إدوي بلينيل، مؤسس موقع "ميديا بارت" الشهير بفرنسا، من الوجوه الثقافية والإعلامية المعروفة بمواقفها الصريحة والمدافعة عن الإعلام الحق وعن الديمقراطية الصادقة. التقته "تيل كيل" في الصويرة - حيث شارك في فعاليات منتدى حقوق الإنسان على هامش مهرجان كناوة وموسيقى العالم - وكان معه هذا الحوار.
تميزت الانتخابات الأوروبية الأخيرة بالصعود القوي للأحزاب القومية وأحزاب اليمين المتطرف. كيف تفسر هذا الاختراق؟
إن صعود اليمين المتطرف والحركات التي تعوض مُثُلَ المساواة بانغلاق الهويات ليس مهلكا. فهذه الأيديولوجيا كانت دائما حاضرة وستظل كذلك. وقد صارت قوة سياسة وانتخابية لأن السلطات القائمة والحكام يساعدونها، أما الشعوب فلا تكون عنصرية وكارهة للأجانب تلقائيا.. وليست منغلقة بل تعيش في حوار مع العالم.
ولكن لماذا تستسلم الشعوب لهذه الإيديولوجيات وتصوت على الأحزاب المعادية للأجانب والإسلام؟
لأن الحكومات، سواء كانت من اليمين أو اليسار، تبنت ومنذ 30 عاما إيديولوجيا اليمين المتطرف بانخراطها في الحديث عن الهوية والإسلام والخطر المرتبط بالمهاجر والمسلم.
فقد اختارت تلك الحكومات هذه الطريق بدل الوقوف سدا منيعا في وجه اليمين المتطرف، وبدل الدعوة إلى خيالات منافسة ومزاحمة له: خيال الحرية الذي يدافع عن الحقوق الأساسية، وخيال المساواة الذي يرفض كل أشكال التمييز، وخيال الإخاء من خلال سياسية اجتماعية ناجعة.
لدينا حكام ليسوا في مستوى التحدي التاريخي، الذي يجب عليهم رفعه في وقت تواجه فيه مجتمعاتنا أزمة ديمقراطية واجتماعية واقتصادية وإيكولوجية.
تذكروا نيكولا ساركوزي، ماذا فعل بعد انتخابه في 2007؟
أنشأ وزارة الهجرة والهوية الوطنية، وعين اشتراكيا سابقا على رأسها ! أما خلفه فرانسوا هولاند، فلجأ إلى سلاح نزع الجنسية الفرنسية لمواجهة صدمة الهجمات التي استهدفت فرنسا. لقد قام الرئيس اليساري بما كان يطالب به اليمين المتطرف تماما. في حين رد إيمانويل ماكرون على مطالب "السترات الصفر" باتخاذ قرار تنظيم نقاش حول الهجرة كل سنة، مع أن تلك الحركة لم تشر أبدا إلى الهجرة بل كانت تشدد على الديمقراطية والإنصاف الاجتماعي. ها نحن نلمس قلب المشكل: لدينا حكام ليسوا في مستوى التحدي التاريخي، الذي يجب عليهم رفعه في وقت تواجه فيه مجتمعاتنا أزمة ديمقراطية واجتماعية واقتصادية وإيكولوجية.
مع ذلك هناك خطاب يقول إن شعوب أوروبا والولايات المتحدة لم تعد تجد نفسها في بلدانها، وأن موجات المهاجرين واللاجئين غيرت وجه وثقافات هذه المجتمعات الغربية...
لا أتفق مع هذه الرؤية. فعلا نسمع هذا الخطاب في وسائل الإعلام ويحمله بعض محترفي الدعاية وبعض الإيديولوجيين الذين لا ينتمون إلى الشعب. فلما يعبر هذا الأخير عن نفسه، تجد أن الأمر مختلف تماما. خذ مثلا أصحاب "السترات الصفر"القادمين من أوساط غير منظمة، والذين لا ينتمون إلى النقابات ولا الأحزاب. إنها حركة تتألف من العمال والنساء الوحيدات، والمتقاعدين، والأشخاص الذين يسعون للفكاك من العزلة. قد يكون بعضهم صوَّتَ لصالح اليمين المتطرف في الماضي، وقد تكون لديهم بعض الأفكار المسبقة، ولكن لما التقوا في متلقى الطرقات ونزلوا إلى الشارع، عم كانوا يتحدثون؟ ليس عن الهجرة والهوية الوطنية أبدا، بل خاضوا في شؤون الديمقراطية والمجتمع والقضايا المشتركة المتعلقة بالمساواة.
ها أنت ترى أن الناس لما ينخرطون في النضال، لا يناقشون المخاوف والهواجس، بل يتحدثون عن القضايا المشتركة. والفيديو الأكثر شعبية والأكثر مشاهدة من طرف السترات الصفر هو ذاك الذي يتضمن أغنية ألفها سائق قادم من إفريقيا. نعم لقد تحول مهاجر من أصول إفريقية، بفضل أغنية، إلى بطل للسترات الصفر(...)
الفيديو الأكثر شعبية والأكثر مشاهدة من طرف السترات الصفر هو ذاك الذي يتضمن أغنية ألفها سائق قادم من إفريقيا. نعم لقد تحول مهاجر من أصول إفريقية، بفضل أغنية، إلى بطل للسترات الصفر
نتابع منذ بضع سنوات الآن، ظهور أنظمة حكم قوية يقودها رؤساء دول متسلطون، ويتم تقديم النتائج الاقتصادية التي يحققون على أنها نموذجية (الصين، روسيا، تركيا...). فهل أصاب الوهن الديمقراطية؟ وهل فقدت جاذبيتها وسحرها في العالم؟
إن الوهن لم يصب الشعوب بل مس الحكومات. لقد تعبت هذه الأخيرة من الديمقراطية وتخشى الشعوب. بالنسبة إليها الديمقراطية تقتصر على إعادة انتخابها. وفور ما تحصل على أصواتها، تطلب من الشعوب العودة إلى وضع العبودية، وتسعى للحصول على كل السلطات خلال مدة ولايتها. وهذه هي حالة بوتين، أردوغان، بولسونارو، وماكرون إلى حدا ما.. وهذه حالة ترامب بطبيعة الحال.
بالفعل لدينا حكومات منبثقة من صناديق الاقتراع ولكنها تدير ظهرها للديمقراطية، والحال أن هذه الأخيرة لا يمكن اختزالها في التصويت وقانون الأغلبية. إن الديمقراطية ثقافة تقوم على ضمان الحقوق الأساسية، وتتوفر على سلطات وسلطات مضادة، وفي بعض الأحيان على جموع مشكلة بالقرعة وجموع مواطنة، وحرية الصحافة، وحق التظاهر والاحتجاج...والديمقراطية كذلك هي احترام حقوق الأقليات التي تطرح على أجندة المجتمع قضايا جديدة. هذه هي الحيوية الديمقراطية. لدينا في قمة هرم السلطة أشخاص فقدوا الثقة في الديمقراطية .. أشخاص يسيئون إليها.. أشخاص يتوجسون من الشعوب. بالمقابل لدينا شعوب تحاول إعادة ابتكار الديمقراطية. إنه سباق تنطبق عليه عبارة المثقف الإيطالي أنطونيو غرامشي:" العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد يتأخر في الظهور، وفي هذه المنطقة الرمادية تبرز الوحوش".
يجب الوقوف إلى جانب المجتمع، لأن سياسة الأسوأ تأتي من حكام وهم ليسوا سوى سحرة مبتدئين. فهم يدعون حمايتنا، ولكنهم يخلقون فقط اشكال جديدة من الفوضى. انظر ماذا فعلت الولايات المتحدة على المستوى العالمي: خلقوا الدولة الإسلامية، في إطار تحالفهم مع العربية السعودية، وبعد غزو العراق.. خلقوا الوحش الذي يدعون محاربته.
وبالتالي يتعين علينا تقوية المجتمع وحركته، يجب على كل واحد منا التصرف وفق قولة الشاعر إدوارد غليسون: تصرف من موقعك وفكر مع العالم.
لدينا في قمة هرم السلطة أشخاص فقدوا الثقة في الديمقراطية .. أشخاص يسيئون إليها.. أشخاص يتوجسون من الشعوب. بالمقابل لدينا شعوب تحاول إعادة ابتكار الديمقراطية.
إن مكانة الإسلام في أوروبا حاضرة بقوة في وسائل الإعلام. ما رأيك في كل هذه النقاشات التي تنزلق أحيانا إلى معاداة الإسلام؟
في المراحل الانتقالية وفترات الأزمة التي تمر منها الحداثة، تلجأ المجتمعات إلى تحديد كبش فداء رئيسي لتمرير مبدأ "عدم المساواة الطبيعية" - وهو عكس حقوق الإنسان- وجعله مقبولة من طرف الجميع.
إذن نحدد كبش الفداء الرئيسي وندعي أنه ليس مثلنا، بل أقل منا شأنا ومرتبة، ويشكل خطرا علينا. عرفنا هذه الوضع في أوروبا مع معاداة السامية الحديثة، ومع أشكال أخرى من التمييز التي تخلق تراتبية بين البشر (العنصرية، التمييز ضد المرأة، التمييز ضد المثليين...)، وتدخل في هذا الإطار. معاداة الإسلام التي نلمس في أوروبا والولايات المتحدة والصين وروسيا.(...) إنهم يتصرفون إزاء المسلمين كما فعلوا مع اليهود، الذين كانوا يعتبرون خطرا، واداة لتسلل البولشيفية، وتم تصويرهم على أنهم تجسيد لسلطة المال والأبناك. واليوم نقدم المسلم على أنه تجسيد للعنف والرعب. بل ويتم ربط المسلم بالمال، بسبب ثراء الإمارات الخليجية والعربية السعودية، ونحوله إلى شكل من اشكال الخطر الخارجي. يجب محاربة هذا التوجه ولكن دون السقوط تماما في السداجة، لأنه قد تكون هناك إيديولوجيا قاتلة في حضن الإسلام، تماما كما يوجد في إسرائيل أناس يعتبرون أنفسهم ورثة اليهود المضطهدين، ويقترفون أمورا مرعبة ضد الفلسطينيين.
حظي كتابك "من أجل المسلمين" بترحيب واسع من طرف العديد من المسلمين بفرنسا، لأنه ينهض بمهمة الدفاع عنهم...
لقد حررت "من أجل المسلمين" ليكون كتابا بيداغوجيا، وكان يمكن ان أسميه "من أجل المساواة" أو "من أجل الأقليات" بل "من أجل فرنسا"، لأنني أعتقد أن فرنسا هي اليوم مختبر لهذه القضية كما كانت مختبرا لمعاداة السامية في نهاية القرن التاسع عشر. لقد قررت تأليف هذا الكتاب بعد أن سمعت في الإذاعة مثقفا يوضح أن هناك مشكل مع الإسلام في حد ذاته، كدين وكمعتقد. مثل هذا القول قاس وعنيف جدا ! فهذا شبيه بالقول في زمن آخر إن هناك مشكل مع اليهود لأنهم يهود، أو القول في المغرب مثلا إن هناك مشكل مع المسيحيين والعمل على شيطنتهم(...)
كنت مدير التحرير بيومية "لوموند" لمدة 25 سنة، قبل أن تؤسس موقع "ميديا بارت"، الذي يعتبر حاليا نموذجا بفضل جودة تحقيقاته ونظرا لنموذجه الاقتصادي القائم على الاشتراكات. هل مازالت الصحافة المكتوبة والعمل الصحافي عموما قابلة للحياة؟
طبعا، فقط يجب على المرء أن يكافح. لقد جاءت "ميدبا بارت" بعد عدة إخفاقات: الأزمة الاقتصادية بالصحافة، تعدد المخططات الاجتماعية، إحباط الصحافيين، فقدان ثقة الجمهور... قلنا يجب التوقف عن الشكوى ونبرهن للجمهور أننا نكافح لاستعادة ثقته. كان شعارنا "الكفاح من أجل قيمة المعلومة". وكان يجب علينا، أولا وقبل كل شيء، أن نبرهن على أن معلوماتنا نافعة ومفيدة، ونعمل على أن يواصل الناس، سواء كانوا متفقين مع مواقفنا كصحافيين أم لا، الإيمان بأن معلوماتنا تساهم في تسليط الضوء على حالة مجتمعنا، وعلى السلطة، وعلى العالم.
إن الطابع النفعي للمعلومات وقيمتها الديمقراطية هي سبب اعتماد مبدأ الاشتراك، لأننا نعتقد أن قراءنا هم وحدهم الذين سيشترون خدماتنا، وأننا مستقلون فعلا، وأن دعم قرائنا هو وسيلتنا الوحيدة للقيام بمهنتنا. تطلب منا الأمر ثلاث سنوات لتحقيق التوازان الاقتصادي, ومنذ ذلك الحين، كان النجاح في الموعد، وهو نجاح يقوم على الثقة، ويضخ نسمة من الشباب في أوصال مهنة الصحافة.
إن هذه المهنة التزام بالعمل على تحقيق الحق في المعلومات، وهو من الحقوق الأساسية للمواطنين(...)
إن دورنا كصحافيين يتجلى في البحث عن أسرار الأقوياء وكشفها للشعب. فالذي يمارس مهنة الصحافة يقوم نوعا بما يقوم به "روبن هود".
في نظرك، هل تمثل الشبكات الاجتماعية فرصة للصحافة أم تشكل تهديدا لها، في الوقت الذي يجري فيه الحديث أكثر فاكثر عن التضليل والأخبار المزيفة؟
إنها تكنولوجيا تضاعف من حجم ما كان موجودا دائما، أي الإشاعة، البروبغاندا، الأخبار المزيفة. إنه الجانب المظلم للشبكات الاجتماعية، ولكنها تبقى بالخصوص وسيلة لتقاسم المعرفة. إنها "شارع رقمي" نحاول فيه الرفع من مستوى النقاش العمومي. وإذا دققت النظر سترى أن من يحرصون على الإسفاف في هذه الشبكات ليست الشعوب بل السلطات السياسية، على غرار ما يقوم به دونالد ترامب و"تويتاته". لا يجب شيطنة التكنولوجيا، فهي ليست لا بالخيرة ولا بالسيئة.. هي في نهاية المطاف ما نريدها أن تكون. وهذه معركة أخرى علينا خوضها.
ترجمة بتصرف عن "تيل كيل"