بقلم: سارة سوجار
لا طالما كان تقدم القوانين قضية مركزية تشغل بال مختلف مكونات المجتمع المغربي، حيث تعتبر لحظة التغيير التشريعي لحظة محددة في مسار الديمقراطية ومؤشرا ملموسا لمدى انصات الدولة، وخاصة المؤسسة التشريعية، لاحتياجات المجتمع وطموحاته باختلافه وتنوعه.
إن النقاش حول القوانين لا ينحصر في المسائل التقنية فقط، بل هو الذي يبلور فلسفة المرجعية القانونية التي تحكم حياة المواطنات والمواطنين. فقوانين الدول تمثل واحدة من الوسائل الرئيسية التي تُستخدم لتنظيم المجتمع وضبط سلوكياته. كما يمكنها أن تشكل وسيلة لإعادة تشكيل الواقع الذي تسعى هذه الدول إلى وضبطه والتحكم فيه، لذلك تعتبر معركة تغيير القوانين معركة ديمقراطية تؤثر بشكل كبير في طبيعة النظام السياسي وكيفية إدارته للحكم وللعلاقات داخل المجتمع.
في هذا السياق، يظل قانون الأسرة والقانون الجنائي من أهم النصوص القانونية المغربية التي تنظم حياة الأفراد وعلاقاتهم ببعضهم البعض، والمدخل القانوني الذي تضبط به الدولة المجتمع، وتعيد به إنتاج الأدوار والعقليات والمضامين والقيم التي تضفي الشرعية عليها وتضمن استمرارية وجودها.
ونظرًا لأن نظام المساواة يُعدُّ منظومةً متكاملة تجمع بين القانون والسياسة والاقتصاد والفكر، وتعني الرجل والمرأة بشكل متساوٍ، فإن قضية الدفاع عن حقوق النساء ترتبط بشكل وثيق بطبيعة النظام السياسي ودرجة ديمقراطيته. فلا يمكن أن تتحقق دمقرطة المجال العام دون دمقرطة المجال الخاص. ولذلك يجب وضع النقاش حول تغيير مدونة الأسرة في سياق التحولات المجتمعية الكبرى، وتوجيهه ليكون نقاشًا سياسيًا وفكريًا غير معزول عن سياقه المجتمعي العام. كما يجب أن يكون هذا النقاش العمومي حرًا ومتنوعًا ومفتوحًا، بحيث يتيح للجميع التعبير عن آرائهم واقتراحاتهم بحرية وبعيدًا عن التحيز والتعصب الفكري والديني.
يمكن في هذا الصدد الوقوف عند ثلاث أعمدة بنيت عليها مدونة الأسرة، والتي تتقاطع مع قوانين أخرى تجسد اللامساواة في التشريع المغربي:
- نظام القوامة:
يُعدُّ مبدأ القوامة القائم على أفضلية الرجال على النساء في مجالات كثيرة باعتبارهم المعيلين والمنفقين على الأسرة، ركيزة أساسية في فلسفة مدونة الأسرة، حيث يستهدف مقتضيات كثيرة مثل ولاية الأبناء وواجب الطاعة الذي يُفرض على الزوجة لزوجها وصولًا إلى أحكام النفقة، والنيابة الشرعية على الأبناء، وأحكام الوصية والميراث.
ومن بين هذه المقتضيات، يمكننا الحديث عن مسؤولية الولاية على الأبناء، حيث تسند بشكل شبه حصري للأب، الذي يعتبر الولي على أولاده والمسؤول القانوني عنهم. هذا يعني أن سلطة الولاية تظل في يد الأب، ودور الأم يُعتبر ثانويًا واحتياطيًا، تمارسه فقط في ظروف محددة.
وفي الواقع، تُمنع الأم، على سبيل المثال، من القيام بأمور مثل نقل أطفالها من مدرسة إلى أخرى دون موافقة الأب. كما يُمنع منح الأم إذنًا لمصلحة الأطفال في الحسابات البنكية المفتوحة لهم، والتي لا يُسمح بفتحها إلا في اسم الأب. صحيح أن القضاء يحاول جاهدا إيجاد حل لهذه المشاكل، خصوصا التي تهم الأطفال في المدارس، ولكن هذا لا يلغي الحاجة الملحة لمراجعة مفهوم القوامة في شموليته وتغيير المقتضيات المتعلقة به. لا سيما السياق الذي أنتجه قد تغير، حيث أصبحت المرأة شريكًة للرجل في الإنفاق وفي المسؤوليات المتعددة. بل وفي الكثير من الحالات، تعتبر النساء هن المعيلات الوحيدات للعائلات.
- نظام اللامساواة والتمييز:
ما زال نظام اللامساواة والتمييز يثير العديد من التساؤلات في مدونة الأسرة، حيث يظهر بشكل فاضح في طبيعة النسب حيث يربط المشرع حقوق الأطفال المولودين في زواج باطل بحسن نية الأب. هذا يعني أن سوء نية الأب في الزواج الباطل يمكن أن يحرم أطفاله من النسب، محوِّلاً النسب من حق إلى امتياز يُمنحه القانون للأب. في الوقت نفسه، لا يوضح المشرع أي أثر للنسب غير الشرعي بالنسبة للأب، مما يفتح الباب أمام إشكاليات كبرى في قضايا النسب.
ويفترض أن تعتبر الخبرة الجينية حاسمة في كسب النسب، ولكن المشرع يقيم تميزا واضحا بين النسب الشرعي وغير الشرعي، فالرجل يمكنه أن يقر بكونه أبًا لِطفل ناتج عن علاقة خارج الزواج، لينسب الطفل، بينما تعاني المرأة من صعوبات كبيرة في تحقيق ذلك، إِذا رفض الأب الِاعتراف بنسبه أَو تسجيله في الحالة المدنية. وحتى إذا لجأت المرأة إلى طلب الخبرة الجينية، يطلب منها إثبات شرعية العلاقة، ذاك يعني أَنه يسمح بِنسب الطفل إلى أبيه، ولا يسمح بِنسبه إلى أمه اعتمادا على الخبرة الجينية، التي تعتبر دليلا علميا وماديا على العلاقة البيولوجية بين الطفل وأبيه.
كما أن البنوة غير الشرعية لا يترتب عنها أَي أَثر من أثار البنوة الشرعية. هذا يعني أَن الْأَطفال الذين ولدوا من علاقة خارج إطار الزواج يحرمون من حقوق النسب والنفقة وحرمة المصاهرة، النَّسَبِ وحرمة المصاهرة، والاكيد أن هناك مقتضيات متعددة تمييزية في الزواج والارث وحل ميثاق الزواج وآثارها، لكن تبقى إِشكالية أكثرها خطورة، لأنها تحرم الام والطفل من حقوقهما الطبيعية والقانونية.
- الوصاية:
ان منطق الوصاية حاضر بشكل قوي في القانون المغربي، حيث يبدأ من وصاية الرجل على المرأة ويمتد إلى وصاية الدولة على الفرد، ثم يمتد أيضًا إلى وصاية الدولة والرجل معًا على المرأة. هذا النظام يعتبر عائقًا حقيقيًا أمام بناء مجتمع يقوم على مبادئ الحرية والمساواة، فبالإضافة إلى التشريعات التي تمنح الرجل وصاية على المرأة في مجموعة من الأمور مثل الولاية والإرث وغيرها، هناك مقتضيات أخرى تجسد وصاية الدولة التي تتدخل في اختيارات النساء والرجال وتقيد حرياتهما معا الفردية والعامة. حيث يظل القانون المغربي يجرم العلاقة الجنسية بين الراشدين خارج إطار الزواج ويعاقب عليها بالحبس في القانون الجنائي، مما ينعكس سلبًا على حقوق وحياة الأبناء الناتجين عن هذه العلاقات في إطار مدونة الاسرة. إن اختيار الأفراد لنمط حياتهم لا ينبغي أن يعتبر باي شكل من الاشكال جريمة، وأي مساس بهذا الحق يعتبر انتهاكا لحقوق و وحريات الأفراد، رجالا ونساء وأطفالا .
بالإضافة إلى ذلك، لا يجب على الدولة أن تكون وصية على اختيارات الأفراد الشخصية، ولا ينبغي أن تستخدم ذلك في صراعاتها السياسية، كما ان القانون يجب أن يكون منفتحا على اشكال مختلفة للأسرة كالأم العازبة وطفلها- الأم المطلقة وطفلها- الأب العازب وطفله - الأرملة أو الأرمل وأطفالهما الى غير ذلك من اجل ضمان حقوق الجميع داخل المجتمع دون تمييز.
بالطبع، هناك العديد من جوانب مدونة الأسرة التي تحتاج إلى التغيير ولم نتطرق إليها في هذا المقال لكن تبقى ثلاثية الوصاية، والقوامة، والتمييز الركائز الأساسية لمدونة الأسرة التي تؤسس لمضامينها وفلسفتها ولغتها المستعملة، والتي تتطلب أن تفكك وتُناقش بعمق، ويُعاد النظر فيها استنادًا إلى التغيُّرات الاجتماعية والاختلالات التي تؤثر على الأسر وحقوق أفرادها.
ونحن نطالب بالمساواة في الولاية والنيابة وغيرها، يجب أن نطالب أيضًا بإعادة النظر في بعض الأمور المكرسة لدونية النساء، والتي يعتبرها بعض الناس مكتسبات نسائية، مثل المتعة التي تكرس صورة النساء باعتبارهن مجرد جسد للمتعة ولسن شريكات مؤسسات للأسرة. كما يجب أن ندعو أيضا إلى التفكير في المساواة فيما يتعلق بالحضانة والنفقة على الأطفال وغيرها من القضايا التي يتم مناقشتها حصريًا كحقوق للنساء، عوض نقاشها كحقوق يمكن أن يتمتع بها الرجال والنساء معا.
إن إصلاح مدونة الأسرة مرتبط بمدى قدرتنا على استيعاب التحولات في مجتمعنا، ومدى تعاطينا مع هذه اللحظة كخطوة هامة في مسار بناء الديمقراطية، ومدى قدرتنا على تفكيك ركائز السلطوية واللامساواة ونظام التمييز الذي ينعكس سلبا على الشكل الديموقراطي للدولة والمجتمع.
إن معركة تغيير مدونة الأسرة هي معركة سياسية في مضمونها وشكلها، وفي ترسيخ قيمها، وامتحان لمدى وجود إرادة حقيقية للتقدم نحو الديمقراطية وضمان احترام حقوق الإنسان.