عدنان إبراهيم (3): الفكر الأصولي اقترب زواله.. والعلمانية ليست عقيدة تنازع الدين

غسان الكشوري

يواصل المفكر الإسلامي، عدنان إبراهيم، في الحوار الذي خص به "تيل كيل"، حديثه ورؤيته لبعض الإشكاليات التي لا تزال عالقة في الفكر الديني وما آل إليه الإسلام والمسلمون.

في الجزء الأول (1)، ناقش الدين والحرية، والجزء الثاني (2)، الإسلام السياسي. وفي هذا الجزء الثالث (3) والأخير، يجيب المفكر المثير للجدل على أسئلة وقضايا تتطرق للإرهاب وداعش، وتطبيق الشريعة والعلمانية، والتأصيل للعنف، فضلا عن الإيمان والاجتهاد في العصر الراهن.. وغيرها من القضايا الإشكالية التي تحتاج إلى مساهمة مفكر يشهد له بسعة علمه، في مثل هاته المواضيع.

هل لا يزال الفكر الوهابي اليوم مؤثرا على الإسلام والمسلمين؟

بالتأكيد، فالفكر لا يستأذن بالإنصراف، كما ينصرف فرد من مجلس، و لكنه يضمحل ويتراجع شيئا فشيئا، كما يتلاشى الفصل من فصول العام، لا في ساعة ولا في يوم.

لكن من يخطئ ملاحظة ما تلقاه هذا الفكر الضيق من ضربات قاسية، في العقد الأخير، جعلته ينحسر انحسارا يؤذن بزواله في حين قريب، بإذن الله. ومثله في هذا الفكر الأصولي عموما.

مع تنامي أحداث العنف في أوروبا من طرف المحسوبين على الجماعات المتطرفة، وأفول نموذج "تطبيق الشريعة"، وفي ظل "الاندماج الإجباري" للمسلمين في منظومة العلمانية و التعايش معها. هل يمكن اليوم للإسلام التصالح و قبول العلمانية كنظام حكم، في الوطن العربي كذلك؟

إن عالمنا العربي أساسا من لحظة الاستقلال التي أنهت حالة الاستعمار الغربي، يعيش إلى حد بعيد ـ إذا تجاوزنا عن الفقرة النمطية في دساتير هذه الدول والمتعلقة بكون الإسلام دينها الرسمي والشريعة المصدر الأساسي للتشريع ـ  حالة علمانية الدولة، وبأكثر من وجه، مع التنبيه على أن علمانية الدولة لا تعني ديموقراطيتها بالضرورة، ولا حتى ليبراليتها، فنظام الحكم في الدول الشيوعية مثلا، وعلى رأسها الإتحاد السوفياتي سابقا، وفي الدول الفاشية، وفي مقدمها ألمانيا النازية، كان علمانيا، لا دينيا. و بهذا اللفت أكون قد أبنتُ عن نوع العلمانية الذي أتعاطف معه، والنوع الذي أحذر منه.

علمانية الدولة لا تعني ديموقراطيتها بالضرورة، ولا حتى ليبراليتها

وكل قراءة للنصوص الدينية المؤسسة والهامشية ـ القراءة التي تتوفّر نسخ متعددة منها ـ تخلص إلى إنكار حق الدولة في الإملاء العقدي، وتلزم المؤسسات الدولتية المعنية بالوقوف على مسافة واحدة من مختلف الأديان و الملل، وتطالب بحقوق متساوية للمواطنين على أساس المواطنة فقط، من غير أن يكون الدين أو المعتقد خط فصل في هذا الخصوص، إنما تمعن في طريق علمنة الدولة.

إن الوعي المتزايد لدى المسلم المعاصر بنجاعة الدولة المدنية من جهة، ودور العلمانية في كفالة مدنية الدولة من الجهة الأخرى، في اللحظة التي يعاني فيها عالمنا العربي من صراعات عدمية دامية تتوسل الطائفية الدينية، مع الإدراك المتزايد لضرورة الفصل بين الذاتي والعرضي في الدين، وإدراك أن كل ما يخدم غايات هيمنية وتسلطية يتعارض بطبيعته مع جوهر الدين، مهما بدا منسجما مع أهداف الدين المنظم، كل أولئك يصب في صالح الفكرة العلمانية، خصوصا مع إدراك أن العلمانية ليست عقيدة أو رؤية كونية يمكن أن تنازع الدين، أو تزاحمه في مجاله ودوره العتيد، بل إن العلمانية في جوهرها لا تصلح نعتا للفرد إلا باعتبار واحد، وذاك هو اقتناعه بها وصفا للدولة وطبيعة الحكم فيها، ما يسمح بوجود فرد متدين بعمق و تحمس في نطاقه الخاص على رأس حكومة او دولة علمانية.

العلمانية ليست عقيدة أو رؤية كونية يمكن أن تنازع الدين، أو تزاحمه في مجاله ودوره العتيد، بل إن العلمانية في جوهرها لا تصلح نعتا للفرد إلا باعتبار واحد، وذاك هو اقتناعه بها وصفا للدولة وطبيعة الحكم فيها..

ولعلك تلاحظ أن الحركات الإسلامية السياسية التي أتيح لها ممارسة السلطة أو المشاركة فيها، في الفترة الأخيرة، برهنت عمليا على أن مدى نجاحها بات رهنا بمدى انسجامها ـ و لو عمليا، دون مواجهة قواعدها الجماهيرية بالحقيقة الصعبة ـ مع البرنامج العلماني في إدارة السلطة وممارستها، الأمر الذي كشف عن الطبيعة الحقيقية للاحتياجات والاستحقاقات، بعيدا عن أشكال التنظير التي تغيت بطريقة أو بأخرى تعبئة الجماهير وتحشيدها، بالتأكيد الزائد ـ الذي قد لا يخلو من انتهازية في حال كان موعى به، أو من سذاجة في حال كان مغفولا عنه ـ على الصفة الدينية للسلطة.

لكن، لماذا في نظركم "نجح" مشروع "داعش" في الحكم، ولم ينجح مشروع الإسلام الذي يسمى معتدلا؟

اسمح لي ابتداء أن أختلف معك، فما هي علامات نجاح مشروع داعش في الحكم، و أين تصيبها؟ أفي إقامة المجازر الجماعية، أم ذبح الأسارى وحرقهم أحياء، أم في ترويع الآمنين وجلد المدنيين على أهون المخالفات، أم في استحياء مؤسسة الرق وأسواق النخاسة، أم في إغراء الولد بقتل والديه، والقريب بقتل قريبه، واستحلال حرمات المساجد بتفجيرها بمن فيها من الركع السجد، أم في ترويع و تهجير المسيحيين واليزيديين من أهالي المنطقة عبر مئات السنين وسبي نسائهم وسوقهن إماء وسراري، أم في تدمير تراثات المنطقة، التي تمثل ذاكرتها الحضارية وتشهد بقدم إسهامها بل تأسيسها لحضارة البشر.. الخ. وعلى فرض أنه أصاب هذا النجاح، فقد صار هذا النجاح من الماضي، وبأسرع مما توقع الكثيرون.

إن كان ثمة نجاح لداعش فهو في تشويه صورة الإسلام على نحو كوني كما لم يحدث من قبل قط، وفي تنفير جيل من الشباب والشواب من المسلمين من دينهم

ومن رأيي أن داعش التي لا تجد محللين اثنين يتفقان على تحليل وضعيتها، فالغموض يكتنف هذا التنظيم من كل جوانبه، والأصابع الإستخباراتية حاضرة بقوة في كل ما يختص بهذا التنظيم، وقد كان لجهات كثيرة متصارعة مصالح متعارضة في دعمه، أما من الذي استفاد في النهاية، وخرج بأكبر الأرباح فأمر بات واضحا هذه الأيام.

إن كان ثمة نجاح لداعش فهو في تشويه صورة الإسلام على نحو كوني كما لم يحدث من قبل قط، وفي تنفير جيل من الشباب والشواب من المسلمين من دينهم واضطرارهم إلى الارتماء في أحضان الشكوكية والإلحاد كفرا بالدين، وبما يجلبه من متاعب وما يخلقه من عذابات.

أما الإسلام السياسي المعتدل ومشروعه في الحكم فليس أزيد من فقاعة كبيرة، خدع بها الناس ردحا من الزمن، لتتكشف أخيرا عن لا شيء، وليس هذا موضع التفصيل.

سؤال يتكرر و لا يزال يبحث عن جواب شاف وكاف: إذ لا يزال العنف الديني ينهل من تأويله للنص الديني، أي من القرآن و السنة وأقوال العلماء.. ومن التاريخ الإسلامي كذلك. كيف ترى سبيل الخروج من هذه الإشكالية؟

يقع الجواب عن هذا السؤال في عدد من النقاط، تتكامل ولا تتعارض:

1- من قديم أدرك الإمام علي بن ابي طالب لب المسألة، وذلك حين قال: إن القرآن حمّال أوجه، وهو سطر مكتوب بين دفتين، لا ينطق وإنما ينطق به الرجال.

فالنص، سواء أكان دينيا أم غير ديني، ليس محصنا ضد التأويل، كل تأويل مهما بدا مقتصدا أو مغاليا، رصينا أو تافها، أصيلا أو مبتذلا. ومن هنا لا تعود المعركة معركة نصوص، لكن معركة قراءات للنصوص، وإذ هي كذلك، فستئيض في نهاية التحليل معركة سلطات، سياسية، أو علمية، أو نخبوية، أو جماهيرية. وستجد في كل نهاية نصا للسلطة، لا يتطابق بالضرورة مع سلطة النص، بل ستكون سلطة النص في أغلب الحالات متغيرا تابعا، ومجرورا للسلطة لتنمسخ في كونها نصا من نصوص السلطة.

النص، سواء أكان دينيا أم غير ديني، ليس محصنا ضد التأويل، كل تأويل مهما بدا مقتصدا أو مغاليا، رصينا أو تافها، أصيلا أو مبتذلا.. وستجد في كل نهاية نصا للسلطة، لا يتطابق بالضرورة مع سلطة النص

2- يحضر الدين بنصوصه ومفاهيمه بشكل تضخمي في ثقافتنا العامة المعاصرة، ما يجعل مقاربة شتى القضايا مشروطة بالنص، ما يمكن دعوته بالنزعة التنصيصية. وهي النزعة التي فتحت بابا عريضا لكل من يحسن ولا يحسن، للقول باسم الدين في قضايا حساسة وخطيرة. وذلك في ظل فوضى المرجعيات، بسبب غياب المرجعيات الموحدة الموثوقة في عالمنا الإسلامي المعاصر. وإذا كان المفروض أن تمتلك المرجعية الموثوقة صدقية معرفية، بحيث تكون دوافع التأويل لديها من طبيعة مرجعية، وأن تكون عملية التأويل محكومة بضوابط منهجية مرعية، فإن الذي حصل للأسف هو أن الدوافع التأويلية لدى الجماعات الأصولية على اختلافها أتت من طبيعة أيديولوجية، ولم تحكم العملية التأويلية بالضوابط المشار إليها، بل عانت من اختلالات منهجية شتى، يعسر كشفها أمام القواعد الجماهيرية لدعاة الأصولية ورؤوس الحركات المتشددة.

3- قد كانت عملية التأويل ستكون أكثر انضباطا وتحصينا ضد المغامرات العبثية لو توفرت ثقافة راسخة ترعى وتترجم المقاصد العامة للدين، وتترجمها في العملية الإجتهادية والتأويلية، كما تتواصل مع العالم و تتفاعل معه عبر الأخذ والعطاء، لكن صدمة اللقاء العسكري بالغرب التي عانى منها عالمنا الإسلامي قبل أكثر من قرنين بقليل، في مستهل الحقبة الإستعمارية، ولم يتعاف منها بالشكل الصحيح، أفرزت طروحات إسلامية منغلقة في هم هوياتي، يختزل الذات المركبة في بعض مكوناتها التي تصوَّرها خطأ مكونات جامدة عابرة للزمان والسياقات. ومن هنا تلك المساعي العبثية في سبيل طهرانية تقطع مع قيم العصر وآفاقه لصالح إحياء قيم عصر مضى وبعثه من جديد.

صدمة اللقاء العسكري بالغرب التي عانى منها عالمنا الإسلامي قبل أكثر من قرنين بقليل، في مستهل الحقبة الإستعمارية، ولم يتعاف منها بالشكل الصحيح، أفرزت طروحات إسلامية منغلقة في هم هوياتي

من جهة أخرى، تولد عن الإنفتاح المفاجئ على العالم الغربي، خصوصا في عمق نظمه الفكرية والسياسية والاجتماعية، غياب مقلق للتجانس الثقافي في عالم المسلمين، فصرت ترى ثقافات متجاورة متشاكسة غير متفاهمة في فضاءات شتى؛ الجامعة، والمؤسسة، والشارع، والتلفاز والمسرح، ومنابر الفكر والإعلام المختلفة، من الصحيفة والمجلة والكتاب، وأخيرا الشبكة العنكبوتية ومنصات التواصل الاجتماعي المعروفة.

هذه الوضعية من الاستقطاب الحاد، أفرزت تفضيلات فكرية متقابلة في أحيان كثيرة، تتذرع بصور من التأويلات المتعارضة.

في هذا السياق، ألا تلاحظ أن الأجيال الصاعدة والجديدة، مع التقنيات الحديثة أصبح لها جرأة أكثر (أي أكثر نقدا بإزاء ما تتلقاه) تجاه النصوص والمرويات الدينية (لا سيما الخرافية)؛ وكأن العقل تطور! وبالتالي هل يجعل هذا، النص المؤسس للإسلام (والإيمان عموما) في محك وأمام اختبار تطور العقل؟

بالتأكيد. وتعزى هذه الجرأة، وذلك التطور إلى التعرض المستمر لسيال معرفي متحرر من كل القيود، يتدفق من أربع نواحي العالم، ومن شتى الثقافات والمرجعيات. الأمر الذي رفع سقف الجدال، وسقف التوقعات إزاء كل سؤال أو استشكال. والأكثر من هذا كله، أنه أشكل على الكثير، والكثير جدا، مما كان يرسل في ثقافتنا إرسال المسلمات، وقد يدرج ضمن قائمة القطعيات والمحكمات.

إن آراءنا وتفضيلاتنا لم تعد تحاكم إلى تقاليدنا الفكرية والدينية وحدها، بل صارت تقاليدنا هذه تحاكم إلى أطر أوسع ومرجعيات عابرة للحدود من كل نوع؛ ثقافية وجغرافية وعرقية ولغوية. إنها حالة غير مسبوقة بالمرة، لكنها فرصة تتهيأ لأول مرة، لاختبار مدى صلوحية نصنا الديني للعالمية.

إن آراءنا وتفضيلاتنا لم تعد تحاكم إلى تقاليدنا الفكرية والدينية وحدها، بل صارت تقاليدنا هذه تحاكم إلى أطر أوسع ومرجعيات عابرة للحدود

وإذا الفكر كله لعبة مقارنة، كما قال آينشتين مرة، ففي هذه المرة سيغدو التراث كله والدين كله تحدي مقارنة. واستحقاقات هذا الإنفتاح أكبر مما يُقَدّرُ ـ ربما ـ معظمنا، يتمثل بعضها في إعادة قراءة الدين وصوغ خطابه الذي سيتلى على مسامع العالم، وهذه المرّة لا من موقع المسيطر، بل من موقع الند يحاور أنداده، وبما يفترض أن يجيب عن تحديات العالم لا تحديات عالمنا الخاص، وبما يلبي احتياجات العالم لا مجرد احتياجاتنا نحن، وبما يلتئم بمعايير العالم، لا بما يرضي معاييرنا نحن.

لا تزال بعض القضايا شائكة لم تقنع العصر الحالي، منها الإرث، التعدد، الحجاب، حرية الإفطار في رمضان، الحرية الجنسية... الخ. هل نحتاج إلى تجديد شامل لمنظومة التشريع الفقهية (المتحكمة في دسترة القوانين)، أم إلى حركة نهضوية للوعي والتفكير الإسلامي.. أو إلى حلول أخرى؟

الحركة النهضوية للوعي لا تتعارض مع تجديد المنظومة الفقهية، بل ينهض هذا التجديد حال وقوعه دليلا على وجود حركة الوعي هذه.

من وجهة نظر أصول فقهية يفترض أن يتغير كل حكم معلل حين تتغير علته، وهي قاعدة بالغة العقلانية، ذات قدرة تفسيرية و تغييرية هائلة، والمجال الأساسي لعملها أحكام المعاملات. ولست أرى مانعا من إعمالها في مجالها بالشكل المطلوب إلا الجمود ورهبة التجديد.

وهذا لا يمنع أن منهج فهم النص الديني وتأويله يحتاج أيضا، فضلا عن التفعيل، إلى تجديد وتثوير، ويمكن اختبار كل جديد بمعايير يجتهد أولو العلم و الفكر في وضعها، من مثل قدرة الجديد على الاشتغال بانسجام مع مقاصد الشريعة وروحها العامة، لاسيما المدلول عليها بنصوص تفصيلية فرعية في خصوص قضية ما./

انتهى الحوار.

اقرأ أيضا: عدنان إبراهيم (2): الإسلام السياسي أجهض الإصلاح الديني.. ويتعارض مع الدولة المدنية والمواطنة

اقرأ أيضا: عدنان إبراهيم (1): الأديان كمؤسسة اجتماعية تنكّرت كثيرا للإنسان