لنبدأ بالعنوان.. يبدو عنوانا مخادعا حمال أوجه، أو لنقل إنه يحتمل تأويلات متعددة، ويفتحنا على ميادين عدة. عنوان نستشف منه دلالات ورسائل إلى من يهمه الأمر، وهو أيضا دعوة وتوصية لأولي الأمر.. السيناريو والحوار مفهومان ينتميان إلى الحقل السينمائي، لكنهما باتا اليوم يشغلان العديد من الميادين. في الأمن كما في الجريمة، وفي التربية كما في السياسة، في التاريخ والعدل، كما في الرياضة وعلم الأوبئة.. لن أخدع القارئ بهذا وإنما سأعود به إلى الأصل الذي وضعت من أجله هذه المفاهيم، إنه السينما بقدها وقديدها، والسينما المغربية على وجه الخصوص.
وردت كلمة سيناريو سنة 1746 في الميدان المسرحي، لكنها بصمت على حضورها الكبير في السينما عام 1907 حيث كانت تعني الصياغة المتنوعة لحلقات الفيلم، وهي بذلك تصب في شيئين، التركيز على تفاصيل التفاصيل من جهة، ووضع الأحداث بشكل منتظم ومتسلسل من جهة أخرى. ولا أدل على ذلك التعريف الذي أخذته عام 1885 والذي يعني التقدم والتسلسل في أحداث ووقائع الفيلم.
لنولي بظهورنا عرض دلالات السيناريو ولنتقدم شطر الرسم، أو الفن بصفة عامة، لنتساءل مثلما تساءل الفلاسفة دوما: ما الغرض من الفن؟ ولماذا تترك فينا الأعمال الفنية الخالدة أثرا وجدانيا بليغا؟ ما الذي تحمله في طياتها غير تقليد الواقع أو رفع الواقع على مستويات خارقة؟ في الفن سحر لا يوصف لأنه بكل بساطة يتحدث لغة الوجود ويعبر عنه، سواء كان قصيدة شعرية أو لوحة أو مشهدا مسرحيا وسينمائيا.. تاريخ الفن لازال يحتفظ بهذه الأعمال الخالدة وينسى بكل عجرفة وكبرياء أشباه الأعمال الفنية.. في المقابل ما الذي يوجد في هذه الأعمال الفنية غير تقاسيم شخصيات خيالية إما بجمالها أو تجاعيدها، إما ببرودتها أو تعابيرها، وإما بحركاتها البهلوانية أو برزانتها..
لم يكن غاليلي عالما فذا فحسب، لقد كان فنانا مجنونا عندما تأمل قبة السماء وفكر في صنع تلسكوب يقربه أكثر من الكواكب والاجرام السماوية. لقد كان شخصا حاد البصيرة وهو يعد أنواع الحركات الممكنة، أليس في هذا الأمر تركيزا على أدق التفاصيل وهي لعمري نشاط فني قبل أن يكون من العلم نسيبا. ولنعرج على نيوتن كي نتساءل بغرابة: ألم يلاحظ ملايين الناس قبل عالمنا سقوط الأجسام؟ إن ما جعل من نيوتن اسما خالدا هو نظرته الفنية للسقوط والتي جعل منها بعدئذ قانونا فيزيائيا لا محيد عنه.. لذلك وتبعا لذلك، نرى في الفن شيئا نعيشه كل يوم، لكن سحر الفنان يكمن في طريقة تصويره ووصفه والتعبير عنه، الفنان يقف على التفاصيل ثم يطورها، يمدد اللحظة الزمنية ويجعلها خالدة ليس في امتدادها وإنما في جمودها..
إن القاسم المشترك بين كل الأعمال الخالدة وفي شتى الميادين هو التمكن من الشرح بطريقة دقيقة ومتسلسلة لا تترك البياض ولا الفراغ، ولا شك أن الشرح إنما يمتح من الأصل اللغوي الذي أعطيناه سابقا للسيناريو، من ثمة فإن كل سيناريو لا يتميز بهذه الخصائص إنما سيسري عليه مثل ما سرى على سابقيه من الأعمال التي سيطويها النسيان..
سأطوي كل ما قلته آنفا، كي أقول أني كتبت أكثر من مرة حول معضلة السيناريو في الصناعة السينمائية والتلفزية المغربية، ربما لن نسميها أزمة لأنها لم تعش مرحلة الأوج كي تعرف الأزمة، هي مرض مزمن عانينا معه طويل وسنعاني منه على الأقل في السنوات المقبلة أي على المدى القريب، فكيف يعقل مثلا أن يكون مخرج الفيلم هو كاتب السيناريو والحوار وصديق المنتج إن لم يكن هو المنتج والمسؤول عن الكاستينغ وإدارة الممثل، بل إن الطاقم التقني أيضا إما أن له قرابة معهم أو شيئا من هذا القبيل، والدليل على ذلك أن جل الأعمال تعرف ممثلين حصريين مع مخرج حصري ومنتج حصري وإعلام حصري أيضا..
ألا نشم من هذا الأمر رائحة الفن من أجل المال ـ هذا إن كان فنا طبعا ـ وليس الفن من أجل الفن؟ في المقابل كيف يعقل مثلا أن يكون بطل الفيلم طبيبا نفسيا دون العثور على حقل دلالي نفسي، ودون الاطلاع المستبين على كبريات النظريات النفسية؟ وكيف أمكننا كتابة فيلم حول الجريمة مثلا دون العودة إلى ما جادت به نظريات علم الإجرام وما أكثرها؟ هل يعقل أن يكون الحوار بسيطا إلى درجة الفراغ المهول ثم يحمل صاحبه لقب المخرج؟ بأي معنى سنفسر لعب فيلم في منطقة ما من المغرب بينما أبطاله يتكلمون نبرة منطقة أخرى؟ ألا يجب أن يتطابق التصوير مع السيناريو من أجل وضع المتفرج أمام إطار واحد وليس إطارين متباينين هذا دون الحديث عن الموسيقى التصويرية؟ لا أعتقد أن العبرة تكمن فيما هو تقني أو مادي، والدليل أن السينما الإيرانية مثلا تحصل على كبريات الجوائز دون الإغراق في الجانب التقني، حيث تنال قوتها من السيناريو الذي يقف على أدق التفاصيل، ومن الحوار الذي يبقى وفيا لفضاءات الفيلم، ومن تلك اللغة الأدبية التي تضفي الطابع الفني على صناعتهم السينمائية، وإن كان في الأصل مجرد تقليد لما يمكن أن نعيشه مرات لا متناهية في حياتنا اليومية دون أن نعيره أدنى انتباه.
على العموم لنعترف بهذا، ولنتخلص من الزبونية في اختيار الأفلام ودعمها من المال العام.. ليقف المخرج مطولا أمام المرآة وليعترف بما له وما عليه.. ليذهب الممثل كي يتعلم أكثر ولينزع عنه موضة التحول إلى مخرج في رمشة عين.. نعرف سبب ذلك طبعا.. لكننا نعرف أكثر أن السينما المغربية لو بقيت على هذا الأمر فإنها ستبقى ضيعة لأسماء تقضي بياض يومها وسواده في الاستغلال الفاحش للمال العام وتعتبر نفسها من أهل الفن وما هي بذلك.. الفن تكوين مستمر أولا، لكنه سحر وروح لا يكتسب ولا يُتعلم فقط، وإنما يتم الإحساس به وممارسته في كل شيء.. طاب يومكم.