ساهم النقاش حول نموذج النمو، الذي أطلق منذ أكتوبر 2017، في اختراق جليد الصمت حول جودة إنجازات الاقتصاد المغربي، وحرض على البحث على نقائص السياسات العمومية، حيث شرعت العديد من المؤسسات في الحديث عن ضعف النشاط، والبطالة، والهشاشة، والفوارق الاجتماعية.
ويؤشر إخضاع المفاهيم المستعملة في النقاش، حسب رضوان الطويل، أستاذ الاقتصاد بجامعة غرونوبل بفرنسا، على نقص في التحليل والتشخيص، وهو نقص يتجلى أكثر في تحديد أهداف التنمية.
ما هي العوامل التي تفسر الترافع من أجل تغيير نموذج النمو الاقتصادي بالمغرب؟
عندما نحلل نظام السياسة الاقتصادية بالاحتكام لمعاييره الهادفة إلى الفعالية، نقف على مثلث مزعج بين من جهة، الاستقرار الماكرواقتصادي والإصلاحات الهيكيلة، ومن جهة أخرى، الدينامية الحميدة للنمو (Dynamique vertueuse). فنمو الناتج الداخلي الخام يبقى هشا، حيث يرتهن للقيمة المضافة الفلاحية، غير المستقرة والمحدثة لفرص عمل ضعيفة.
لنلاحظ أنه بعد تسجيل متوسط نمو نمو في حدود 4,8 في المائة بين 2000 و2008، انخفضت وتيرة نمو الناتج الداخلي الخام إلى 3,6 في المائة بين 2009 و2016. وبدوره يستقر الناتج معدل نمو القيمة المضافة للأنشطة غير الفلاحية في حدود 3,5 في المائة، مسجلا انخفاضا بنسبة 1,3 في المائة. هذه التطورات تدفع إلى التساؤل حول جودة النمو.
بما أنكم تشيرون إلى جودة النمو، كيف ينعكس ما سبق على التشغيل؟
نحن نلاحظ أن معدل التشغيل يسجل انخفاضا شبه مستمر في العالمين القروي والحضري، فبعدما كان يصل في 2000 إلى 46 في المائة، انتقل إلى 41,9 في المائة في 2016، ويعرف معدل النشاط الانخفاض ذاته من 53,8 في المائة في 2000 إلى 46,4 في المائة.
وتعتبر البطالة في مرحلة الإدماج المهني (chômage d'insertion) الشكل الأبرز للإقصاء من الشغل: ففي 2017، مثل الشباب البالغين ما بين 15 و34 عاما، حوالي 93 في المائة من الداخلين إلى سوق الشغل، وتجلى أن 39 في المائة حاملون لدبلوم عال، و40,2 في المائة حاصلون على دبلوم متوسط، بينما غير الحاصلين على شهادات مثلوا 15 في المائة.
ويظهر أنه عندما يفقد النشيطون شغلهم، يتعرضون لبطالة طويلة الأمد. هكذا، تصل حصة العاطلين الذي تمسهم عطالة مؤقته من أجل الحصول على مؤهلات جديدة إلى 82 بين النساء و72 في المائة بين الرجال. ويبرز مستوى أداء السوق في وجود بطالة تمس عددا كبيرا من الأشخاص.
ويترافق عجز النشاط الناجم عن ذلك مع كلفة مرتفعة على مستوى البطالة والرفاه الاجتماعي وتفاقم الفوارق التي تحد من الولوج إلى الموارد والحق في التربية والصحة، ويؤجج عوائق التنمية ويهدد التماسك.
كيف تستقبلون الأطروحة الشائعة كثيرا والتي مفادها أن النمو الاقتصادي يستند على الطلب؟
هذه الأطروحة تأتي من تأويل معيب لتعريف مفهوم الدخل من منظور الطلب الشامل، باعتباره محصلة لاستهلاك الأسر، والاستثمار الخاص، والنفقات العمومية والصادرات الصافية من الواردات. ويبرز التفكيك الكمي لمساهمة كل واحد من هذه المكونات أن الطلب الداخلي يساهم بقوة في نمو النشاط، غير أنه من الخطأ، مع ذلك، الخلوص إلى أن نموذج النمو يستند على الطلب.
ألا ينطوي ما تخلصون إليه أنتم هنا على نوع من التناقض؟
يجب الوقوف على وزن كل جزء من المكونات المشكلة للطلب الشامل، هكذا إذا كان استهلاك الأسر مهما، فلأن حصة النفقات الممثلة له غالبة، زد على ذلك أن السياسات النقدية والموازنية، كما السياسات الهيكيلة لا تتميز بتدبير مباشر للطلب.
هكذا، فأهداف مراقبة التضخم والعجز العمومي وإصلاحات الأسواق، كما تدابير المخططات القطاعية، تحيل على سياسات موجهة لخلق الشروط الملائمة لتشجيع العرض الشامل (Offre globale).
ويجب أن ننبه إلى أن التوصية بتبني سياسات قائمة على العرض، كبديل كفيل بخلق دينامية حميدة للنمو، تنطوي على تفسير خاطئ، على اعتبار أن هذه السياسات حظيت بدعم صاحب القرار العمومية منذ أواخر القرن الماضي.
وفيما يتصل بالتوصية التي تشجع على استراتيجية لإنعاش الصادرات، فإنها تترجم خطأ في الاستنتاج قائم على تصور أن الطلب الداخلي والطلب الخارجي منفصلين.
هكذا فإعطاء الأولوية للانفتاح التجاري، باعتباره محركا للنمو الاقتصادي، يمكن أن يفضي عبر التنافسية القائمة على التكلفة (compétitivité-coût)، إلى السقوط في فخ الأجور المتدنية وضعف الإنتاجية، والتأثير، بالنتيجة، على الاستهلاك والنزوع القاضي بالاستثمار في الابتكار، والتشجيع على عدم التكيف مع الطلب الخارجي.
هذا التأثير السلبي كفيل بأن يعوق الاستثمارات المباشرة الأجنبية، التي يواجه توسعها والآثار المترتبة عنها (effets d’entraînement)، بضيق السوق الداخلي. وبالنظر لهذه الآثار السيئة، فإن الرهان على الطلب الخارجي لا يمكن أن يفضي إلى تحفيز النمو والتشغيل.
يتجلى أن النقاش حول هذه القضايا مطروح منذ عامين تقريبا، كيف تقيمونه؟
صحيح، النقاش الجاري فرصة لطرح المعطيات والتقارير حول عدم كفاية نمو الناتج الداخلي الخام، وهشاشة النمو، والطابع الثابت (Persistant) للبطالة، وشيوع ضعف تشغيل الشباب، وضعف الإنتاجية الشاملة، والاختلالات الجهوية، كما يجري الحديث عن ضعف "الرأسمال البشري" وسوء خدمات التربية والتعليم والصحة أو توسع الفوارق.
ويجب أن نسجل، مع ذلك، أن الأمر يتعلق بملاحظات محلية أكثر منها تحليلات حول الروابط القائمة، بين، من جهة، محتوى السياسات الظرفية والإصلاحات الهيكيلة، المخططات القطاعية، ومن جهة أخرى، بأداء ونتائج الاقتصاد الوطني.
ما الذي يجب الانكباب عليه؟
يبدو أن تعيين ذلك المحتوى على الصعيد المؤسساتي والعملياتي، والتقييم الشامل لنظام السياسة الاقتصادية، بالنظر لمعاييرها الخاصة المتعلقة بالفعالية، عملا ضروريا من أجل تحديد العوامل الرئيسية لعدم الكفاءة والآثار غير المنتجة (Les effets contreproductifs)، والمقتضيات والقواعد المعيبة والمبادىء غير المناسبة.
يطرح فرانسوا بورغينيو، رئيس الاقتصاديين الأسبق بالبنك الدولي، التساؤل التالي: "ألم يكن الاقتصاد وممارسة التنمية سوى سلسلة من التجارب، بعضها أفضى إلى نجاحات رنانة، بينما الأغلبية الساحقة لم يكن لها سوى تأثير قليل؟".
وأتصور أن المقارنة مع بلدان الجنوب، ستكون، بدون شك، كفيلة بأن تضيء نتائج سياسات الاستقرار الماكرواقتصادي، حسب قواعد ثابتة وإصلاحات الأسواق الموجهة لتكثيف المنافسة والمرونة اللذين يجري التعاطي معهما كترياق.
ما الأمور التي يفترض تفاديها التصدي للتعاطي مع قضايا تهم الإقلاع الاقتصادي والتشغيل مثلا؟
إن التعريف الدقيق لسياسة من أجل الإقلاع الاقتصادي والتشغيل وتقليص العجز الاجتماعي، تستدعي زاوية نظر واضحة. فالدعوة إلى تقديم مقترحات دون إيلاء اهتمام للتشخيص يفضي إلى إعفاء هذه المقترحات من البراهين المدللة عليها، وعندما يجري تبخيس الرهانات التحليلية، فإن مثل هذه المقاربة تؤدي، بالضرورة، إلى تراكم (Juxtaposition) التوصيات فقط.
والحال أن التفكير في السبل الممكنة تقتضي نظرة شاملة متمحورة حول تحديد شروط دينامية حميدة للتشغيل والرفاه والتماسك الاجتماعي، غير أنه من أجل ذلك، سيكون مفيدا إعادة النظر في الإفكار المتهافتة، والأخطاء الناتجة عن الجهل والمضللة، واليقينيات الراسخة.
هذا يحيلنا على النقاش حول "النموذج التنموي الجديد"، الذي تعددت الوصفات والتدابير المقترحة من أجل بلوغه، ما هي قراءاتكم لما يقترح اليوم؟
أضحى شائعا أن نقرأ هناك وهناك أنه ما دام التشخيص حول جودة النمو الاقتصادي قائم، فقد حان الوقت من أجل التعبير عن توصيات وبلورة تدابير للسياسة العمومية. وتبدو العديد من المقترحات، التي تجد لها صدى في وسائل الإعلام، هشة بشكل مزدوج.
فمن جهة، يعتبر بلورة تشخيص مدلل عليه للاقتصاد الوطني مقدمة ضرورية (Préalables) للمسارات التي يفترض الانخراط فيها، فبدون مقدمات كفيلة بأن تعطى المعنى وتؤشر على جدية هذه المقترحات، تختزل هذه الأخيرة في مجرد جرد للتدابير دون أساس مشترك، ومن جهة أخرى، سيحكم على هذه التدابير بأن تكون غير متناغمة، ومتناقضة وغير سديدة، في غياب مرجعية للقيم والمعايير والأهداف والأدوات. ومن اللافت ملاحظة أنه ضمن هذه السياق، يصبح الحديث عن الجديد (Nouveauté) مثيرا للربية.
أين يتجلى مثل هذا التوجه الذي يؤشر على عدم التناغم والتناقضات التي تشيرون إليها؟
نحن نشهد تكرارا للخطاب حول الفوائد التي تنطوي التنافسية والمنافسة وسياسات العرض أو إصلاحات الأسواق. وفي غياب مساءلة نقدية لهذه المفاهيم، تبقى العديد من مناطق الظل قائمة. فدفاع الاتحاد العام لمقاولات المغرب عن المرونة في سوق الشغل دال على هذا المستوى.
المرونة التي ينادى بها، باعتبارها حل لمعادلة التنافسية والنمو، لا تنطوي على الفضائل (Atkinson, 2016)،التي يقال إنها أصيلة فيها، على اعتبار أن تقييد العقود غير المحدد في الزمن، وتطوير العقود المؤقتة، كما تقليص حماية الشغل، لا تبدو كفيلة بتحفيز النشاط والشغل أو تطوير التحفيزات من أجل الابتكار. والمرونة التي تعتبر واقعا بالمغرب (المندوبية السامية للتخطيط 2017 والبنك الدولي 2017)، والتي تسري على شريحة واسعة من الأجراء، تدفع إلى السقوط في فخ الأجور الدنيا التي يعتبر ضعف مستوى الإنتاجية كمرادف لها.
تتسم العلاقات الأجرية في العديد من الشركات بخطر أخلاقي (Aléa moral) مزدوج، فمن جهة تخرق الشركات التشريعات في مجال شروط العمل والمرتبات، ومن جهة أخرى، لا يبذل الأجراء الجهد الإنتاجي المناسب، وينتج عن ذلك وجود أرباح غير مستغلة بالنسبة للطرفين. وعبر توسيع تسهيلات التسريح، تدعم المرونة عوامل الإنتاجية المتدنية عبر اللجوء للعقود قصير الأمد.
هذه العقود تدفع شركات إلى عدم الاستثمار كما يجب في الكفاءات الخاصة للأجراء، وتفضيل التسريح على الإنتاجية، هكذا، يتم عدم تشجيع التعلم عبر الممارسة وترسيخ الابتكارات، وبالتالي، فإن فخ الأجور المتدنية يرافقه فخ ضعف التأهيل (sous-qualification).
يولي النقاش حول النموذج التنموي الجديد أهمية جد كبيرة للاقتصاد، وهو اهتمام لايحظى به البعد الخاص بالحقوق أو السياسة، ألا يشكل ذلك نوعا من النقص في المقاربة؟
رغم تداوله الشائع، فإن مفهوم التنمية لا يوجد موضوع صياغة ترقى إلى مستوى المكانة التي يستحقها. فإما يتعامل مع النموذج التنموي، ببساطة، كمرادف لـ"نموذج النمو" أو ينظر إليه باعتباره مسلمة لا تستحق تشكيل معناه.
هذا يسري كذلك على مفهوم "العدالة الاجتماعية" التي تبدو كالمحبوبة الأرلية (Arlésienne) في القصة (1) التي ألفها الفرنسي ألفونس دودي (Alphonse Daudet)، حيث نتحدث عنها كثيرا دون أن نكون قد رأيناها. والحال أن الرهان حول التفكير في طريق جديد، يقتضي إعادة تعريف التنمية باعتبارها إطارا شاملا للسياسات العمومية.
يمكن الاستناد على المقاربة القائمة على القدرات كما طورها الاقتصادي الهندي أمارتيا سين، والتي تربط بين إشكاليات العدالة الاجتماعية والتنمية. فهذه المقاربة التي تشدد على تقييم الرفاه انطلاقا من إنجازات الأفراد، تجدد مفهوم التنمية عندما تحتل الحريات والمساواة موقعا مركزيا فيها.
فعكس التحليل الذي يقارب الرفاه عبر الممتلكات (Biens)، تركز مقاربة أمارتيا سين،على الإنجازات التي يحققها الأفراد عند استعمالهم لتلك الممتلكات، ويعتبر أن تقييم موقع شخص في المجتمع يستدعي دمج معيارين: الحرية الشكلية لتحقيق الاختيارات والتحقيق الفعلي لها (la liberté formelle d’accomplir et l’accomplissement réel).
فالأول يشمل تحقيق الرفاه الفردي الذي يتيحه الدخل وجودة الحياة، ويحيل الثاني على حرية ولوج الفرد لمختلف الاختيارات التي يتطلع إليها. ويوجد في قلب طريقة التقييم هاته مفهوم القدرات كمجموعة من شروط الوجود والعمل التي يتوفر عليها الأفراد على مستوى الاختيارات والفرص.
هذه القدرات تشمل إنجازات رئسية مثل الأكل، أن يكون الشخص في صحة جيدة، القدرة على التربية، وتقدير الذات، والمشاركة في حياة الجماعة. فالتنمية لا تقاس فقط من زاوية الحريات الشكلية، بل كذلك من زاوية مدى (Etendue) الحريات الحقيقية.
إن التساؤل حول التنمية غير منفصل عن التساؤل حول "كيفية العيش المشترك". هذا ضروري من أجل إماطة اللثام عن الأفكار المسبقة، كما لتقييم قوة البراهين ورجحان الخلاصات. وكما يقول داني رودريك، الاقتصادي المتخصص في التنمية: "إن التعاطي مع الأفكار بجدية يساعدنا على حل العديد من ألغاز الحياة الاجتماعية والسياسية".
1-عن وصف الأرلية (ََArlésienne)
في هذه القصة التي نشرها ألفوس دودي في عام 1866، يعبر شاب عن رغبته في الزواج من فتاة تنحدر من مدينة آرل Arles الفرنسية، فقد تعلق قلبه بها بعد التقى بها مرة واحدة، بل إن مراسيم الخطبة وحفلة كبيرة نظمت، لكن في غياب الخطيبة المفترضة. وفي تلك الليلة، حضر شخص أخبره ووالده بأن الفتاة كانت موعودة له هو، وبأنها لم تكن سوى فتاة سيئة، تسرب اليأس إلى نفس الشاب، ولاذ بالصمت، ثم من أجل خداع أسرته، أوهمها بأنه سعيد، دون أن ينسي محبوبته، قبل أن ينتحر أمام ناظري والدته. وأضحت الأرلية Arlésienne ترمز إلى كل شخص أو شيء تنتظره ولا يأتي.