. وحجته: لقد جاور الإسلامي الاشتراكي واللبرالي والإداري في البيت نفسه، وتساكنوا في غرفه المتقابلة، فرهانات صندوق الانتخاب، غير شعارات الساسة. طيب، فليكن ذلك، من حق الجميع أن يتدافع بشراسة أمام باب الإدارة وأن يحجز لنفسه مكانا كمخاطب، يملك الرقم الفلاني من الأتباع.. أليس هذا هو الوهم الكبير؟ بينما الواقع يقول: الشارع لم يعد بيد الأحزاب، بل بيد قوى أخرى، غير مرئية، تجيشه الخضات الاجتماعية ونذوب المعيش المزمنة، والصرخات الصاعدة احتجاجات من القاع وتخوم الهوامش، حيث لا نتوقع أحيانا، بأي صيغة جهنمية تخرج، ولا بأي طريقة كارثية ومرتجلة يجري محاولة إسكاتها.  وقتها لا تجدي أحزاب الرضاعة ولا سحرتها فتيلا!