كتبه: محمد عبد الوهاب رفيقي
شهد المغرب خلال منتصف القرن الماضي نقاشات دينية ساخنة، وردودا علمية رصينة، كان من أبرزها ما دار بين اسمين كبيرين من أعلام المرحلة، أقصد شيخ الإسلام بلعربي العلوي والمفسر الفقيه محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي، وقد كان من أبرز ما دار بينهما من مناكفات علمية النقاش حول بعض أحاديث صحيحي البخاري ومسلم، وكان بلعربي العلوي ينفي نسبة بعضها للنبي عليه السلام، بل يقسم بطلاق زوجته على ذلك، كما فعل مع حديث سحر النبي وشفاعته يوم القيامة ونزول عيسى أخر الزمان، وهو ما لم يستسغه الحجوي الثعالبي فكتب ردا على ذلك كتابه المعروف: "الدفاع عن الصحيحين".
النقاش إذن حول البخاري ليس وليد اليوم، بل هو قديم حتى عند نخبة الشرعيين والفقهاء، وإن كان السياق الذي نعيشه اليوم، يختلف في كثير من خصائصه عن السياقات السابقة، خاصة من حيث تدفق المعلومة وسهولة الوصول إليها، مما أدى لاتساع دائرة المناقشين وعدم حصرها في المختصين والخبراء، ومن حيث اتساع هوامش الحرية مع المتغيرات التي عرفتها المجتمعات الإسلامية بالتوازي مع ثورة التكنولوجيا.
الشاهد من هذه النوستالجيا التاريخية هو التأسف على زمن كان فيه النقاش حرا وغير محفوف بالاتهام والأحكام الجاهزة، قبل أن تفد علينا رياح الشرق المثقلة بشحنات الانغلاق والتعصب والسطحية، تلك الرياح التي حاربت سنة طبيعية من سنن الخلق والتاريخ الإنساني، وهي سنة التجاذب والاحتكاك الفكري والمعرفي.
اصطدام الأفكار وتعارضها والحوار حولها مهما كان مضمون النقاش وموضوعه ظاهرة صحية لا يمكن إيقافها، وكل المحاولات لمنعها هي خارج الطبيعة، لأن المجتمع هو من يقرر الحاجة للأفكار وهو من يحكم عليها إما بالبقاء والاستمرار أو الزوال والاندثار، بل حتى لو قررت السلطة السياسية أو الدينية التعرض لفكرة أو منعها فلن تنجح في ذلك، لأن قوة الفكرة تمنحها طاقة ذاتية تساعدها على الانتشار والاستمرار، وضعفها يؤذن بزوالها مهما كان لها من قوة دفع خارجي.
النقاش إذن هو حالة صحية مطلوبة، وإن كان هذا النقاش لا بد له من ضوابط يخضع لها حتى لا ينحرف إلي تأزيم المجتمع وخلخلة سلمه الاجتماعي مما نراه اليوم في نقاشاتنا بكل أسف، ومن أهم هذه الضوابط في نظري الأدب في خطاب المخالف، وتجنب التجريح والشخصنة ومحاولة النيل منه، في مراعاة تامة لما ينبغي أن يكون كل البشر من احترام، مهما كانت درجة الخلاف كبيرة ومتسعة.
ولا يكون النقاش مثمرا ولا فعالا ما لم يكن صادقا ليس له من هدف إلا الحقيقة والمصلحة، أما حين يتحول النقاش إلى مطية لبلوغ أهداف خاصة، أو إلى معركة للانتصار للذات وتمجيدها، أو للجماعة والتنظيم ، يفقد كل صدقيته وكل ثمرة مرجوة منه، ويخرج من إطار العلمية التي لا بد منها لنجاحه، إلى حلبة للمصارعة وميدان لتفريغ حظوظ النفس وأهوائها.
جميل ما نراه اليوم من خروج هذه النقاشات من طابعها النخبوي إلى مجال التداول العمومي، جميل أن يكون لمختلف أطراف المجتمع رأي في عدد من قضايا الفكر المطروحة للنقاش، فقد انتهى عهد الاحتكار والوصاية، ولكن ما ينبغي شجبه ومنعه، هو التقوي بالمجتمع أو حتى بالسلطة، لنصرة طرف على الآخر، فقد رأينا كيف كان انتقال النقاش مع فرج فودة من الكتب إلى الندوات العامة و المناظرات التلفزيونية سببا في ارتكاب جريمة شنيعة في حقه، لذلك لابد للمتصدي لمثل هذه السجالات من لياقة علمية ونفسية تؤهله للمحاججة والمناظرة.
عودة لما أثير حول صحيح البخاري من لغط، لا بد من التأكيد أولا على أن الكتاب هو مجهود بشري، لا قدسية له ولا عصمة، معرض للصواب والخطأ قابل للنقد والمراجعة، خاضع لتأثيرات البيئة والمحيط والسياسة، لكن الإنصاف يلزمنا أيضا بالاعتراف بأنه مجهود بشري جبار إذا وضع في سياقاته التاريخية والمعرفية، لابد من الاعتراف بكل ذلك الجهد الكبير في سياق يصعب فيه الوصول إلى المعلومة، وتنعدم فيه وسائل التوثيق المتطورة، فلولا البخاري لكنا أمام ملايين الروايات المتعارضة والمتناقضة والمشكلة وليس فقط أمام عشرات منها هي أساس ما تعرفه الساحة اليوم من سجالات حول الموضوع.
لقد كان البخاري من أول من مارس عملية غربلة التراث ونقده، فقد انتقى الأربعة آلاف حديث التي تضمنها كتابه من بين ستمائة ألف حديث، ولولا هذا الجهد لما بلغتنا كثير من الأخبار المساعدة لنا في فهم كثير من السياقات وتحليلها، ولولا ما قام به لكنا اليوم أمام تراث ضخم من الخرافات والأكاذيب نناقش شكل التعامل معها، وكيف نقنع العقول بخرافيتها.
لكننا في مقابل هذا الاحترام لجهد الرجل وتكريسه لجزء من حياته ووقته للإنتاج ، لابد من الاعتراف أيضا بأن السياق التاريخي لإنجاز هذا العمل، جعله يتضمن عددا من الروايات التي تصادم العقل والإنسانية والمقاصد العليا للدين، فلا يمكن اليوم القبول بروايات تتحدث عن سجود الشمس تحت العرش عند غروبها، أو عن اجتماع القردة لرجم قردة زنت، ولا بروايات تهين المرأة وتجعلها نذير شؤم كالفرس والدار، أو تجعلها قرينة للكلب والحمار في إبطال الصلاة، أو تستهين بقدرتها في تولي المسؤوليات، أو تجعلها دون الرجل في الحقوق والاعتبار، ولا بروايات تبيح قتل المخالف وتعارض كل النصوص القرآنية والمباديء الإنسانية الضامنة لحق الإنسان في الحياة، ولا بروايات تتعارض ومفهوم النبوة كأحاديث السحر والمسيح الدجال.
لا يمكننا بأي حال من الأحوال منع النقاش بل والتشكيك في مثل هذه الروايات، فذلك حق أصيل للعقل البشري في مناقشة منتوج بشري مهما بذل فيه من جهد، بل لا بد من توسيع هامش الحريات في طرح كل هذه الإشكاليات للبحث والنقاش العلمي والمجتمعي، بعيدا عن منطق التقديس وبعيدا أيضا عن منطق الشيطنة والاتهامات الجاهزة من كل طرف للآخر.
على أنني لا أرى طائلا كبيرا خلف مناقشة صحة نسبة الكتاب إلى صاحبه، ولا حتى مناقشة صحة بعض هذه الروايات، مما يدخلنا في متاهات وسجالات مرتبطة بعلوم الحديث لن تصل لنتيجة قطعية، بقدر ما ينبغي التوجه في رأيي للنظر إلى سياقات هذه النصوص ومدى اعتبارها حجة في التشريع، أو صلاحيتها لتأطير العقل وتأهيله، فلا سبيل إلا بإدراج علوم ومعارف أخرى ، والاستفادة مما بلغته العلوم الحديثة، سواء في تنقية التراث، أو في ربطه بسياقاته وظروفه التي قد خضعت لتحولات ومتغيرات كبيرة وفارقة.
لا ينبغي أن يتملكنا الرعب من فتح أي نقاش، فكل ما عرفته مجتمعاتنا من نقاشات حول البخاري مثلا في زمن سابق، وما عرفته دول أخرى كمصر في هذا الباب، وما تسعى له بعض دول الخليج اليوم، من مبادرات لإعادة قراءة التراث، بما يتوافق وكل احتياجات العصر الراهن ورهاناته، كل ذلك ينبغي تشجيعه بغض النظر عن نتائجه القابلة للخطأ والصواب.
ليس من مصلحة أحد أن نكون خصوما للبخاري خاصة أو التراث عامة، لكننا ليس من مصلحتنا أيضا وأد السؤال المشروع، ومحاربة العقل النقدي، أو احتكار المعرفة من طرف فئة محددة، فكتاب البخاري يبقى في آخر الأمر تراثا إنسانيا، من حق المتخصصين في كل الأبواب تناوله بالنقد والمساءلة.