في الجزء الاول من هذا الحوار مع الأستاذ سعبد بنيس، الاستاذ الجامعي، المتخصص في علم الاجتماع، نحاول الإجابة على سيل من الأسئلة: ماهي الطبقة الوسطى؟ ما هو الأجر الشهري لنعتبر صاحبه منتميا لهذه الطبقة؟ ماهو الأثر الذي خلفته السياسات الحكومية على هذه الطبقة؟...
توقيع الحوار الاجتماعي بين الحكومة والنقابات و"الباطرونا"، هل يمكن أن يضمن سلماً اجتماعياً لثلاث سنوات وتراجعا للاحتقان الاجتماعي؟
السلم الاجتماعي لا يبنى على توفقات مادية بل يبنى على توافقات رمزية. هذا التوافق كان على أساس زيادة في الأجور، وهذه الأخيرة إذا نظرنا إلى الواقع الاجتماعي وعلاقته بالقيمة المادية لا يمكن أن تحل المشاكل الاجتماعية.
الواقع الآن هو أن الطبقة المتوسطة أصبحت تشعر بأنها فُقرت. إذن هذه الزيادة في الأجور لم تمس بالدرجة الأولى الشريحة التي تصنف على أساس أنها صمام أمان المجتمعات.
وأشدد على أنه ليس الهدف هو التوافق بين الحكومة والنقابات، بل أثر هذا التوافق، وهنا يجب أن نطرح السؤال مباشرة: هل بعد سنة سيظهر أن الزيادة في الأجور قد أدت إلى خلق سلم اجتماعي؟ وذلك عبر الاستجابة لمجموعة من القيم.
وما يجب أخذه بعين الاعتبار هو تفكيك ما يرهق كاهل المواطن المغربي، مثلاً هل سيصبح قادراً على تأمين تأدية كراء منزل؟ وهل أصبح قادراً على ملء قفته الشهرية وتأمين حاجيات أسرته دون الحاجة للاقتراض؟
اتفاق الحوار الاجتماعي لم يشمل الطبقة المتوسطة، والواقع يخبرنا بأن من يحسبون عليها يجدون صعوبات كثيرة في تأمين معيشهم اليومي. الخوف اليوم هو إذا استمرت الأوضاع هكذا سوف نتحول إلى مجتمع بطبقة فقيرة متضخمة وطبقة غنية وبينهما فرق شاسع، دون أن ننسى أنه عبر التاريخ ضمان السلم الاجتماعي للأمم كان دائما مرتبطاً بوجود طبقة متوسطة تدافع عن حقوقها وفي نفس الوقت تلعب دوراً في التماسك الاجتماعي.
الحوار الاجتماعي إذا لم يعمل على إصلاح أوضاع الطبقة المتوسطة، سوف تستمر الاحتجاجات وتعود أكثر قوة إلى الشارع قبل انقضاء ثلاث سنوات.
ضمان السلم الاجتماعي للأمم كان دائما مرتبطاً بوجود طبقة متوسطة تدافع عن حقوقها وفي نفس الوقت تلعب دوراً في التماسك الاجتماع
*نسمع دائماً تفقير الطبقة المتوسطة وهو نفس الشيء الذي أشرت إليه في جوابك. كيف يمكن أن نفكك مظاهر هذا التفقير؟
أولا لا يمكن أن نغفل أن المستوى المعيشي قد ارتفع، والأجور لم تبرح مستواها.
مثلاً، إذا كنا نعتبر أن من يتقضى 10 آلاف درهم في الشهر ينتمي إلى الطبقة المتوسطة، سنجد أنه انطلاقاً من منطق عيش هذه الطبقة لا يمكن للأسرة أن يكون لها طفلين في مدرسة خصوصية وأن تمتلك سيارة ومنزلاً بهذا الراتب، دون الحديث عن إمكانية الادخار ومصاريف .السفر خلال العطل ومصاريف العلاجات والملابس.
عندما نقوم بتقسيم المصاريف بهذا الشكل بالنظر إلى مستوى المعيشة اليوم في المغرب، سوف نجد أن 10 آلاف درهم لا تمنح لمن يتقاضاها الانتماء إلى الطبقة المتوسطة.
الاشكال أن هناك وثيرة متسارعة ومتصاعدة لارتفاع كلفة العيش والأجور لا تبرح مكانها.
هناك شعورا جمعي بفشل المنظومة عامة وضياع بعض الامتيازات التي كانت تجعل فئات مجتمعية تعيش في رغد وتوفر أساسيات العيش وكمالياته.
*لكن لماذا لا نلمس أثراً مجتمعيا لاستقطاب استثمارات جديدة في المغرب ودخول مهن في القطاع الخاص.. يظهر أنها يمكن أن تعزز مكانة الطبقة المتوسطة؟
نعم استثمارات المغرب في تزايد، لكن دخل الفرد المغربي من بين الأقل في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، دون أن نضعه في مستوى المقارنة مع دول أوروبا.
ارتفاع الاستثمارات لا يعني مباشرة تعزيز الطبقة المتوسطة في المغرب، وهذا يعتبر نشازاً وتناقضاً. هناك اختلال في نجاعة هذه الاستثمارات لصالح تحسين مستوى معيشة المغاربة بتوفير مصادر دخل تضمن لهم مواجهة المصاريف اليومية.
خلاصة القول، مجتمع لا يملك طبقة متوسطة قوية ومتماسكة هو مجتمع مفتوح على فرضية الانفلات والانفجار.
ودعني أسوق لكم مثالاً، في السابق كان من الصعب تقبل أن الأطباء يخرجون للاحتجاج، وأقصد أطباء القطاع العام، كنا نضعهم في أعلى هرم الطبقة المتوسطة بالمغرب، وهناك فئات أخرى أصبحت تحتج في المغرب لم تكن تلجأ في السابق للشارع، يعني أن هناك شعورا جمعي بفشل المنظومة عامة وضياع بعض الامتيازات التي كانت تجعل فئات مجتمعية تعيش في رغد وتوفر أساسيات العيش وكمالياته.
*كيف يمكن أن نفسر التحاق فئات مجتمعية أخرى بالشارع للاحتجاج بغض النظر مطالب تحسين الدخل؟
يمكن تفسير ذلك بجيل جديد من الحقوق، ومن ضمنه قيمة الكرامة.
هناك فئات اجتماعية واسعة في المغرب تشعر يومياً بأن كرامتها تداس، لذلك أصبحنا نتابع أن الاحتجاجات تتفجر بناء على شعور بـ"الحكرة"، وهذه العبارة تحولت إلى شعار يرفع في جميع أشكال الاحتقان الاجتماعي.
*في سياق الحديث عن احتجاج مختلف الفئات الاجتماعية في الشارع، ننتقل للحديث عن تصاعد الاحتقان في قطاع التعليم. كيف تفسره؟
أولاً، يجب الإشارة إلى تطور مهم طرأ على احتجاجات من ينتمون لقطاع التعليم، وهو الحديث المستمر عن تسجيل سنة دراسية بيضاء، هذا تطور خطير ولا يمكن تجاهله هكذا.
ثانياً، هذه السنة اتسمت بدخول فئة أخرى للقطاع يسمون أنفسهم بـ"الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد"، وعودتهم إلى الحجرات الدراسية ليس قضية نهائية ، بل تم الأمر بناء على توافق مرحلي فقط. وإذا لم تستجب الحكومة آجلاً أو عاجلاً سوف يتصاعد مرة أخرى صوت من يدفعون بشعار "الإدماج أو البلوكاج".
ارتفاع الاحتجاجات في قطاع التعليم واستمراراها، مرتبطان بمفهوم "دولة الرعاية"، ودائماً ما تواجه الدولة احتجاجات قوية في القطاعات الحيوية المرتبطة بها. كما أن دخول مفهوم جديد للتوظيف في قطاع التعليم، حرك عند المنتمين إليه الخوف من فقدان امتياز الاستقرار والاستمرارية في الوظيفة العمومية.
أرى أن توجه الدولة لتزيل مفهوم التوظيف الجهوي في قطاع التعليم، جاء متسرعاً، لأن الجهوية الموسعة إلى اليوم لم تفعل كإطار لتكفؤ الفرص وخلق فرص للشغل، والجهات لاتزال إلى اليوم ملحقة إدارية للمركز.
لا يمكن أن تطلب من الشباب خريجي الجامعات عامة، وضع ثقتهم في التوظيف الجهوي، لأنه بنسبة لهم الوظيفة مع الدولة مركزيا هي التي تضمن عملاً دائماً مستقراً ومع أعلى أشكال الثقة وهي الدولة، إذن كيف سوف ينقل هذه الثقة إلى كيان مازال في طور النشأة.
ماذا تملك الجهات اليوم من استقلالية مادية وسياسية كي تنال ثقة الشباب الخريجين ومن بينهم الأساتذة، وهل اشتغلت الدولة لجعلها قادرة على خلق فرص الشغل وضمان استمراراها.
القول بأن الدولة سوف تتجه للتوظيف الجهوي، لا يجب أن يكون من منطلق حقن الشارع بمسكنات كي يهدأ، وأقصد هنا الحل الذي طرح أمام "الأساتذة المتعاقدين"، لأنه إذا كان هذا الحل مؤقتاً فقط وتدبير ا لمرحلة دون رؤية سياسية، سوف تعود احتجاجاتهم إلى الشارع بأشكال أقوى من السابق.