*توقفنا في الجزء الأول من الحوار عند غياب الثقة في الجهات كمؤسسة يمكن أن تضمن مجموعة من الأمور للمواطنين ومن بينها التشغيل. كيف يمكن من وجهة نظرك التأسيس لمؤسسات جهوية قوية؟
كما قلت الجهات إلى اليوم تابعة للمركز، ولا تتمتع بالاستقلالية السياسة والمالية.
الجهة تحتوي "بطانة تراب"، أي أنها تضم شرائح وفئات مختلفة يجب أن تقدم لها مجموعة من الخدمات وتوفر لها شروط العيش، لكن يجب أن نعرف أن هذا التوجه يخلق مواطنة جديدة ترتبط بالتراب. لكن أشدد على أن هذا الانتماء في ما يتعلق بقضية التشغيل لا يجب أن يكون مؤقتاً.
*(مقاطعا) السؤال هو هل التقسيم الجهوي الحالي وما هو ممنوح للجهات يمكن أن يمنحنا النقلة من التمركز إلى اللاتمركز في كافة المجلات؟
هنا يجب العودة إلى محددات التقسيم الترابي، وهذه الأخيرة كانت على أساس اقتصادي وإدراي، حيث تجد في نفس الجهة كيانات وهويات مختلفة بل متضاربة في سياق مفهوم "اللعب الاجتماعي"، أي أنك تجد "العروبي مع الشلح" في الجهة رقم خمسة مثلا، والجهة رقم واحد تجد "ريافة مع جبالة... هذا التمازج الهوياتي رغم أنه يظهر في السطح إيجابيا إلا أنه يفرز مجموعة من الصعوبات تنعكس على دور الجهات في مختلف القطاعات.
التجارب الدولية التي اختارت التقطيع الجهوي، جلها اعتمدت البعد اللغوي أو الثقافي أو الهوياتي
في التجارب الدولية التي اختارت التقطيع الجهوي، جلها اعتمدت البعد اللغوي أو الثقافي أو الهوياتي، مثلا إسبانيا اللغة تحدد التراب وفي دستورها نقول جهة "لغة الباسك" جهة "لغة الكتلان"، في سويسرا هناك "الكانتونات" الترابية "الكانتون" الألماني والفرنسي والإيطالي.
لخلق جهة منسجمة تساعد على بناء الهوية الوطنية وتمكين الفرد فيها من أسس العيش والتعايش الاجتماعي، يجب أن نتجه إلى التقسيم على أسس لغوية وثقافية، وهذا التوجه سوف يمنحنا سبع جهات عوض 12 جهة كما هو معمول به اليوم.
*لكن هناك من يرى أن ما طرحته سيقودنا إلى ظهور تعصبات اثنية وعرقية قد تنضج عندها مطالب انفصالية.
الدستور المغربي يعترف بالتنوع والمغرب اختار الانتقال من التمركز إلى اللاتمركز ودولة الجهات. الدستور يتكلم عن المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، وعلى الدولة أن تحافظ وتطور التعبيرات اللغوية المحلية، يعني هذا التخوف لا أساس له بالنظر إلى توجه المملكة في تعزيز خصوصية الانتماء للغة والثقافات المحلية في كافة المناطق.
اليوم لدينا ثلاث جهات يمكن ادخالها في سياق التقسيم على أسس ثقافية ولغوية، وهي الجهات الحسانية، وبعيدا عن التوجسات والخوف من مطالب الانفصال، التقسيم في سياق الجهوية الموسعة يخضه للدولة المتماسكة وتقوم على أساس وحدة الوطن والتراب والمرجع.
أرى أنه يجب أن ننتقل كما قلت سابقاً لسبع جهات عوض 12 جهة، وهي الجهة "الجبلية" الجهة "العروبية" جهة "تشلحيت" بسوس جهة "تمازاغيت" والتي تمثل قبائل زيان جهة "تريفيت" جهة "العريب" على حدود المغربية الجزائرية... إذن هذا التقسيم سوف يجعل الفرد يشعر بسعادة مجتمعية داخل ترابه لكي يصبو إلى الاندماج في كامل التراب الوطني، وهذا في جميع التجارب الدولية كما قلت سابقاً.
من جهة أخرى لا يمكن الحديث عن جهة تحتضن أقاليم وعمالات ومؤسسات إدارية فقط، بل يجب أن تحتضن أقطاباً اقتصادية وصناعية ، مع الحرص على تثمين التراث اللامادي والتاريخي، ومنح كل جهة أسس الاستقلالية الحقيقية حتى في ما يخص الجوانب الإعلامية مثل التلفزة المحلية الخاصة كما هو الحال في الأقاليم الجنوبية.
لا يمكن الحديث عن جهة تحتضن أقاليم وعمالات ومؤسسات إدارية فقط، بل يجب أن تحتضن أقطاباً اقتصادية وصناعية
*انطلاقا مما ذكرته نرى أن الجهات إلى اليوم لم تضع أسس انتماء الفرد إلى ترابه وثقته في مؤسساتها.
نعم، وسوف أعطيك مثالا بسيطاً نراه يوميا بشكل عابر، لكن يعبر عن أزمة انتماء الفرد لمحطيه، وهو بحث كل من يقطن في ضواحي الرباط على تسجيل سيارته في العاصمة كي يحصل على ترقيم معين يظهر أن سيارته تنتمي إلى المركز، بل هناك مواطنون من مدن بعيدة يتفاخرون بأنهم يملكون سيارات ترقيمها (1 – أ - ...)، وهذا السلوك دليل على شعورهم بحمل هوية انهزامية تجاه منطقتهم.
خلال بحث ميداني مصغر قمت به مع الطلبة، أخذنا صوراً لمدينة الرباط وعرضناها على شباب في نواحيها، صدق أنه في مناطق سمعنا عبارة "بغينا نحركو للرباط !"
هناك مواطنون من مدن بعيدة يتفاخرون بأنهم يملكون سيارات ترقيمها (1 – أ - ...)، وهذا السلوك دليل على شعورهم بحمل هوية انهزامية
هذا التفاوت المجالي يظهر أن الجهوية بشكلها الحالي فشلت حتى في استقطاب الساكنة المنتمية لنفس الجهة إلى الثقة التي تحدث عنها في السابق، وفشلت في خلق نوع من الاستقرار بعدد من المناطق.
بل هناك جهات تتجه لفقدان ساكنتها بسبب هجرة أبنائها إلى جهات أخرى، خاصة الكفاءات منهم، وبدون استقرار هؤلاء في الجهة حيث تابعوا دراستهم وتربوا وحصلوا على الشهادات العليا أو التكوينات في مختلف المجالات، لا يمكن أن نصل إلى هدف خلق جهات متكافئة.
مرحلياً هناك إجراءات تعتمد لخلق نوع من التوازن بين الجهات خاصة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وبينها صندوق التضامن بين الجهات، لكن هذه الحلول تبقى ترقيعية وحتى تفعيلها يواجه إلى اليوم مجموعة من الصعوبات.
*ذكرت في آخر جوابك صندوق التضامن بين الجهات. آلا ترى أن سياسة الإحسان من أصغر فرد في المجتمع إلى مؤسسات دستورية بحجم الجهات تفرمل تحقيق النمو والاقلاع في المجتمع.
هنا نطرح السؤال حول: هل الدولة لها الميزانية الكفيلة لتنزل سياسات عمومية لصالح تحقيق النمو؟ أو أن ما لديها يسمح لها فقط بأن تختار منطق المسكنات؟
هذا الأخير ليس سلبياً، بل يحل مجموعة من المشكالات الآنية، المشكل هو أن تتحول هذه المسكنات إلى سلوك سياسي مستمر، وتصبح دائما هي الحل لمواجهة المشكلات المجتمعية وحلها، وجعل أفراد المجتمع يعولون دائما على المساعدات لتوفير معيشهم اليومي أو الاستفادة من الخدمات العمومية وعلى رأسها الصحة والتعليم.
المشكل هو أن تتحول المسكنات إلى سلوك سياسي مستمر، وتصبح دائما هي الحل لمواجهة المشكلات المجتمعية وحلها
لنأخذ مثلا بطاقة "الراميد" التي توفر الرعاية الصحية للفقراء وذوي الدخل المحدود، وكذا التغطية الصحية الإجبارية، اعتمادهما كان قراراً جيداً في سياق معين، لكن فيما بعد ظهرت مجموعة من المشاكل، خاصة وأن "الراميد" و"لامو" ظهر أنهما لا يضمنان جميع ما يحتاجه الفرد المغربي من خدمات صحية، بل التوفر عليهما قد يقف في مناطق كثيرة في المغرب عند هذا الحد، أي أن تتوفر على خدمة عمومية دون الاستفادة منها، إما بسبب غياب الأطر الصحية أو التجهيزات أو المستشفيات أو الأدوية.
يعني أن سياسة توفير مسكنات كما أصفها، تنزل بطريقة غير متكاملة وتجد أن هناك حلقة مفقودة تجعل من استمراريتها مشكلا في حد ذاته عوض أن تكون الحل.
أظن أن الفاعلين السياسيين اليوم أقروا بفشل السياسات العمومية في مجموعة من القطاعات، وعدد منها لم يعد من الممكن تأجيل الاصلاحات فيها والاستمرار في تنزيل سياسة المسكنات.
*كنت من الذين أدلوا برأيهم في موضوع تغيير الساعة القانونية للمغرب، وساهمت بمقالات ومداخلات في منابر إعلامية. بعد مرور أشهر على تطبيق القرار كيف تجد أثره على المغاربة؟ وهل كانت له انعاسات اجتماعية؟
هنا يجب أن أتطرق لتحول مهم جدا رافق الجدل الذي دار حول إضافة ساعة للتوقيت القانوني للمملكة، وهو أن الصراع دار بين الحكومة وتلاميذ المؤسسات التعليمية، ولو أن زيادة الساعة لا تهم هذه الشريحة في شيء، أي بشكل مباشر، خاصة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
الشعور الجمعي عند التلاميذ بأن إضافة ساعة سوف تمس بإيقاع حياتهم، خاصة الذهاب إلى المدرسة ليلاً لأنهم يعتبرون أن ذلك الوقت ليل وليس الساعات الأولى من الصباح، جعلهم يفرضون أنفسهم ليكونوا المعارضين لقرار الحكومة في موضوع الساعة، ويدافعوا عن موقف جميع شرائح المجتمع، وكانت خرجاتهم الاحتجاجية قوية جداً، بل كان لها أثر مجتمعي لن يخفت وسوف يستمر مستقبلا، ونلحظ أنه حتى في مجلس المستشارين والبرلمان أصبح النواب والمستشارون خلال تلك اللحظة يتحدثون بصوت التلاميذ وشعاراتهم.
احتجاجات التلاميذ على إضافة الساعة كانت قوية جداً، بل كان لها أثر مجتمعي لن يخفت وسوف يستمر مستقبلا
هذا أبرز ما أفرزه القرار في المجتمع وكان رد فعل ظاهر. أما الانعكاسات الاجتماعية بشكل عام أو خاص لدى مختلف شرائح المجتمع فلا يمكن الحديث عنها دون دراسة ميدانية معمقة.
لكن من خلال المعاينة، أشدد المعاينة فقط للمحيط حيث أعيش يلحظ أنه هناك انفراجا عند الأسر بعد عودة موعد شروق الشمس لساعات الدخول المدرسي.
*قلت إن احتجاج التلاميذ على إضافة ساعة للتوقيت القانوني للمغرب ستكون له انعكاسات سوف تستمر في المستقبل. كيف ذلك؟
خروجهم للشارع كان تمرينا سياسيا جعلهم يحسون بالانتماء للدينامية المجتمعية والانخراط فيها، وهذا أمر جيد جداً، لأننا أمام فئة منذ الصغر أصبحت تفكر في الشأن العام، بل فوضت نفسها للدفاع عن رفض مجتمعي واسع لقرار الحكومة، رفض لم يترجم على أرض الواقع إلا مع احتجاجات التلاميذ، وهذه الأخيرة أخذت أبعاداً مختلفة، رأينا وقفات احتجاجية ومسيرات وابداعات في مواقع التواصل الاجتماعي بالصور والفيديوهات بل رفعت شعارات قوية.
خروجهم للشارع كان تمرينا سياسيا جعلهم يحسون بالانتماء للدينامية المجتمعية والانخراط فيها، وهذا أمر جيد جداً، لأننا أمام فئة منذ الصغر أصبحت تفكر في الشأن العام
للأسف هناك أصوات نشاز هاجمت هؤلاء الصغار بعد رفعهم لبعض الشعارات التي ليست سوى انعكاس لما يلقن لهم في المجتمع، وهناك من وظف عبارة "أجيال الضباع" و"أجيال القوادس".
و"أجيال الضباع" مفهوم وظفه الراحل جسوس ليصف أجيال تنشأ داخل منظومة تعليمية وتربوية سوف تجعل منهم خانعين لا يدافعون عن حقوقهم، وما قام به التلاميذ بعد قرار إضافة الساعة يسقط عنهم الوصف، ولا يمكن أن نوظفه فقط لأنه رفعوا بعض الشعارات بالإشارة إلى أسماء أعضاء تناسلية باللغة العامية.
إذن قلت إن قرار إضافة الساعة له انعكاسات سوف تستمر، لأن احتجاجهم لم ولن يكون عابراً، لأن هذا الجيل الذي لا نتواصل معه ظهر أنه جيل متصل، وهناك فرق كبير بين التواصل والاتصال، والثاني هو الأقوى اليوم والأكثر تأثيراً، لذلك كانت شعاراتهم قوية وتنسيقهم لا يمكن ضبطه بأدوات التحليل التقليدية.
عندما أحرق البعض منهم العلم المغربي، عوض سبهم وشتمهم كان يجب دراسة هذا السلوك، والقول إن ما نواجهه اليوم هو من نتائج ربط التعليم بسوق الشغل عوض ربطه بسوق القيم، لأن المواطنة والانتماء في الدول التي تقدمت تعطي هذا السوق أولوية في نشأة الأجيال، داخل المدرسة أصبحنا في حاجة للتنشئة المستدامة وليس التربية.
ما نواجهه اليوم هو من نتائج ربط التعليم بسوق الشغل عوض ربطه بسوق القيم
ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن القيم التي نسوقها اليوم سوف ترهننا لـ20 سنة قادمة، وللأسف كل المؤشرات تدل على أننا نعيش احتباسا قيمياً.
*هذا الجيل لا نتواصل معه ولكنه متصل. هذا القول يجر إلى القول إن مؤسسات التأطير تحتضر إن لم نقل انقرض عدد منها. كيف تنظر إلى هذا التحول؟
في المجتمعات الحديثة انتقلنا من "مجتمع التواصل" إلى مفهوم "مجتمع الاتصال"، أي أن المحاضن الكلاسيكية للتنشئة البيت والمدرسة والحزب والجمعية والنادي والنقابة... يجب عليها أن تكون متصلة وليس متواصلة، لأنها ستكون خارج السياق إذا لم تفهم هذه التحولات.
مثلا ألتراس كرة القدم، في جزء من الثانية داخل الملعب وبحضور عشرات الآلاف تنطلق أغنية بنفس اللحن والإيقاع، بل تقوم هذه الجماهير برفع أشكال مختلفة من مظاهر التشجيع والاحتجاج تجعلك تخال أنها تجتمع فيما بينها على مدار الساعة وليس يوميا فقط، وهذا ما يعني الاتصال في ما بينها وليس التواصل.