بقلم: هادي معزوز
"... حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يَحطِمَنَّكُم سليمانُ وجنوده وهم لا يشعرون..." ـ سورة النمل الآية: 18 ـ
سنتفق أولا أن لكلمة سورة في اللسان العربي معنى البناء أو استكمال البناء، ومنها نجد السّورُ والسارية، أما السورة من البناء فتعني حسب ابن منظور ما حَسُنَ وطال من البناء، وفي صحاح الجوهري فإنها تدل على كل منزلة من البناء، بينما تعني فيما تعنيه في معجم المعاني، الإحاطة والبناء والمنزلة الرفيعة، إذ تدل عبارة: فلان سوَّر المكان أي أحاطه بسور، مثلما سوّر المرأة أي ألبسها سوارا.
إن الغرض من التقديم المعجمي المختصر لعبارة سورة، تم وضعه لشأن بسيط يتجلى في ضرورة نزع الطابع الديني والقدسي عن هذه الكلمة، ولقد أوردناها كعنوان لمقالنا ليس باعتبارها حقلا دلاليا من حقل القرآن، وإنما كلمة دالة على درجة ما من البناء، القرآن كتاب مبني بناء له أوله وآخره ووسطه، لذا فإن بناءه لن تكتمل معالمه دون سور، هكذا فالسورة تعني اللبنة التي تكمل عمل البناء إلى حين الانتهاء منه، فإذا نزعنا سورة واحدة تختل معالمه وتصاب بالاضطراب، مثلما أن السور المتين قد يشوه منظره، ويُتهدد بالسقوط حينما نزيل منه لبنة واحدة. لذا فحينما سنتحدث في هذا السياق عن سورة النمل، فإن المرمى من ذلك يصبو نحو الدلالة الأدبية والمجازية والفلسفية، وليس نحو السياق الديني.
ستأخذ سورة النمل في هذا السياق معنى آخر: تأمل خط نمل يخرج من مسكنه ويسير وفق نظام محدد بدقة.. تأمل من الأعلى طريقا رئيسا به صفوف سيارات من مختلف الأنواع والأصناف.. للنمل صوت اسمه الدبيب.. للسيارات صوت اسمه الزعيق. صوت النمل لا يصلنا عبر الآذان وإنما عبر التأمل والقدرة على سماع صوت الصمت، صوت السيارات يزعج الآذان ويؤثر أيضا على الجانب النفسي من الإنسان. دبيب النمل نلمس فيه روح الصرامة والجدية والعمل، في حين أن زعيق السيارات نجده حمالا لمعاني ودلالات متباينة، دلالات تجمع بين العجز والتطلع والتمني والعمل الدؤوب والغش في العمل والسرعة من أجل السرعة، والسرعة من أجل مآرب تختلف باختلاف أصناف أشخاصها وشخوصها وأماكنها. خط النمل يجري دون أن تحده الأبصار، فإذا اعتقدنا منتهاه ألفيناه يتفرع خطوطا أخرى ينسينا الواحد منها الآخر. خط السيارات وهي تقطع المسافات لا ينتهي هو الآخر، فإذا قلنا أنه انتهى، نجد أنفسنا مرة أخرى أمام شوارع أخرى تبتلع السيارات والأشخاص، مثلما تبتلع الأسماك الكبيرةُ الأسماك الصغيرةَ.
النمل ظاهريا كائن وديع تدور حياته بدورة الفصول، والنمل جوانيّا كائن شرس يضمن بقاءه على حساب الكائنات الحية الأخرى، تأمل مجموعة منه وقد أخذت على عاتقها مهمة قتل حشرة تسير نحو الموت، حيث يتم اقتلاع أعضائها وهي حية دون شفقة أو ما شابه ذلك. وتخيل لو كنت أصغر بكثير من حجم النملة، حينها ستكون لقمة سائغة ووجبة شهية وقد تم تخزينها إلى حين حلول الشتاء. الإنسان يبدو بدوره على المستوى الظاهر منه، كائنا طيبا وخيرا بالفطرة، كائنا وديعا خطابه يحمل اللطف والتهذب والأدب والكياسة. والإنسان جوانيا ضرب من ضروب الحروب والأهوال والأسلحة الفتاكة، والجبروت والشراسة والتنكيل، وجشع أتى ويأتي وسيأتي على الأخضر واليابس وما تبقى من الأخضر وما علق من اليابس.
عندما كنا صغارا كان المؤدبون والمدرسون يقصون علينا القصص تلو القصص على تجارب النمل، وكيف توجب أخذ العبرة منها، بنشاطها وصرامتها وحبها للعمل، وكأن العمل ليس لعنة أو عبودية وإنما ترف وعنوان على الأصالة والنبت الشريف الطاهر للإنسان. وعندما كنا صغارا كذلك، كانت العجائز تحكي لنا قصصا عن أبطال شهام، وقد توجب أخذهم كقدوة وهم يعلموننا سحر وألق العيش في الحياة بكل تؤدة.
حينما كبرنا واكتسبنا جانبا كبيرا من بعد النظر، تأكد لنا أمر مهم وهو أن حيل المؤدبين والمدرسين والعجائز انطلت علينا إبان الصبا، ولن تنطلي علينا وقد اكتسبنا بدورنا جانبا مهما من الإنسانية، أي جانبا مهما من المكر والدهاء. حينما كبرنا تعاطفنا مع الصرار وقلنا في أنفسنا كي لا يسمعنا الصغار: ما الذي كان سيحصل لو أن النملة ساعدته وقدمت له قوتا يسد به رمق الجوع، دون أن تدعه عرضة لبرد الشتاء الذي أرداه صريعا؟ وكأن الموسيقى والمرح واللهو لعنة وقد توجب تخطيها.. قبح الله سعي نملة لجوجة لدودة حقودة حسودة. ورحم الله صرارا بسيطا ودودا شهيد الألحان والمغاني البكماء.
النمل والإنسان سيان، يستيقظ النمل مبكرا ثم يقضي بياض يومه وجزءا من سواده وهو يبحث عن القوت بدافع وغرض التخزين من أجل الشتاء.. يستيقظ الإنسان بدوره باكرا ثم يتجه للعمل سعيا لضمان قوت يومه وتخزين مما تبقى منه للمستقبل، يسير النمل على هذا المنوال من بداية خروجه من البيضة إلى نهايته، يحذو الإنسان هذا الحذو منذ طفولته في المدرسة إلى حين اشتغاله يوما تلو الآخر دون توقف يذكر إلى أن يهلك. كل الحشرات تضمن عيشها دون أن تمارس ما يمارسه النمل. وكل الحيوانات تضمن استمرارها في الحياة دون أن تفعل ما يفعله الإنسان، ذلك الحيوان العاقل. النمل والإنسان كائنان مصابان بمتلازمة سيزيف، أي العمل بمشقة وألم وعذاب دون الانتهاء منه.. إنهم عبيد لما جار الزمان عليهما به، إنهم سجناء لوهم اسمه الاستغلال من أجل التخزين والتخزين من أجل الاستغلال. إنهما شيئان يتطابقان مع بعضهما البعض في كل شيء، ويختلفان في شيء واحد وهو أن للنمل دبيب غير مسموع لنا، وللإنسان زعيق مسموع للكل.
إلى اللقاء.