عبد النباوي: بلدان لا تؤمن بدين معين استطاعت بواسطة أخلاق مدنية تحقيق العدل والإنصاف

محمد فرنان

قال محمد عبد النباوي، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، إن "التنمية تحتاج للأمن والاستقرار، لأنه في غيابهما لا يمكن للمستثمر أن يغامر بأمواله لتحقيق وحدات إنتاج توفر فرص الشغل وتدر دخلا يمكن الأفراد من العيش الكريم، ودور القضاء الأصيل هو حماية الأمن والنظام العام، وحقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم، والتنمية تحتاج لقضاء عادل يضمن حق الملكية وأموال المستثمرين، ويحمي حقوق الأجراء والعمال والتجار والمستهلكين".

وأضاف عبد النباوي في اللقاء التواصلي الذي نظمه المجلس العلمي الأعلى، أمس الأحد، أن "التنمية تحتاج أيضا لقضاء يحقق الإنصاف ويردع الظالم عن ظلمه، ويعيد الحق لمن سلب منه، وبذلك تستقر المعاملات ويطمئن الناس على معاشهم ومقامهم وأنشطتهم المختلفة في الحياة، لأنه بدون عدل، لا يتحقق الأمن ولا الاستقرار، وبدون أمن لا تتوفر فرص الاستثمار، وتتدهور أحوال التعليم والتكوين، وتتردى الأحوال الصحية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية".

وأوضح المتحدث ذاته، أنه "إذا سلمنا أن للقضاء دورا مهما في تحريك هذه العجلة، فإنه من جهة أولى، غير قادر على قيامه بدوره لوحده، وإنما بتعاون وتنسيق أو مشاركة مع جهات أخرى معنية بمجالات تدخله، ومن بينها السلطات الأمنية، والسلطات الدينية والثقافية، والسلطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومن جهة أخرى محتاج إلى مشاركة المجتمع في توفير الشروط لإصدار أحكام عادلة".

ونبه إلى "تأثر العدالة بسلوك المجتمع (مثال التقاضي بسوء نية)".

وأبرز أنه "ضياع الأخلاق من سلوكيات المجتمع لا شك له تأثير قوي على تصرفات الأفراد على هذا النحو، ولا شك أن عدم استحضار العقيدة بمناسبة تصرفات الفرد داخل المجتمع له أكبر تأثير على السلوك المجتمعي، ونود أن نشير إلى أننا سنربط في هذه المداخلة بين التعاليم الدينية والمبادئ الأخلاقية، لأن دورهما واحد في ضبط سلوك الناس المؤدي إلى التنمية، رغم اختلاف المصدر والهدف بين الدين والأخلاق.

وأشار إلى أن "الدين هو شريعة الله، وأما الأخلاق فهي قواعد اجتماعية، وقد تتحد القيم الأخلاقية مع مبادئ العقيدة، وقد تختلفان، ولكنهما معا تؤثران في سلوك الناس، ولئن كان دور الدين في تحسين سلوك المجتمع ظاهرا للعيان في البلاد الإسلامية، فإن العديد من البلاد، التي لا تؤمن بدين معين، استطاعت بواسطة أخلاق مدنية تحقيق العدل والإنصاف والمساواة".

وأورد أنه "صحيح أننا نستذكر مقولة الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه: "إن الله يزع بالسلطان، ما لا يزع بالإيمان"، وهي دليل قوي على أن المبادئ الدينية والأخلاقية عموما تحتاج إلى من يطبقها، ويرتب عليها الأحكام الشرعية أو القانونية، لأن ضعف إيمان بعض الناس قد يجعلهم يستهينون بالعقاب الأخروي الذي تقرره القاعدة الدينية، أو برد الفعل المجتمعي الذي ترتبه القاعدة الأخلاقية، فيحتاجون إلى عصا السلطة لردعهم وإرجاعهم لجادة الصواب، وجعلهم قدوة لغيرهم".

وتابع: "كما أن الاستمرار في مخالفة تلك القواعد الدينية أو الأخلاقية دون تدخل الحاكم (أو القانون)، قد يولد عادات جديدة لدى الأفراد، فيصبح السلوك السيء عاديا ومقبولا، وقد نجد من ينتشي جهرا بما كسبه من عملية نصب أو استيلاء على أموال الغير، ولذلك فتدخل السلطة يجب أن يظل حاضرا، ليتمم ما لم يضبطه الإيمان والعقيدة والأخلاق، ولكن تدخل الحاكم يكون دائما مشروطا بالشرعية، أي أن تدخل القاضي مقيد بنصوص القانون".

واسترسل قائلا: "القانون يفترض التقاضي بحسن نية، ويعتبر أن المدعي لا يتقاضى إلا من أجل أفعال حقيقية وواقعية (والحال أن مجرد تبادل السب بين السيدتين أصبح عنفا)،  ويرتب القانون آثارا على الخبرة (والحال أن الشهادة الطبية لا تعكس حقيقة النزاع بين السيدتين اللتين لم تتبادلا أي عنف)، كما أن القانون يعتمد على شهادة الشهود لإثبات الأفعال، (والحال أن الشاهد أقسم اليمين وشهد زورا بأفعال غير حقيقية، وضميره مرتاح)".

ونبه إلى أنه "في هذه الأحوال "يحتاج السلطان إلى الإيمان"، بمعنى أن القانون يحتاج إلى مساعدة الدين أو الأخلاق لأداء وظيفته في إقامة العدل بين الفرقاء، فتنشأ هنا علاقة ترابط وتكامل بين الإيمان والسلطان، حيث تحتاج العقيدة إلى السلطة لضبط احترام قواعدها، كما تحتاج السلطة إلى العقيدة لتقويم انحرافات الناس، أي أن القاضي يحتاج لمدعي حق يستحضر الله أو الخلق الطيب في اتهامه للغير، ولخبير يستمع إلى ضميره وينظر إلى ما ينتظره في الآخرة بسبب رأيه المخالف للحقيقة، ولشاهد حق ذي خلق طيب".

وأفاد أنه "في مجتمع لا يتوفر فيه إيمان بالعقيدة، ولا يتقيد بالأخلاق الفاضلة، يتعذر على النظام القضائي تحقيق الغايات المرجوة منه، مهما كانت صرامته وشدته، وذلك لأن القضاء سيحتاج دائما إلى دليل لإقامة العدل، والسلطة لا يمكنها دائما أن توفر الدليل الصادق، حيث يصعب إثبات الزور على الشاهد، وإثبات عدم مصداقية الخبير، والتخلص من صنع الدليل الكاذب من طرف الأطراف".

وأشار إلى أنه "كما يصعب التخلص من بعض التصرفات المجتمعية التي أصبحت تؤثر في أحكام القضاء، والمتجلية في سهولة توجيه الرأي العام عن طريق الوسائط الاجتماعية ووسائل التواصل الحديثة، أو عن طريق تنظيمات مجتمعية، فيقتنع عامة الناس بصورة معينة يصنعها فريق من الناس ينشرون أخبارا غير صحيحة، مخالفة لما تصل إليه تحريات وأبحاث آليات العدالة من حقيقة رسمية، حتى إذا كان الحكم مخالفا لما اقتنع به عامة الناس وهم جاهلون بحقيقة الملف، عد ذلك ظلما وانحيازا من القضاء، ومس بصورة العدالة في أعين الناس حتى ولو كان الحكم صائبا وملائما للحقيقة".

وذكر أن "القيم الدينية والأخلاقية تؤطر سلوك أغلبية الناس، وأما القانون فيتدخل لإصلاح الحالات الشاردة، ولذلك لا يمكن للقضاء أن يؤطر بنجاح سلوك المجتمع إلا إذا ساعده المجتمع، لأن أحكام القضاء وإن كان ينطق بها القضاة، فإن المجتمع هو الذي يصنعها ويساهم في إنجازها، وكلما ضعف الوازع الديني والوازع الخلقي لدى الناس، ساهم في تعذر إقامة العدل، لأن عدل القاضي محتاج لمساهمة الناس مساهمة عادلة".

وشدد على أن "العدالة تحتاج إلى استنهاض القيم الدينية لدى عامة الناس وخاصتهم، فعامة الناس هم المتقاضون الذين يتظالمون إلى القضاء، ويجب أن يرفعوا إليه تظلماتهم دون تضخيم يزيد عن الحقيقة ولا مبالغة تربو عن الواقع، وهؤلاء أيضا هم الذين يسهمون في صنع العدالة عن طريق الشهادة بالحق أو بالزور، وأما خاصة الناس في مجال العدالة فنذكر من بينهم القضاة الذين يصدرون الأحكام بين المتنازعين، فكلما قويت عقيدتهم وترسخت أخلاقهم، تمسكوا بالحق والعدل والتمسوا حدود الإنصاف، ومن الخاصة كذلك الخبراء الذين يعطون الرأي التقني والفني في مواضيع النزاع، وكذلك العدول والموثقون الذين يوثقون عهود الناس وعقودهم والتزاماتهم، والمحامون الذين يدافعون عنهم، فكلما تمسكوا بالدين وبالأخلاق الفاضلة، صدقوا في آرائهم وفي نصحهم لزبنائهم وموكليهم وفي شهادتهم على معاملات الناس".

وقال إنه "إذا كان العصر الحاضر يشهد صعوبات في إقامة العدل بين الفرقاء، فلأن الأمر يحتاج لاستنهاض مبادئ العقيدة والقيم الأخلاقية لدى الناس، ومن حسن حظنا في بلادنا أننا مجتمع إسلامي مرجعيته كتاب الله وسنة سيد الخلق، يرجع إليهما المغربي مهما نأت به ظروف الحياة، فنحن قوم نتمسك بأخلاق الإسلام، ونرجع إليها مهما غابت عن أذهاننا، ولكننا قد نحتاج لمن يذكرنا بها، وقد تتكرر الحاجة إلى التذكير أمام مغريات الحياة اليوم وإزاء إكراهات العيش".

ولفت الانتباه إلى أنه "من حسن حظنا كذلك، أننا، في المملكة المغربية، نتوفر على مجلس علمي أعلى ومجالس علمية جهوية، وفي مدننا وقرانا علماء أجلاء وفقهاء أكارم وأئمة وخطباء وقيمون دينيون ووعاظ يدعون إلى هدي الله وسنة رسوله، ويبينون للناس سبل البر والإحسان، وأنتم حضرات العلماء خير من يمثلهم، ولذلك فإن إسهامهم في منع الظلم عن عباد الله يمكن أن يكون حاسما عن طريق الممارسات الدعوية وفي مجالات التدريس وخطب الجمعة ودروس الوعظ والإرشاد، وعن طريق استعمال وسائل التواصل الاجتماعي والبرامج الدعوية والتآليف وغيرها من الوسائل التي يمتلكون مهاراتها سواء في المحتوى أو في طريق النشر والتبليغ ومخاطبة ضمائر عامة الناس وخاصتهم، بشأن أحكام الشريعة المتعلقة بطرق التقاضي وآدابه وأخلاقه وشروطه وأركانه".

وأورد أن التذكير من قبل العلماء والفقهاء والوعاظ والمرشدين والدعاة قد يقوم سلوك بعض الناس، فينعكس ذلك على موقفهم أمام القضاء إذا تقاضوا أو إذا دعوا للشهادة، أو إذا أنجزوا خبرات أو حرروا عقودا أو دافعوا عن الناس أو حكموا بينهم، وهو ما سيسهم لا محالة في إقامة العدل بين الناس، وهكذا تلتقي رسالة العلماء مع رسالة القضاء في توفير الظروف المناسبة للتنمية البشرية عن طريق تحقيق الأمن في المجتمع وإقامة العدل بين الناس، فتسود السكينة في المجتمع وينصرف الناس إلى الإنتاج والمشاركة في الدورة الاقتصادية والحياة الاجتماعية".

وأكد أن "رسالة العلماء وهي رسالة الإصلاح، لا تقف عند حدود ذلك المثل البسيط للمنازعات القضائية، ولكنها تمتد لتنبيه الناس إلى مصادر الإجرام فتجتثها من منابعها، كما هو شأنهم في مناهضة الإرهاب والفكر التكفيري، وهو موضوع آخر يقض مضجع القضاء، أو بالنسبة إلى لجرائم أخرى تمس بالنظام العام الأمني أو الاقتصادي أو الاجتماعي، مثل ترويج واستهلاك المخدرات، أو الاعتداء على صحة أو حياة الأشخاص أو أموالهم وممتلكاتهم، وهي ظواهر إجرامية مرتبطة بالسلوك البشري، يمكن للدعوة أن تساهم في التقليص من انتشارها عن طريق التذكير بتعاليم الدين الحنيف، والأخلاق الإسلامية الحسنة".

وشدد على أن "رسالة العلماء قادرة على تحسين استعمال الناس لوسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت مليئة بالمناكر والكذب والزور والبهتان والتشهير بالناس والمس بأعراضهم ونشر الفواحش والمساس بمقدسات البلد وقيمه الفضلى، ويستعصي عن الدولة أن تطهر هذا المشهد بالقانون وحده، سيما في الوقت الحالي الذي لا تتحكم فيه الدول في البرمجيات التي يتم عبرها نشر تلك المفاسد لأن مفاتيحها بيد قوى خارجية".

وذكر أن "الدعوة والتبليغ بأخلاق الإسلام، قد تجعل بعض صناع المحتوى يراجعون ما ينشرون، في اتجاه تحري الصدق، وتجنب القذف والسب والمساس بالأعراض، أو التشجيع على المساس بأمن الناس وسكينتهم، أو على الأقل تجعل بعض الذين تصلهم هذه الدعوة يكف عن تشجيع المواقع الهدامة، وذلك بالامتناع عن الاطلاع عليها، حتى لا تجد موردا ماليا بسبب عدد زيارات الموقع، أو الاشتراكات فيه، ذلك أن هذه الظاهرة الخطيرة قد تقوت اليوم في المجتمعات، ونالت اهتمام العديد من الناس الذين أصبحوا يتابعون التفاهة دون وعي بكونهم يشجعون اتجاهات تهدم الأخلاق والعقيدة، وتغير من حال المجتمعات نحو الأسوأ".

وخلص إلى "القانون غير قادر وحده على الحد من معاول الهدم هذه، وأن الحاجة إلى الدعوة والتبليغ ملحة وضرورية، فإذا كانت إقامة العدل من مهام الدولة، وتحتاج لقوة السلطان، فإنها بحاجة كذلك للتوعية الدينية والخلقية، لأن قول العلماء يخاطب الضمائر والقلوب وقد يصيب وطره بوازع التقوى والإيمان وخشية الله".