صناعة الحدث..!

تيل كيل عربي

عادة ما يواجهني العديد من الأصدقاء ـ خاصة الذين كانوا منخرطين ذات يوم في تجربة حزبية ـ بالسؤال التالي: ـ لماذا لا تكتب حول القضايا التي تشغل الرأي العام وخاصة السياسية منها، فتكون صوتا يدلي بدلوه فيما يقع؟ صراحة، أجدني عاجزا على الجواب ليس لأني لا أملكه، ولكن لأنه يصعب تفسير نقط ـ ليس من باب الترفع ـ غير متاح تفسيرها للجميع من باب التخصص طبعا، أما إذا أردت الخوض في ذلك،فسأكون مضطرا للحديث عن طبيعة الحدث وهو أمر يستحق اهتماما كبيرا، نظرا للتقاطعات التي يحملها، هذا وإذا ابتغينا لأنفسنا تسمية الأشياء بمسمياتها، فسنقول أن أكبر حدث يعرفه العالم سواء الماضي منه أو الحاضر هو صناعة الحدث، وقد تداخل فيه الثقافي بالعلمي بالسياسي بالاقتصاديبالتاريخي. فكيف ذلك؟

أولا: ما هو الحدث؟ الحدث هو مجموع العلاقات الظاهرة منها والباطنة، التي تترك أثرا في الواقع فتغيره وتضفي عليه وجها آخر غير الوجه الذي كان عليه، ليس بدافع إرادة مستقلة، وإنما نظير توفر مجموعة من العوامل التي تجمع بين الموضوعي كالظروف والشروط المتوفرة، والذاتي كالإرادة السياسية التي لا يمكن اعتبارها مستقلة عن العامل الموضوعي، بل إنها تسير مع هذا الأخير حذو النعل بالنعل لكن وراءه وليس معه. ولهذا فالحدث هو ما يقع هنا والآن. الحدث واقعي بالضرورة ولكنه ليس حقيقيا.!

ثانيا: من يصنع الحدث وكيف يُصنع؟ لا يمكن الاعتقاد أن القوي هو من يصنع الحدث، بل إن صناعة الحدث من صميم الحدث عن طريق الذين نعتقد أنهم أقوياء، أو لنقل إن الطرف او الجهة أو القوة الإنسانية التي تصنع الحدث، ليست في نهاية المطاف سوى آلية من آليات خروج الحدث إلى حيز الواقع، ولقد انتبه العديد من الفلاسفة لهذا الأمر، فعبر عنه كل واحد منهم من مرجعيته الفلسفية، سواء مفهوم الروح مع هيجل، أو الوعي مع إنجلز وماركس أو إرادة القوة مع نيتشه، أو اللاشعور مع فرويد، أو الكينونة مع هايدغر، أو البنية مع ليفي ستراوس، أو الإبستيمي مع ميشيل فوكو، أو البراديغم مع توماس كوهن... وعليه فمهما بدا لنا الحدث من صنع الإنسان القوي، فإنه ليس في الأصل سوى تحولا بيّنا للكم إلى كيف، إن نظرنا إلى هذا الأمر من زاوية الديالكتيك طبعا. وإلا فلماذا لم تظهر النسبية مثلا في القرن الثالث عشر، ولماذا انتظرنا حتى القرن التاسع كي نتحدث عن الثورة الصناعية والقرن العشرين كي نخوض في أمر الثورة التكنولوجية؟

ثالثا: كيف نتعامل مع الحدث؟ سيبدو الأمر غريبا إذا قلنا إنه ليس لنا من قوة ولا إرادة سديدة لتغيير الحدث، لعدة اعتبارات من أهمها أن الحدث نتيجة لمجموعة من العوامل المتداخلة التي لا يستطيع عقل أو وعي الإنسان الإحاطة بها شموليا، إضافة إلى أن زمن الحدث يُقاس بالامتداد شبه اللامتناهي نحو الماضي والمستقبل، أي أنه يجمع بين التراكم والتجاوز من أجل الاحتفاظ. ناهيك عن أن التغير الذي يصيب الحدث هو من طبيعة الحدث نفسه، وليس بدافع من الإرادة الحرة للإنسان التي ستغدو تبعا لهذا الأمر مجرد لعبة طيعة في يد الحدث. لكن لا يجب ان يُفهم من هذا القول أننا سنقف عاجزين أمام الحدث بدون سبب وجيه، ولكن قد يكون من الأهمية بمكان التسليم به، وقبوله وليس تقبله، وهنا سنكون في حاجة إلى استعادة القول الرأي الرواقي في ذلك.

ربما لهذا الأمر كان من الأجدر الركون إلى البرج العاجي والنظر إلى الأشياء من أجل تفسيرها وليس تغييرها، مادام أن التغيير من صلب التغيير عينه وليس من صميم قدرة الفرد على التغيير، بل إن ما يطلب تغييره محدود بالإمكانات المتاحة التي يوفرها عصره، أو بالأحرى نسقه الذي يمثل علبة مغلقة لن تنفتح، وإنما قد تتسع شيئا فشيئا حينما تتوفر الظروف المناسبة لذلك. وعليه، فماذا تبقى لنا سوى الإيمان بأن الإرادة مستقلة عن الإنسان، وأن الإنسان لا يريد ما يريد؟!

بل لنقل: "ولعلّ الحدث بنفسه هو من يكتب ما نظنه نحن كلماتنا".