أخذ الجميع على حين غرة قبل عام، لم يستوعب الكثيرون ما كان يحدث، حملة مقاطعة، لم تؤخذ في البداية على محمل الجد، وصفها وزير الفلاحة والصيد البحري، عزيز أخنوش، حينها بـ"الحملة الافتراضية"، و نعث وزير الاقتصاد والمالية السابق، محمد بوسعيد، المنخرطين فيها بـ"المداويخ"، وخلع عليهم مسؤول مبيعات بشركة "سنترال دانون" تهمة "خيانة الوطن".. غير أن الحملة واصلت زحفها، كي تخلف ضحايا وخسائر، وتدفع الشركات إلى إعادة النظر في طريقة تعاطيها مع المستهلك، خاصة في ظل ميلاد رأي عام رقمي.
خسائر مالية: كان غياب سنترال دانون لافتا عن المعرض الدولي للفلاحة بمكناس الذي اختتم فعاليته أمس الأحد، الشركة التي سعت إلى استمالة الزبناء المنصرفين عنها بعد المقاطعة، بذلت مجهودا كبيرا من أجل ذلك، حيث عمدت إلى تقديم تشكيلة جديدة من منتجات الحليب مع خفض الأسعار، غير أنها مازالت تعاني في السوق المحلية، هي التي تكبدت خسائر كبيرة بلغت 538 مليون درهم في العام الماضي، بالمقابل حققت شركة « أولماس »، التي استهدفت مياهها « سيدي علي » بالمقاطعة، أرباحا محتشمة لم تتعد 18 مليون درهم في العام الماضي، بعدما وصلت إل 189,5 مليون درهم في العام الذي قبله، غير أن الشركة سعت التقليل من أهمية تأثير المقاطعة، حيث أكدت على مستوى الأرباح عائد إلى تكلفة الاستثمارات التي أطلقتها في بداية العام وزيادة كلفة المواد الخام الرئيسية. ووحدها لم تكشف أفريقيا عن تأثيرات المقاطعة التي استهدفتها بقوة على نتائجها المالية.
ترميم الصورة: يلاحظ مديح وديع، الكاتب العام للجامعة المغربية لجمعيات المستهلكين، أن الشركات المستهدفة وتلك التي لم تستهدف بالمقاطعة، أدركت أهمية تبني سياسة تواصلية عند حدوث أزمة، حيث تجلى أن الشركات لم تكن تستحضر ذلك البعد في علاقتها بالمستهلك. وعموما، بينما اختارت إفريقيا عدم التواصل حول المقاطعة وتجاهلها، فقد سعت سيدي علي إلى حصر تواصلها في حدود التذكير ببنية الأسعار و التكاليف التي تتحملها، غير أنه تجلى أن " سنترال دانون"، كانت أكثر حضورا في الساحة الإعلامية بعد اشتداد حملة المقاطعة، فقد حضر الرئيس المدير للمجموعة إيمانويل فابر في مناسبتين، في مسعى منه لاحتواء الأزمة عبر التواصل مع المستهلكين، في الوقت نفسه، الذي نظمت الشركة لقاءات مباشرة و عبر وسائط التواصل الاجتماعي على جمع آراء وتطلعات المستهلكين. وبدا أن كل شركة يجب أن تتوفر على استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار صورتها ومحيطها، وذلك عبر نوع من اليقظة اليومية حول سمعتها، وتبني سياسة واضحة حول حضورها في وسائط التواصل الاجتماعي، والتفاعل بشكل حقيقي وآني مع انشغالات المستهلك، ناهيك عن ضرورة التوفر على رؤية تستبق الأزمات.
ارتباك حكومي :لم تربك المقاطعة الشركات المستهدفة فقط، بل أحرجت الحكومة، وأفضت إلى تقديم وزير الشؤون العامة والحكامة، لحسن الداودي لاستقالته (التي لم تقبل)، بعد انضمامه للمحتجين من عمال « سنترال دانون » المنددين بالمقاطعة أمام البرلمان، غير أنه بغض النظر عن المواقف الفردية التي عبر عنها وزراء من قبيل وصم المقاطعين ب " المداويخ " أو اعتبار المقاطعة "حملة افتراضية"، فإن مسألة الغلاء طغت على جتماعات الحكومة، بل إن رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، سعى إلى طمأنة الرأي العام، عندما قال بعدما سئل حول القدرة الشرائية « نحن وشباب الفيسبوك ضد الفساد والريع »، بينما دأب الوزير الداودي، في رمضان، في ظل بروز دعوات لمقاطعة السردين، على التأكيد على سعي أكيد نحو ضبط المضاربين والوسطاء في السوق، ثم إن حزب الاستقلال بادر، في سياق المقاطعة، إلى تقديم مذكرة لرئيس الحكومة من أجل تعديل قانون المالية، بما يفضي إلى اتخاذ تدابير تخفف من تداعيات الغلاء.
رأي عام رقمي صاعد:يتصور مديح وديع، الكاتب العام للجامعة المغربية لجمعيات المستهلكين، أن المقاطعة، بغض النظر عن تداعياتها على الشركات المستهدفة بها، كرست المستهلك كفاعل لا يمكن الالتفاف عليه من قبل الشركات والموردين والحكومة وحتى الأحزاب السياسية، فقد أصبح يحسب له ألف حساب كما يوضح مديح، بعدما لم يكن يستحضر في استراتيجيات الشركات التسويقية و في برامج الحكومة والأحزاب السياسية.
ورأى خبراء في الحملة التي استهدفت ثلاث شركات، مؤشرا على ظهور حركة استهلاكية تدعم عمل الجمعيات العاملة في الميدان، في الوقت نفسه، ذهب خبراء في التواصل، حين تناولهم لتلك الظاهرة، إلى أن المقاطعة غير المسبوقة التي هزت ثلاثة شركات عملاقة في المغرب، أعلنت عن ميلاد رأي عام رقمي، خاصة أن المغاربة أدركوا مدى القدرة التي أضحوا يتمتعون بها على إزعاج جميع العلامات مهما كانت قوتها.
إحياء مجلس المنافسة: ساهمت المقاطعة في إعادة بعث مجلس المنافسة بعد أربعة أعوام من التجميد، فقد ارتفعت أصوات مباشرة بعد انطلاق حملة المقاطعة، تنادي ببث الروح في المجلس، الذي لو كان حاضرا لكان فصل في ما شجر بين المقاطعين والشركات المستهدفة بغضبهم، حيث كان سيتمكن من توضيح ما إذا كانت شروط المنافسة محترمة في ممارساتها. وقد تجلت الرغبة في لعب المجلس لدوره عبر طلب الرأي الذي رفعته إليه الحكومة حول تسقيف أرباح شركات المحروقات، إذ رغم مخالفة فتوى المجلس لانتظارات الحكومة، إلا أن المجلس التزم بالانكباب، أرضاء للمستهلكين، على دراسة المنافسة في سوق المحروقات بالمغرب، حيث ينتظر أن يكون ذلك موضوع رأي فتوى أخرى.
نوايا حول تسقيف الأرباح :ويشير وديع مديح، إلى أن المقاطعة، ساعدت على التسريع بإخراج تقرير اللجنة الاستطلاعية، حول سوق المحروقات. ذلك تقرير دفع وزارة الشؤون العامة والحكامة، إلى الشروع في الحديث بقوة عن تسقيف أرباح شركات المحروقات، بهدف حصر الأسعار في مستويات تتفادى القفزات التي عرفتها بعد التحرير الذي انطلق في دجنبر 2015. صحيح أن رأي مجلس المنافسة حول تسقيف الأرباح، قد جاء مخالفا لرغبة وزير الشؤون العامة والحكامة، لحسن الداودي، الذي لم يخف غضبه مما صدر عن تلك المؤسسة الدستورية، إلا أنه لم يخف تطلعه إلى الوصول إلى اتفاق مع شركات توزيع المحروقات حول التسقيف، وإن كان يلوح بأنه يمكن في حال عدم تحقيق توافق حول تلك الفكرة إلى اتخاذ القرار بشكل منفرد.
جمعيات لتفادي الفراغ: ويعتبر بوعزة الخراطي، رئيس الجامعة المغربية لحقوق المستهلك، أن المقاطعة، التي كرست المستهلك كفاعل اقتصادي لأول مرة في تاريخ المملكة، أفضت إلى بروز نوع من التغيير في طريقة تعاطي السلطات العمومية، مع الجمعيات التي تتولى الدفاع عن المستهلك، فقد كانت تنبيهاتها ودعواتها لاحترام قانون حرية الأسعار المنافسة وقانون حماية المستهلك، لا تجد التجاوب المطلوب من قبل الوزارات التي يهمها الأمر، خاصة أن قضايا المستهلك موزعة بين عدد كبير من المتدخلين، ما يبرر في تصوره وضع " مدونة للمستهلك"، كما دعا إلى ذلك الملك محمد السادس في 2008. ويذهب الخراطي، الذي ينادي بوزارة للمستهلك، إلى أن المقاطعة ساهمت في استحضار المستهلك في تشكيل مجلس المنافسة الذي بعث من جديد، فقد تم تعيينه باعتباره رئيسا للجامعة المغربية لحقوق المستهلك، ضمن أعضاء المجلس، علما أن لا شيء في القانون يفرض ذلك، على اعتبار أنه ينص على تعيين خبير في الاستهلاك فقط.