د. كمال القصير - مفكّر مغربي
لا توجد حاليا عاصمة للثقافة العربية بالمعنى الصحيح للكلمة. أمّا تبادل دورات إعلان المدن العربية عواصم للثقافة، فهو أمر جميل، لكنه أحد التجليات المباشرة لفقدان المركز الثقافي العربي، المؤثر في وجهة الثقافة العربية ومستقبلها. ومنذ أن أصبح الجميع على قناعة بانتهاء دور مصر الثقافي في المنطقة، فإننا لا نرى بوادر نشوء مركز ثقافي جديد. لقد تساقطت عواصم ثقافية منافسة أخرى، في بغداد ودمشق. إن التأثير يتجاوز الأنشطة والفعاليات، فهو مزيج بين السياسة والثقافة.
إن منح دولة صفة "عاصمة الثقافة العربية"، لا يعني كونها حقيقة تمتلك تأثيرا على واقع ومستقبل الثقافة العربية. إن مسألة التأثير محدّد أساسي، فنحن في المغرب لا نعرف الكثير عن ثقافة الرياض والدوحة والكويت، عندما يتم إعلان إحداها عاصمة للثقافة العربية. لكننا بسبب عامل التأثير، كنا نعرف الكثير عن مصر وبغداد ودمشق.
انهيار المركز الثقافي
المركزية الثقافية ترافق المركزية السياسية. ولذلك، نجد في النموذج الأوروبي أن الثقافة الألمانية والفرنسية قد صنعت مركزية في أوروبا، منذ عصر النهضة، تؤثر على باقي البلدان الأوروبية. ومهما تحطمت الأنظمة السياسية، لأسباب عديدة، فإن الثقافة تعيد بناء الدول من جديد، في ألمانيا وفرنسا وغيرهما.
وعلى مرّ التاريخ العربي الإسلامي، كانت الثقافة العربية مثل السياسة، تستند إلى فكرة المركز والأطراف. فمركز الثقافة إما في بغداد أو دمشق أو القاهرة شرق العالم الإسلامي. مع قيام المنافسة الثقافية في أزمنة عديدة من جانب عواصم في الغرب الإسلامي؛ مثل فاس والأندلس، لم تكن المركزية الثقافية تختفي من الواقع، وما أن تسقط عاصمة حتى تقوم مقامها أخرى. إن سقوط الأندلس ثقافيا وسياسيا قد سمح للقاهرة باستلام زمام المبادرة. وكذلك الأمر عند سقوط بغداد، مركز الخلافة السياسية والثقافية.
وإلى حدود الثمانينيات من القرن الماضي، كانت الثقافة العربية مستمرة في الاستناد إلى المركز المصري، وتأثيراته على الأطراف شعرا ورواية وفنا وعلوما إسلامية. لقد كانت المنطقة العربية تتغذى على المنجز الثقافي المصري، بشكل كبير، خاصة في برامج التعليم، سواء في بلدان الخليج أو المغرب العربي. وكان المعلم المصري بانتقاله إلى باقي الدول العربية يحمل معه ثقافته ومعرفته المصرية، حيثما حل وارتحل، وتنشأ عليها أجيال عربية كاملة. وقد ساهم هذا الوضع في حدوث مشترك ثقافي في المنطقة.
فطه حسين وعباس محمود العقاد وأحمد شوقي والمنفلوطي وتوفيق الحكيم شخصيات باتت تمثل الثقافة العربية، لا مجرد الثقافة المصرية المحلية فحسب. إن المشترك الثقافي يوحد الآراء والمشاعر تجاه القضايا العربية الإسلامية الكبرى، ويحُول دون بروز حالات الشذوذ الثقافي في المنطقة. فنحن لا نعبر سياسيا فقط، لكننا نعبر ثقافيا وشعوريا، في غالب الأوقات. لقد كانت قصيدة أو رواية حول فلسطين توحد الشعور وتضغط على صناع السياسة، في آن واحد. إننا نفتقد إلى حد أدنى من الوحدة الشعورية في المنطقة، بسبب فقداننا للمشترك والعصبية الثقافية.
إن كثيرا من البلدان العربية لم تكن تعرف طريقها نحو التخطيط لمستقبلها الثقافي بعد الاستعمار، إلا بالاسترشاد بالمنتجات المصرية. وقد منحت الثقافة والمثقفون لمصر أكثر مما منحته السياسة والسياسيون، وإن إساءة السياسة إلى مصر أكبر بكثير. وقد كان تراجع مصر من الناحية الثقافية سابقا بكثير على تراجعها السياسي. كما أن الضعف ثقافيا أعمق أثرا من الضعف سياسيا. إن التراجع الثقافي معناه فقدان القوة الناعمة، التي تتطلب جهودا عظيمة لبنائها.
الثقافة تشبه السياسة لحظة انهيار المركز؛ حيث تلجأ الأطراف في ردة فعل إلى هياكلها القومية المحلية، لإعادة بناء واقعها الثقافي. وعندما تنهار المراكز الثقافية، تضطر الأطراف إلى الالتفات إلى رصيدها الثقافي المحلي، وإحيائه بشتى الطرق، تعويضا للفراغ الذي يصيب المركز. إن غياب موجة ثقافية عامة في المنطقة يسمح بتقوية مشكلة الخلافات الثقافية الفرعية وتأثيرها في الشأن السياسي.
لقد كان تحويل رواية لتوفيق الحكيم أو طه حسين أو نجيب محفوظ إلى مسلسل في التلفزيون، كفيلا بخلق مزاج عربي عام. إن ربط الإنتاج الروائي الحالي بالإعلام بات أمرا صعبا، بسبب تراجع الذوق والخيال العربي. المثقف في المنطقة بات غائبا عن منازل الناس، بعد أن كان جزءا من يومياتهم، في الماضي. لقد عرف الناس العاديون نجيب محفوظ عبر مسلسل "الثلاثية" المشهور، وتحولت كلمة "سي السيد" إلى نموذج اجتماعي في تفسير الاستبداد الأسري. وعرفوا طه حسين برواية "الأيام" و"دعاء الكروان"، التي تحولت إلى عمل تلفزيوني.
يبدو بالغ الصعوبة في الثقافة العربية حاليا الربط بين الإنتاج الثقافي والعمل الإعلامي بأنواعه، لرداءة المنتج الثقافي وضحالة قضاياه. وقد نلتفت يمينا وشمالا، فلا نجد رواية عربية تستحق أن تدخل بيوت الناس عبر الشاشة. وعندما تشاهد فيلم "عمارة يعقوبيان"، الذي هو رواية لعلاء الأسواني، لا تعرف هل الخلل في الرواية، أم في إخراجها التلفزيوني، لشدة ضعف ما تعالجه من قضايا، بل يصعب مشاهدتها ضمن الأسرة العربية. وهناك حالة معاكسة وغريبة تحدث في مصر، وهي توظيف المنتج السينمائي في مناقضة الثقافة نفسها. وإذا أخذنا مثالا على ذلك بفيلم "مرجان أحمد مرجان"، فإنه يحقّر من شأن الشعراء والأدباء والمثقفين، بشكل ساخر.
عندما كتب طه حسين عن مستقبل الثقافة في مصر، بدأ بالتساؤل، هل مصر من الناحية الثقافية من الشرق أم من الغرب؟ وقصد بذلك هل الأسهل على المصري أن يفهم الصين واليابان؟ أم فرنسا وبريطانيا؟ لكنه خلُص إلى أن المصري ينبغي أن يتصل بتاريخه الخاص. وكان يعتقد أن مستقبل الثقافة المصرية متعلق فقط بتحديد وجهة الانفتاح والاستمداد. والواقع أن الإرادة السياسية هي العامل الحاسم في الموضوع. إن وضعية الثقافة، شئنا أم أبينا، داخل المجال العربي والإسلامي، ترتبط بطبيعة السلطان واهتماماته وأولوياته. وعندما كان الخليفة هارون الرشيد رجل سياسة بامتياز، لم تكن الثقافة مجالا للصراع. وعندما كان المأمون والقادر مثقفين محترفين، كان الصراع ثقافيا.
الوزير الحائر
حتى هذه اللحظة، لم تكتسب كلمة ثقافة درجة قوية في تعريفها، كمصطلح ومفهوم في النسق العربي، وفي الوقت نفسه، مازالت وزارة الثقافة العربية لم تكتسب أيضا تعريفا ووضعا واضحا في بنية نظام السلطة العربية، منذ الاستقلال. لكن وزارة الثقافة العربية تبدو هي الأضعف والأقل أهمية ضمن باقي الوزارات. وهناك حيرة في وظيفتها الحقيقية وفي نظرة الناس لدورها. فبعد أن كانت ذراعا لتصريف أيديولوجيا السلطة بين الناس، في مرحلة معينة، أصبحت مجرد مكان لإدارة الأنشطة الثقافية. وبهذا الوضع الغامض، فإن وزير الثقافة العربي حائر أيضا، يصعب عليه معرفة دوره ووظيفته تجاه المجتمع، من خلال موقعه. وعندما يضاف إلى وزارته الثقافة والشباب، فإن وظيفته تصبح مركّبة. لكنني على المستوى الشخصي، أحبذ هذا الأمر، لأن الشباب هم المخاطبون الرئيسيون بالثقافة.
وعندما يجلس أي وزير ثقافة عربي في مكتبه، كل صباح، ويشرب كوب القهوة، فيُفترض أن يكون على قناعة أنه وزير لأخطر ملف في الحكومة، التي ينتمي إليها. ويفترض به أيضا أن يقوم بتغذية المجتمع، فكرا وسلوكا، في مهمة توازي ما يقوم به وزير الاقتصاد، الذي يعمل على توفير الأمن الغذائي للناس.
وبغير هذا الشعور، فإن أي وزير ثقافة سوف يعتقد خطأ، أن عمله الأساسي هو إدارة النخبة المثقفة وما يتصل بها من مشكلات يومية، دون انتباه إلى أن الثقافة ليست هي النخب والأفكار. فأهم ما تضمه الثقافة في عناصرها، السلوك الاجتماعي العام. كما أن المشكلة الثقافية في العالم العربي ليست مشكلة أفكار فحسب، بل مشكلة نظام تفكير وسلوك. وعندما تتسارع وتيرة سقوط سلطة وجاذبية الكتب في المنطقة لدى الناس، فإن السلوك العام للأفراد، الذين باتوا لا يرون في القراءة فائدة أو متعة أو ضرورة، هو ما يقف وراء ذلك.
ويحق لنا أن نتساءل عن الحصيلة، التي سوف يقدمها كل مسؤول عن الشأن الثقافي العربي، لا من منطلق ما أنجزه من الأنشطة والفعاليات والمنتجات الثقافية، بل من منطلق درجة التأثير في السلوك العام للمجتمع. إن بلدانا؛ مثل اليابان أو كوريا الجنوبية، يحق أن توصف بأنها في أعلى درجة الثقافة، لا بمعيار المنتجات الثقافية، التي لا نعرف عنها الكثير، بل بمعيار التحضر في السلوك الاجتماعي. إن النجاح الحقيقي لوزارات الثقافة يظهر عندما نبدأ في مشاهدة الناس يقرؤون في محطات القطارات.
لا يمكننا أن نوجه أيّ لوم في تردي الأوضاع الثقافية العربية لأي وزير مسؤول عن الثقافة، وبالتأكيد، يمكننا لوم الإرادة السياسية، التي باتت ترى في الثقافة شأنا ثانويا، وفي المثقف مجرد مناضل يبحث عن تحسين أوضاعه المادية. أن تكون مثقفا أو مفكرا في العالم العربي معناه أن تقدم تضحية كبيرة، داخل سياق سياسي واجتماعي لا يعير اهتماما لهذه المقامات. ومعناه أن تقبل أن تكون في ذيل اللائحة، بعد المغني والرياضي.
في الحديث عن وجهة المستقبل، من الضروري إحداث التوازن في انفتاح الثقافة العربية بين الغرب وآسيا. لقد باتت الثقافة العربية مهددة بهذا السيل الكبير وغير المحسوب من عمليات الترجمة المتواصلة لعدد هائل من الكتابات الغربية، التي لا تستحق كلها أن تعرض على القارئ العربي. وأصبحت الكثير من الكتابات الغربية تزاحم المثقف العربي وتتغذى على قضاياه وتراثه، بشكل متزايد. وبالإضافة إلى سطحية الكثير منها في معالجة قضايا التراث العربي والإسلامي، فإنها باتت تقدّم صورة مشوهة عن العلم والأعلام المسلمين، في مواصلة واضحة لمهمة الاستشراق القديم، بحلّة أكثر تطورا وخطورة.