"يلا حنا من المغرب قولها لينا.. يلا ماشي من المغرب قولها لينا... ويلا كنا من الوحوش قولها لينا نموتو وما نبقاوش في هذه الدنيا". كانت هذه صرخة خمسيني من دوار"بوسلامة" نواحي "ميسور" جنوب شرق المغرب، حيث تقطن المئات من الأسر على سفح جبل اهتز بفعل الزلزال الذي ضرب المنطقة. هزات حولت حياتها إلى خوف وفزع وهروب من خطر الموت تحت أتربة منازل آيلة للسقوط، نحو "عشش" نصبوها من الحصير والبلاستيك لا تقيهم حتى لسعة البرد القارس.
ساكنة الدوار انتفضوا بسبب ما وصفوه بـ"الوعود الكاذبة" من السلطات، ليقرروا التصعيد بحثاً عن لفت انتباه أصحاب الحل والعقد في المنطقة، وذلك بتنظيم مسيرة على الأقدام نحو مدينة ميدلت، ثم قطع الطريق على قافلة طبية زارتهم بعد الزلزال ومنعها من مغادرة الدوار قبل زيارة المسؤولين له وتقييم الأضرار لمساعدتهم وتعويضهم، وأخيراً احتجاز رئيس الدائرة وقائد بالمنطقة جاءا لمحاولة "تحرير" من كانوا ضمن القافلة، ليتحولا بدورهما إلى ورقة ضغط في يد المتضررين.
"تيلكيل عربي" شد الرحال إلى الدوار، لينقل تفاصيل معاناة المئات من المغاربة الذين يأكلهم الصبر على وعود لم تترجم على أرض الواقع.
تحالف قسوة الطبيعة والحاجة
في مكان قصي من أرض المملكة، على سفوح الجبال الممتدة ما بين إقليمي ميدلت وميسور، تنتصب المئات من المنازل بدوار "بوسلامة". هنا تعيش الأسر على عائدات من يشتغلون في مقلاع "الغاسول" و"الجبص" وجني نبتة "أزير"، فضلاً عما يجود به أبناء المنطقة الذين هجروها للبحث عن لقمة العيش.
على طول الطريق نحو الدوار، تظهر مخلفات ما فعلته الطبيعة، مسالك غمرتها سيول الأودية وقناطر هوت، ما يفرض سلك ممرات جانبية لمواصلة السير نحو الوجهة.
المنطقة عرفت بدورها هزات قوية بفعل الزلزال الذي ضرب المنطقة يوم الأحد 17 نونبر الجاري، ويقول سكان دوار "بوسلامة" في شهاداتهم لـ"تيل كيل عربي"، إنهم أحسوا بالهزة الأولى قرابة الساعة التاسعة صباحاً ثم هزة ثانية قرابة الساعة الحادية عشر وهزت ثالثة قرابة الساعة الثالثة بعد الزوال، من نفس اليوم.
الهزات الزلزالية المتتالية فرضت على أسر "بوسلامة" مغادرة بيوتهم المشيدة على سفح الجبل، والتي تعرضت لأضرار بليغة وشقوق ظاهرة على الجدران والأسقف.
يونس زوزو، شيخ طاعن في السن من الرحل الذين يعيشون بالمنطقة. على جانب الطريق نحو دوار "بوسلامة"، كان يجلس فوق حجر ويلوح بعكازه، توقف "تيلكيل عربي" بالقرب منه، ليطلب بأدب إيصاله إلى وجهتنا رغبة منه في أداء صلاة الجمعة بمسجد الدوار، وما إن صعد السيارة حتى شرع في سرد ما عاشه رفقة أسرته من خوف وفزع بسبب الزلزال، بالقول: "اهتزت أركان الخيم التي نقطنها، واضطررنا للخروج منها رغم البرد الشديد الذي تعرفه المنطقة خلال هذا الفصل، المواشي فزعت وهربت بعدما دمرت الهزة الحواضر التقليدية التي نحبسها داخلها".
زوزو اعتاد أن يشد الرحال من حيث يقطن إلى دوار بوسلامة مشياً على الأقدام، والمسافة المقدرة بين الموضعين تفوق الـ10 كيلومترات، وأمل كل من هم مثله مرور مركبة أو عابر سبيل يقلهم لقضاء أغراضهم، هذا الوضع بحسب الشيخ ضاعف معانتهم، "نحن هنا في يد الله، يلا جات فيك شي كارثة ما كينش لي يجيب ليك الخبار، يوم ضرب الزلزال خفنا على ولادنا، يلا تجرح ليك غير واحد فيهم شحال خاصك باش توصل للدوار وتجيب باش داويهم، هاد الشي يلا لقيت الدوا".
في كل شبر من هذه الرقعة تتلمس تحالف قسوة الظروف الطبيعية والحاجة، حتى الطريق التي شيدت حديثاً لم تسلم بعض مقاطعها، خاصة القناطر المشيدة على مسار الأودية، وعاين "تيلكيل عربي" تضرر عدد منها، بل هوت إحدى القناطر الرئيسية كلها.
التدخل "حدو دوار برتات"
لماذا انتفضت ساكنة المنطقة بعد الزلزال؟ ولماذا صعدت من احتجاجاتها رغم ما تابعه المغاربة من تدخل لمصالح وزارة الداخلية؟ ألم تشملهم المساعدات التي تناقلتها الصور؟ الجواب على لسان نسوة دوار "بوسلامة" اللائي فتحن البيوت لـ"تيلكيل عربي" من أجل معاينة الأضرار.
زينب، إحدى السيدات اللواتي يقطن بالدوار، قالت، في شهادتها، من داخل منزل أسرتها الآيل للسقوط، إن "لجنة زارت دوارهم بعد المسيرة التي نظموها مشياً على الأقدام نحو ميدلت، ومنعتها السلطات بعد قطع نحو 9 كيلومترات، لكن غادرت اللجنة محملة بالصور والفيديوهات والشهادات التي تنقل معاناتهم، دون أن يتبع ذلك أي تدخل".
منزل أسرة زينب لم يعد صالحاً للسكن، وكل دقيقة داخله تشكل تهديداً لحياتهم. الأثاث المتواضع الذي يملكونه مكدس في غرفة واحدة لم تتضرر بشكل كبير. "هذا كل ما نملك، خفنا من ضياعه تحت الركام لا قدر الله إن انهار البيت، وكل ليلة نخرج إلى الخيمة التي نصبنا من الحصير والبلاستيك لقضاء الليل".
سيدة أخرى من الدوار ألحت على زيارة منزلها بدورها، وكان بيتها من بين 11 منزلاً دخلهم "تيلكيل عربي"، وكلها تضررت بفعل الزلزال. السيدة الستينية اشتكت فقرها وعدم قدرتها على مواجهة ما خلفته الهزات الأرضية، خاصة وأن زوجها يعاني من المرض، ما فرض على أولاده نقله إلى مدينة ميسور واكتراء منزل له.
تقول السيدة قبالة "عشة"، أعمدتها قطع خشبية وضعت فوقها أجزاء من الحصير والبلاستيك وفراشها أغطية، بالإضافة إلى قطعتين من "البونج"؛ "هنا نقضي ليلنا، وعدنا المسؤولون بإرسال المساعدات، بغينا على الأقل غير الخيم فين نعسو، عونونا راه قهرنا المرض والبرد".
وبالانتقال إلى منزل آخر، يطل من سطحه رجل خمسيني ممسكا بـ"بالة"، يتكرر نفس المشاهد: شقوق وأضرار تهدد ركائز المنزل، ويحاول مالكه حين زيارته تقوية دعائم السقف بالأتربة. وضع دفعه للتعبير بغضب عن غياب المساعدات التي وعدهم المسؤولون بها، وصرخ في شهادته لـ"تيلكيل عربي" بالقول: "إلا حنا من المغرب قولها لينا إلا ماشي من المغرب قولها لنا... وإلا كنا من الوحوش قولها لينا نموتو وما نبقاوش في هذه الدنيا".
قرب منزل الرجل "عشة" أخرى من "العشش" التي لجأت إليها أسر الدوار، "عشة" كما جاء على لسانه نصبت بالاستعانة بأكياس يستعملونها في جني الزيتون، يتكدسون داخلها ليلا بحثا عن الدفء وخوفنا من انهيار بيتهم فوق رؤسهم.
تصعيد بدون نتيجة
يوم الأحد 17 نونبر الجاري ضرب الزلزال المنطقة، ليبدأ الحديث عن إنزال مساعدات إلى المتضررين والخائفين من الهزات الارتدادية، عدم وصول المساعدات إلى منطقة دوار "بوسلامة" دفع الساكنة لتنظيم مسيرة مشياً على الأقدام مطلبها هو فصل دوارهم عن عمالة ميسور والحاقها بعمالة ميدلت، وكلهم يجمعون على أن المسؤولين في العمالة الثانية قاموا بواجبهم تجاه الدواوير التي تقع تحت سلطة ترابها، مسيرة تم إيقافها عند حدود دوار "برتات"، وعاد المحتجون أدراجهم على أمل وفاء المسؤولين بوعدهم.
انتظرت ساكنة المنطقة طيلة يومي الاثنين والثلاثاء وصول المساعدات، لكن صباح يوم الأربعاء 20 نونبر الجاري وصلت قافلة طبية إلى الدوار، لتقرر ساكنته تحويلها لورقة تفاوض بعد رفض الاستفادة من خدماتها وقطع طريق العودة أمام طاقمها إلى حين قدوم المسؤولين في العمالة التي يتبعون له. تصعيد ارتفع بقرار ساكنة الدوار احتجاز رئيس دائرة "القصابي" وقائد دائرة "ويزرت".
عبد اللطيف أحنوش، إطار في وزارة الصحة بمندوبية ميسور، وأحد أبناء دوار "بوسلامة"، صادف وجوده بالدوار يوم احتجاز أطقم القافلة الطبية، يروي لـ"تيل كيل عربي" تفاصيل ما وقع وكيف انتهى التصعيد الذي حاول أن يلعب فيه دور الوسيط بين المسؤولين في قطاعي الصحة والداخلية وبين أبناء منطقته.
ويقول الإطار الصحي أحنوش في حديثه لـ"تيل كيل عربي": "صباح يوم الأربعاء الماضي تلقيت اتصالا من الإخوة في النقابة التي أنتمي إليها، يطلبون التدخل والمساعدة في فتح الطريق أمام أطقم قافلة طبية دخلت الدوار ورفض ساكنته خروجها قبل استفادتهم من المساعدات جراء الأضرار التي لحقت بهم وبمنازلهم بسبب الهزات الأرضية".
ويضيف المتحدث ذاته أن "القافلة كانت تضم مندوب الصحة بالإقليم وطبيبين و6 ممرضين وسائقين". أحنوش وصف المهمة التي أوكلت إليه بالصعبة، ولم يستطع حسب شهادته اقناع الساكنة بأن تصرفهم "خاطئ" ولا يجب أن "يتهوروا تجاه أناس لا مسؤولية لهم في ما يعانون".
التصعيد من طرف ساكنة الدوار، تواصل من طرف ساكنة "بوسلامة"، ويفسر الإطار الصحي ذلك بـ"غياب الثقة بينهم وبين المسؤولين"، ويضيف: "يوم منعت المسيرة من الاستمرار نحو ميدلت وعدوهم بأن تصل المساعدات في حدود 48 ساعة، لكن لا شيء تحقق، لذلك عندما وصل رئيس الدائرة وقائد دوار "ويزرت" قرر الساكنة منعهما من مغادرة الدوار، المتضررون أعلنوا أنهم ليسوا في حاجة للرعاية الصحية الآن وإن كانوا يفتقدونها على طول السنة، هم يرون أن حياتهم في خطر تحت أسقف منازلهم، ولجؤوا لخيم نصبوها بأنفسهم تفتقر لما يقيهم البرد القارس في المنطقة، ومع توالي الوعود دون تحقيقها على أرض الواقع قاموا بالتصعيد، طبعا هذا السلوك خطأ لا يمكن تبريره، لكن في نفس الوقت شعورهم بالتخلي عنهم أغضبهم".
قطع الطريق أمام القافلة الطبيبة واحتجاز كل من رئيس الدائرة والقائد، انتهى حسب عبد اللطيف أحنوش بسبب تعاطف أهل الدوار مع ممرضة حامل كانت ضمن أطقم القافلة الطبية، هذه الأخيرة تعرضت بسبب الخوف والضغط لوعكة صحية، وعندما عاين المحتجون أمام سيارات القافلة وضعها الصحي قرروا فتح الطريق.
أمام كل هذا.. هل تغير الوضع؟
اتصل الموقع بمصدر من السلطات المحلية بالمنطقة، فاعتبر أن مواقف الساكنة من التصعيد كانت متباينة، ورد غضبهم إلى الخوف فقط لأنهم لم يسبقوا أن عايشوا من قبل زلزالا بهذه القوة.
وأضاف المصدر ذاته أن الأضرار التي لحقت بالمنازل كانت عبارة عن شقوق فقط، رافضاً، في الوقت ذاته، إعطاء نتائج تقييمها، وشدد على أن اللجنة التي زارت منازل دوار "بوسلامة" وكانت تضم في عضوتها مهندساً هي المخول لها تقييم خطورة الوضع من عدمه. وبخصوص تأخر وصول المساعدات إلى الدوار، خاصة منها الأغطية والخيام، اكتفى المصدر ذاته بالقول: "لا يحق لنا الخوض في هذا الأمر أو الادلاء بأي تصريح".
"تيلكيل عربي" بالمنطقة يوم الجمعة 22 نونبر الجاري، أي بعد خمسة أيام على الهزات الأرضية، وواقع الحال هو أن المنازل لا تزال تحمل آثار الزلزال، والساكنة تلجأ كل ليلة لـ"العشش" التي نصبت خوفا من الموت تحت أنقاض بيوت آيلة للسقوط، وأنباء تبثها مديرية الأرصاد الجوية بأن الأيام القادمة تحمل الأمطار والثلوج واستمرار انخفاض درجات الحرارة.