ارتبطت في ذهن المغاربة أيام احياء موسمه بالمثليين جنسياً، وطقوس الشعوذة والسحر، في المقابل يرفض ورثته هذا التصنيف، ويشددون على لسان نقيبهم رشيد جمال حمدوشي، في تصريحه لـ"تيل كيل عربي"، على أن ضريح "سيدي علي بن حمدوش" هو للذكر والتربية الدينية والتقرب من الله.
"تيل كيل عربي" شد الرحال إلى موقع الضريح، نواحي مدينة مكناس، تحدث مع مثليين جنسياً حجوا إليه للبحث عن "بركة لميمة عائشة"، وتحدث هؤلاء في شهاداتهم عن سر ارتباطهم بـ"سيدي علي بن حمدوش"، كما جالس أحمد حمدوشي (70 سنة) أحد "شرفاء" الزاوية والقائمين على الضريح، والذي كشف في حوار مطول ينشر لاحقاً، الحقبة التي ظهرت فيها هذه الطقوس والسبب وراء ذلك، وكيف يعملون اليوم بتنسيق مع السلطات المحلية والدرك للحد منها.
في قرية صغيرة بجبل زرهون، على الطريق إلى مدن الشمال (شفشاون، تطوان...)، دفن "سيدي علي بن حمدوش"، وجعل مريدون من مرقده ضريحاً يحجون إليه كل ما حل اليوم الثاني من ذكرى المولد النبوي. ليال صوفية وأذكار وذبائح وأهازيج موسيقية تؤديها فرق "حمادشة" على طول سبعة أيام من بداية "الموسم"، الذي يعرف كذلك توافد الباحثين عن "البركة وقضاء الحاجة"، عبر التضرع لـ"لالة عائشة". يشعلون الشموع ويضعونها فوق حائط صبغ بالأسود بفعل دخان ما يشعلونه، يرشون ماء الزهر، ويحملون أطباقاً من الدوم تحتوي على الحليب والحناء والبخور والخبز، ويتزينون باللون الأبيض، هنا تظهر النسوة وهن يحملن "الهدية" مثل العروس في ليلة زفافها.
وبالموازاة مع كل هذا، يحضر المثليون جنسياً، لا يخفون في شهادتهم تعلقهم بموسم "سيدي علي بن حمدوش"، وإن كانوا لا يقصدونه هو بالضبط، بل يبحثون عن ما يسمونه "راحة البال والشفاء من عند الميمة عائشة".
"بركة عائشة"
في زاوية عند طريق فرعية تقود إلى خلف بناية ضريح "سيدي علي بن حمدوش"، تجلس شابة في الأربعينيات من عمرها، تنقش الحناء على يد شاب وهو يبادلها أطراف الحديث بصوت خفيض وناعم، وبالقرب منه يقف صديقه الذي انتهى قبله من تزيين يده اليمنى، قبل أن يبادر ويسأل فتاة اقرتبت منه وأرته هاتفها النقال، بنفس نبرة صوت رفيقه عن أصولها، لتخبره "كازا"، ويرد بالمثل"حتى أنا كازا، من العنق".
توجه "تيل كيل عربي" نحو الشابين، وبعد طمأنتهما، وجه سؤالاً مباشراً مفاده: "لماذا تختارون زيارة هذا الضريح بالذات؟" الجواب جاء على لسان أنس، وقال ضاحكا وهو يضع يديه على فمه "شكون حنا؟"، ليخبره صديقه "راك عارف علاش داوي، ياك بعدا ما مخبيش شي كاميرا كاشي في حويجك؟"
يقول الشابان في شهادتهم لـ"تيل كيل عربي"، إنهم يأتون هنا لـ"طرد ضغط ما يعيشونه طيلة السنة"، ويحضرون إلى هذا المقام كما يصفونه للبحث عن "بركة الميمة عائشة"، والتي يعتبرون أنها "أم الجميع، أم كل من هو مضطهد في المجتمع، وتقوم بالتخفيف عنه، لأنها ترافقه خلال زيارته".
أنس عبر عن ذلك صراحة حين قال حرفياً: "كاع لي فيه اللعبة (وهو يضحك) يزور هذا المقام. منين كنجي هنا كيكونو عظامي ثقال عليا، وغير كندوز الليلة الأولى كنخفاف"، رفيق أنس كان أكثر تحفظاً في تفاعله مع أسئلة "تيل كيل عربي"، لكن صرح بقدومه رفقة خالته، والتي تقوم بتنظيم "ليالي حضرة كناوية خاصة" كل موسم، ودأب على مرافقتها كل عام، ويأتي معه من يقاسمونه الانتماء إلى فئته.
غادر الشابان المنطقة حيث التقاهم الموقع، متوجهين نحو ما يعتقدون أنه مرقد "لالة عائشة"، وتركوا "النقاشة" مالكة تكلم نفسها. توجه "تيل كيل عربي" نحوها وسألها عن السر وراء انزوائه في هذه الرقعة المعزولة، وماذا يطلب هؤلاء الشبان وأمثالهم بالضبط من أنواع النقش بالحناء؟ قبلت مالكة البوح بصعوبة، وسألت بدورها عن وجود كاميرا مخبأة في مكان ما، بل بادرت بمد يدها والبحث عنها بين الثياب، قبل أن تسترسل في الحديث.
مالكة قادمة من مدينة أكادير، حاصلة حسب تصريحها للموقع على الإجازة في علم الاجتماع، تتحدث بلغة عربية فصيحة وبطلاقة، بعد تخرجها اختارت أن تغوص أكثر في "علم الروحانيات" كما وصفته، لتجد نفسها ملكاً لـ"ملوك الجان"، وتأتي كل عام لتؤدي مهمتها، ولا تغادر قبل أن يأمروها بذلك في المنام.
تعرف مالكة جيداً من يقصدونها، هنا سألت "تريد أن تعرف ماذا يطلب المثليون جنسياً مني؟" "نعم"، "سوف أخبرك بكل ما تريد، لكن قل لمرافقيك أن لا يقفوا مباشرة أمامي". وبعد تنفيذ طلبها، نزعت مالكة غطاء رأسها، وصاحت وإن بصوت خفيض "أنا نص امرأة والنصف الآخر رجل"، تسريحتها توحي بذلك، وتابعت "هؤلاء الشباب يبحثون عن نقش فيه نوع معين من النقط"، ثم كشفت عن ساقها، وأظهرت وشماً يحمل عددا من النقط، وقالت إن لها "علاقة مع ملوك الجن. أنا لا أنقش الحناء مثل الأخريات، بل أضع لهم ما يربطهم بالميمة عائشة، ويعبرون عن راحتهم بعد ما أنتهي".
مالكة فسرت ارتباط المثليين جنسياً بـ"الميمية عائشة"، بـ"أنهم يبحثون عن الأم، أغلبهم تعرض للضرب في صغره بسبب ظهور ميولته الجنسية، أو يعيشون أيتاماً أو مطرودين من البيت، لذلك يعتبرون عائشة أماً لهم، ولا يمكن منعهم من زيارة مقامها كل سنة".
بعد الفراغ من سماع شهادة "النقاشة" مالكة، عاد "تيل كيل عربي" إلى نقطة بداية مسار الهدية التي تحملها النسوة. صادف الموقع بداية إحداها، تتقدمها ثلاث شابات لبسن الأبيض، يرافقهن عدد من الشباب، في الخلف واحد منهم أسمر ويضع قبعة من القطن سوداء على رأسه، يتبع الهدية وهو يهتز على ايقاعات الموسيقى. وعند الوصول إلى مرقد "لالة عائشة" كما يعتقد من يقصدونها، زاد حماسه ورسم ابتسامة عريضة على مياه. بادر "تيل كيل عربي" بسؤاله: "نشطت؟" أجاب "نعم يا خويا، غير كنزور هذا المقام كيتفجا عليا الحال". قدم الشاب الأسمر من مدينة الرباط، ورفض الكشف عن هويته بعد سؤاله مباشرة عن الغاية من الحديث إليه، لكن لم يخفي ميوله بالقول "هذا مكتاب الله"، وتابع أنهم كانوا يحجون إلى الضريح قبل 6 سنوات دون مشاكل ودون أن ينتبه إليهم أحد، وعن تغير الأوضاع اليوم، لعن الشاب "فيسبوك ويوتوب" وصاح بنبرة احتجاج "الله ياخذ فيهم الحق شوهونا بالفيديوهات وحنا ما كنضرو حد".
بدوره يجد ابن الرباط راحته وضالته كل عام حين يزور زاوية "سيدي علي بن حميوش"، وعن معرفته بهذا المكان، أوضح أن من يتقاسم معهم نفس الميول الجنسي يتحدثون في ما بينهم عن "بركة تحل بهم وراحة وسكينة وتخلص من الضغوط حين يقضون أول ليلة هنا. سمعنا قصص ومغامرات زوينة نقلها لنا أصدقاء عن المقام، لهذا نأتي إليه كل عام، وإن تغيرت الظروف وأصبح الوصول إليه صعباً".
لماذا أصبح الوصول إليه صعباً كما قال ابن الرباط؟ الجواب جاء على لسان أحمد حمدوشي (70 سنة) أحد "شرفاء" الزاوية والقائمين على الضريح، وتحدث الأخيرة بصراحة مباشرة حين قال: "ليس فقط المثليون جنسيا من المغاربة الذين يأتون إلى سيدي علي بن حمدوش لزيارة عائشة، بل هناك أجانب كذلك يأتون من دول أوروبا، لكن مؤخراً بدأ التنسيق بين الشرفة والسلطات المحلية والدرك للحد من هذه الظاهرة، لأنها أضرت بصورة الضريح عند المغاربة".
حواجز أمنية محكمة
وجد الشاب يونس وهو من أبناء "سيدي علي" ويتابع دراسته في التكوين المهني بمدينة مكناس، ليلة أول يوم أمس الجمعة، نفسه أمام تفتيش دقيق من طرف عناصر الدرك الملكي، عند أحد حواجزه. وربط يونس ذلك، في حديثه لـ"تيل كيل عربي" بمحاولة رصد أي "مشتبه فيهم يقصدون الموسم، والمثليين جنسياً كذلك". هذا المعطى أكده صراحة أحمد حمدوشي، وصرح أن "رجال الدرك ومنذ ثلاث سنوات تقريباً، يوقفون السيارات الخاصة ووسائل النقل العمومي، وكل من ظهرت عليه علامات المثلية الجنسية ينزلونه ويسألونه عن هويته، ثم يأمرونه بالعودة من حيث جاء".
على طول 15 كيلومتر في الطريق نحو "سيدي علي"، وضع رجال الدرك الملكي ستة حواجز أمنية، يفتشون بشكل دقيق كل من يقصدون القرية حيث يقام الموسم، وينزلون من اشتبهوا فيهم من وسائل النقل العمومي، ثم يقومون بسؤالهم ويطلبون من البعض بطائق هويتهم.
قصد "تيل كيل عربي" عناصر الدرك عند رابع حاجز قبل الانعطاف يميناً وصعود منعرج يقود إلى القرية، سأل دركياً عن سبب كل هذا الاستنفار، أجاب أنهم يحرصون على سلامة من يقصدون الضريح خلال هذه الفترة، ويعملون على تجنب اختناق الطريق بسبب توافد عدد كبير من الزوار. و"ماذا عن رصدهم للمثليين جنسياً؟" أجاب الدركي ذاته حرفياً، أنهم "هنا لضمان أمن وسلامة الجميع مهما اختلف لونهم وشكلهم ودينهم"، ورفض بعد الالحاح في السؤال عن الخوض في هذا النقاش.
في المقابل، أكد أحمد حمدوشي في حواره مع "تيل كيل عربي"، وجود تنسيق بينهم وبين الدرك الملكي، لكنهم من وجهة نظره، لا يستطيعون منع توافد المثليين جنسياً على الموسم، ويفسر ذلك، باختيار عدد منهم الإقامة في إحدى القرى الثالث الأخرى المحيطة بقرية "سيدي علي"، ومنها يسلكون طرقا وشعابا فرعية بعيداً عن الطريق الرئيسية.
نقيب "الشرفاء حمدوشيين" رشيد جمال حمدوشي، يرى أنه "من المجحف ربط موسم سيدي علي بن حمدوش بطقوس الشعوذة والسحر والمثليين جنسياً"، وشدد في حديثه لـ"تيل كيل عربي" على أنهم "مسؤولون عن ما يدور داخل الضريح فقط، ويحرصون على أن تكون طقوسه مرتبطة بما تركه أجدادهم، والمتمثل في الذكر وقراءة القرآن وتنظيم ليالي السماع، وإذا ضبطوا أي سلوك آخر يتدخلون لمنعه".
وعن طبيعة تدخلهم، يروي أحمد حمدوشي واقعة حضرها بنفسه قبل ثلاث سنوات، وفي تفاصيلها: "كنت داخل الضريح وجاءت طائفة رفقة عدد من الشباب لا يمكن أن تميز هل هم إناث أم ذكور، بل يضع أحدهم خماراً أبيضاً شفافاً على وجهه ويحمل زربية بين يديه، جاء أحد الشرفاء وقال لي هؤلاء شواذ، وفعلاً قاموا بطقوس غريبة، لكن تدخلنا بسرعة لإخراجهم من الضريح".
أمام كل الشهادات والروايات تضيع حقائق كثيرة، لأن تاريخ زاوية "سيدي علي بن حمدوش" شفوي فقط ولم يكتب، لذلك وصل الأمر حسب أحمد حمدوشي حد "تطاول البعض ووصف سيدي علي بإمام المثليين جنسياً وهذا غير صحيح". وأوضح حسب روايته أن هذه الظواهر انتشرت حين ألم مرض بأخ رشيد جمال الحمدوشي، نقيبهم الحالي، وعندما لم يعد يقوى على تدبير شؤون الضريح وما يحيط به، فوض المهمة لنجله، لكن الأخير وبحكم صغر سنه، لم يكن يمتلك التجربة ولم تكن كلمته مسموعة عند الطوائف التي بدأ عددها يتزايد، ودخلت أخرى إلى الموسم لا تنتمي إلى الطائفة الحمودشية، وبسبب كل هذا تنامت طقوس الشعوذة وغيرها، لذلك قرروا منح الأخ جمال رشيد حمدوشي مهمة النقيب، وبحكم رصيده الجامعي ووعيه ومعرفته، يقول أحمد، بدأ في وضع أولى لبنات القطع مع شوائب احياء تراثهم وإن كانت المهمة صعبة، يشدد المتحدث ذاته.