في الجزء الثاني من الحوار يواصل محمد عبد النباوي، رئيس النيابة العامة، بسط وجهة نظره ودفوعاته في عدد من القضايا التي تحظى باهتمام الرأي العام المغربي من قبيل مكافحة الفساد، والتعذيب، فضلا عن عدم تسليم هولندا بعد للبرلماني السابق سعيد شعو، المتهم بالضلوع في قضايا لها علاقة بالتهريب الدولي للمخدرات والتهديد بالقتل...
أين وصلت محاربة الفساد المالي؟
أؤكد أن هناك متابعات زجرية، وقد أشار تقرير النيابة العامة إلى بعض المجهودات المبذولة في هذا الشأن، فنحن نتابع جميع الجرائم المالية، كما أن جميع ملفات الرشوة لا يتم حفظها إلا إذا لم تكن هناك حجة ووسائل اثبات.
والملاحظ أن أغلب الملفات المتعلقة بالرشوة هي قضايا بسيطة؛ أي لا تتجاوز 100 ألف درهم، أما القضايا التي تتجاوز هذا المبلغ فتعرض أمام أقسام الجرائم المالية بأربعة محاكم استئنافية هي الدار البيضاء وفاس ومراكش والرباط، وهي أقسام تبث في الجرائم التي تتجاوز عقوبتها أكثر من خمس سنوات في قضايا الرشوة والغدر، واختلاس المال العام، وتبديد الأموال العمومية.
إن الجرائم المذكورة أصبح ينظر فيها من قبل أقسام متخصصة وقضاة نيابة عامة متخصصين، وكذلك قضاة تحقيق متخصصين، وقضاة أحكام متخصصين.
وقد بلغت أعداد القضايا التي تروج أمام هذه الأقسام 600 قضية خلال سنة 2017، وهي القضايا التي تحظى بمتابعة لصيقة، حيث نحرص على أن يتم البحث من طرف فرق متخصصة إما الفرقة الوطنية للشرطة القضائية أو الفرق الجهوية التي أحدثها الأمن الوطني، وهو ما ساهم في تسريع متابعة مثل هذه القضايا التي كانت تعرف تراكما.
كما أننا نعطي أهمية قصوى للملفات التي تحال علينا من طرف المجلس الأعلى للحسابات، والتي بلغت حوالي 150 قضية، وهي قضايا نعطيها بدورها عناية كاملة، كما أننا فتحنا خطا مباشرا من أجل التبليغ عن الرشوة، حيث أصبح بإمكان المواطنين الذين يتعرضون للابتزاز ويطلب منهم دفع مقابل مالي مقابل الحصول على خدمة ما الاتصال بهذا الرقم من أجل التبليغ عما تعرضوا له من مساومة، ونحن نستقبل اتصاله ونعمل على نصب كمين للمعني بالأمر، ويتم ضبطه في حالة تلبس.
هل هناك تجاوب مع هذا الخط المباشر؟
الحمد لله هناك تجاوب، فخلال شهر واحد ضبطنا 17 حالة، لكنها قضايا بسيطة في المجمل، إلا أن الملاحظ أن الذين سقطوا في كمين هذا الخط ينتمون لجميع القطاعات.
إن أهمية هذا الخط تكمن في أنه يجعل جميع الموظفين والمسؤولين حذرين من أن يسقطوا في هذا الكمين، فهم يعرفون الآن أن هذا المواطن الذي يريدون ابتزازه يعرف حقوقه، ويمكن أن يبلغ عنهم، وهناك مؤسسات ستحميه.
ولحد الساعة، جميع الحالات التي تم التبليغ عنها تم ضبطها باستثناء حالة واحدة لم ينجح المبلغ عنها في الإطاحة بها بسبب عدم اللقاء بالمعني بالأمر.
من جهة أخرى، فالذين يتكلفون بهذه العملية هم رجال الشرطة والدرك، وهكذا سجلنا أن شرطيين يقومون بضبط شرطيين، ودركيين يقومون بضبط دركيين، وهو مؤشر على وجود الثقة.
إذن هناك إجراءات زجرية لمكافحة الفساد تضاف إلى الإستراتجية الوطنية لمكافحة الفساد التي تتبناها الدولة، التي تشارك فيها قطاعات حكومية متعددة، كما أننا نعمل على تطوير مركز للشكايات، فضلا عن العمل على تطوير المحلات التي تقدم فيها الشكايات بالمحاكم، وذلك بشراكة مع وزارة العدل.
هناك وسائل متعددة لمحاربة الفساد، لكن إذا لم يساهم المواطن فستظل الرشوة قائمة، فما دام هناك من يعطي الرشوة فستظل من يأخذها موجودا، ولذلك فالجانب الزجري سيحمي فئة المواطنين، وهي تلك الفئة التي يتم ابتزازها ويطلب منها دفع مبلغ مالي مقابل خدمة أو وثيقة من حقهم الحصول عليها قانونا، هؤلاء سيجدوننا بجانبهم، أما الذين يسعون لمنح الرشوة مقابل الحصول على أشياء لم يخولها لهم القانون فهم لا يقدمون شكايات، علما أنهم إذا قدموا شكاية، ولو بعد ارتكاب الجريمة سيستفيدون من ظروف التخفيف عكس المشاركين في الجريمة الذين ثبتت مشاركتهم بوسائل أخرى.
هل هناك تعاون بينكم وبين الحكومة في هذا الباب؟ أو بالأحرى هل تحيل عليكم الحكومة بعض الملفات؟
الأصل أننا نبحث في الشكايات والوشايات أيا كان مصدرها، بما في ذلك المعطيات التي تنشر في الجرائد، لكن أحيانا لا يمكن فتح بحث بسبب غياب المعطيات. تخيل مثلا أن مؤسسة عمومية تبلغ ميزانيتها الملايير من الدراهم، وتقوم جريدة ما بنشر خبر مفاده أن هذه المؤسسة تعرف اختلالات في صفقاتها. إن هذه المعطيات غير كافية؛ إذ لا بد من توضيح نوع الصفقة بدقة حتى يتسنى لنا فتح البحث، وإلا فلا يمكننا القيام بذلك.
هناك عدد من القضايا يفتح فيها التحقيق دون أن نعرف نتائجها حتى يظن البعض أنه تم إقبارها من قبيل حادث قطار طنجة وغيره، ما سبب ذلك؟
أولا ليست هناك قضية يتم إقبارها، بل إن كل القضايا تحظى بالعناية والمتابعة اللازمة، لكن ما يقع هو أن بعض القضايا تحظى باهتمام الرأي العام وبمتابعة إعلامية، فتقوم النيابة العامة بإصدار البلاغات والتوضيحات اللازمة من أجل تنوير الرأي العام، ومحاربة الإشاعة، لكن حينما ينسى الرأي العام الحادث تكف النيابة العامة عن نشر البلاغات، وهذا ليس معناه إقبار القضية، بل إن التحقيق يستمر.
أما بخصوص سؤالكم عن حادث قطار طنجة، فالتحقيق يشرف على الانتهاء.
يلاحظ من خلال تقرير النيابة العامة أن عدد شكايات التعذيب وسوء المعاملة لم تتجاوز 31 شكاية، وهي قليلة مقارنة مع ما يتم تداوله في الإعلام ولدى الرأي العام، علما أن أغلبها تعرض للحفظ. هل للأمر علاقة بضعف الثقة في إمكانية المتابعة؟ أم بخوف المغاربة من التبليغ عن هذا النوع من الجرائم؟
سأجيبك بداية على السؤال الأخير، لا أحد اليوم يخاف، ومما سيخاف؟ "الناس اليوم مابقاوش يخافو".
أما التعذيب فلم يعد كسياسة ممنهجة في المغرب على الإطلاق، لكن يمكن أن يصدر عن بعض الأفراد والموظفين كسلوك بشري يقع في جميع الدول، قد يتعلق الأمر بانتقام أحد الموظفين، أو غضبه، لكن لا وجود لسياسة ممنهجة للتعذيب بشكل مطلق.
ما يمكن أن نقوله هو أننا يجب أن نظل حذرين أن نواجه أي انتهاك بالصرامة المطلوبة، كما أن الحالات التي تقع فيها انتهاكات يتم التبليغ، علما أن هناك إجراءات أخرى لمحاربة التعذيب من قبيل زيارات المحامين لموكليهم أثناء فترة الحراسة النظرية، والاعتماد على الخبرة الطبية.
إذن هناك ميكانيزمات متعددة لمحاربة التعذيب، كما أنه مستقبلا سيتم التنصيص في المسطرة الجنائية على التسجيل السمعي البصري لمحاضر الاستماع، وهو ما سيشكل ضمانة أخرى، لكن تبقى مثل هذه السلوكيات عبارة عن عادات وثقافات، والحمد لله أنه الآن يتم نبذها، فالمواطنون لم يعودوا يقبلون أن تمارس عليهم أي انتهاكات، كما أن المكلفين بإنفاذ القانون أصبحوا أكثر احتراما له، والقضاء أصبح يراقب أكثر، وهذا نتيجة الجهود التي بدلها المغرب من أجل إشاعة حقوق الإنسان والتعريف بحقوق المواطن، وكذا زيارة القضاة للمخافر.
ورغم هذه المجهودات المبذولة، إلا أننا يجب أن نظل حذرين، وأن نطور من وسائل محاربة التعذيب.
لازلت أذكر أنه في بداية التسعينات كان أي شخص يأتي من مخفر الشرطة يزعم أنه مورس عليه التعذيب، وذلك من أجل إنكار تصريحاته، وهناك من كان يعترف أمام النيابة العامة ثم ينكر أمام المحكمة بدعوى أنه كان يخشى إعادته إلى مخفر الشرطة أو الدرك، إذا لم يعترف أمام النيابة العامة، لكن بعد مرور 10 سنوات لم نعد نسمع بهذه الأمور في جرائم الحق العام بقدر ما نسمع بها في الملفات التي لها طابع سياسي نوعا ما، وكذا الملفات التي تحظى بمتابعة إعلامية.
وبالنسبة لي، لا يمكن أن أنفي وجود التعذيب أو أؤكده، لكن أغلب الملفات التي تم فتح تحقيق بشأنها تبين أنها كانت وسيلة للدفاع بهدف التنصل من التصريحات لدى الشرطة.
من حين لآخر يصدر المغرب مذكرات اعتقال دولية في حق بعض الأشخاص، لكن بعض الدول ترفض تسليمهم، حالة سعيد شعو بهولندا نموذجا، هل الأمر ينم عن عدم الثقة الكاملة في استقلال القضاء المغربي؟
لدينا اتفاقيات مع عدد من الدول، وأغلبها تسلم لنا الأشخاص المطلوبين بما في ذلك هولندا، وإسبانيا وفرنسا، لكن هناك أشخاص لا يتم تسليمهم، وذلك لوجود موانع قانونية كادعاء الجنسية، فشعو مثلا يدعي أنه يحمل الجنسية الهولندية، وبحسب القانون الهولندي فحامل الجنسية يمكن تسليمه كما لا يمكن تسليمه، كما أن البعض أحيانا يلجأ للأمم المتحدة ويزعم أنه سيتعرض للتعذيب إذا ما تم تسليمه، وهذا الأمر جاري به العمل، فنحن أيضا لدينا عدد من طلبات التسليم المتوقفة بسبب طعن المعنيين بالأمر لدى الأمم المتحدة.
أما الثقة في القضاء المغربي فهي موجودة، وأغلب الدول الأوروبية لدينا معها اتفاقيات، وتلتزم بها.
هل أصبح القضاة مستقلون في أحكامهم ويحكمون بما يمليه عليهم ضميرهم؟
أعتقد أن استقلال القاضي كان مضمونا في السابق من طرف المجلس الأعلى للقضاء، لكن الآن توفرت ضمانة أخرى وهي إمكانية تقديم شكاية في حالة المس باستقلاليته، كما أن وزير العدل لم يعد يترأس المجلس الأعلى للقضاء.
أما الاستقلال الواضح أكثر فهو استقلال النيابة العامة، التي كان يترأسها وزير العدل ويعطيها تعليمات وتنفذها مباشرة، وهذه التعليمات كان يمكن أن يتم إعطاؤها بخلفيات أخرى، كما أن لكل وزير أولوياته، أما الآن فرئيس النيابة العامة لم يعد له انتماء، وليست له أي أجندة بمفهومها النبيل.
أين وصلت مراسيم تعويضات قضاة النيابة العامة عن المداومة؟
هذه التعويضات محددة بالقانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، الذي نص على تحديدها بمرسوم.
وعلى حد علمي فإن السيد وزير العدل أحال المراسيم على الحكومة، وهي الآن تخضع للتشاور من طرفها، وسيتم الاتفاق على مبالغ هذه التعويضات قبل صرفها للقضاة.