مع كل التجذر لعقيدة عذاب القبر في المخيال الإسلامي، ومع قرون طويلة من التسليم المتوارث بتلك الأهوال العجيبة والغريبة، من ضمة القبر حتى تكسر الأضلاع، إلى الشجاع الأقرع ذي الزبيبتين ومنكر ونكير، إلى القبر الذي يتحول إلى روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، إلا أن قلة قليلة جدا من تجرأت لطرح سؤال أساسي في الباب: هل من حديث عن عذاب القبر بالقرآن المصدر الأول للعقائد والغيبيات؟
هل يتصور أن كل هذه الأهوال والأخبار ليس لها من مصدر إلا روايات حديثية وأخبار آحاد ولم يتعرض القرآن نهائيا للحديث عن الموضوع؟
ليت الموضوع يقف عند هذا الحد، وهو أن هذه العقيدة لا أصل لها في القرآن، لكن الأمر أكبر من ذلك، فقصة عذاب القبر تخالف القرآن وتناقضه، ألم ينص القرآن على أنه لا عذاب إلا ما كان في الدنيا وما كان في الآخرة؟ " لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ"(الرعد:34).
لم كان التعوذ في القرآن من عذاب النار ولم يتحدث إطلاقا عن عذاب القبر، "الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ".(آل عمران:16)
وهل يعقل ويتصور بميزان العدل والقرآن أن يكون عذاب قبل الحساب؟ لا يعقل ذلك طبعا، ولا عذاب إلا بعد الحساب، ولا حساب إلا بعد القيامة: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ".(الأنبياء:47).
ولهذا كان التحذير من يوم القيامة وليس ما قبله، "وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" (البقرة:281)، وكان الوفاء والجزاء يومها وليس قبلها:"يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ،يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ" (البقرة:25)، فيومئذ وليس في القبر، "يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (الزلزلة:5ـ6ـ7ـ8 )
الصحف حسب القرآن لا تنشر إلا يوم القيامة، ويومها يتحدد أصحاب النعيم وأصحاب الجحيم، "إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (الانفطار 13ـ14ـ15)"، يوم الدين وليس يوم القبر، وإلا كيف يفاجأ صاحب اليمين حين يطلع على مقامه، لو كان يعلمه قبلا، "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيه" (الحاقة20َ ).
وهكذا كان القرآن واضحا في تقرير أنه لا حساب ولا عقاب إلا يوم القيامة، ولا شيء قبل ذلك، "فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (الزمر 15 )
بل إن من أصرح الآيات القرآنية في تقرير هذه الحقيقة، قول الله عز وجل: "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ .قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ.(يس:51-52)
فلو كان الكافر يعذب في قبره، وقامت القيامة فسيفرح لقيامتها لأن فترة الحساب ستكون بالنسبة له فترة راحة ما بين عذاب القبر وعذاب جهنم، ولن يتمنى بقاءه في مرقده الذي كان فيه.
قصة عذاب القبر تنسف ما كرره القرآن في أكثر من موضع حين تحدث عن حياتين وموتين، "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ "( البقرة 28)
فهو موت فى البداية، ثم الحياة الدنيا التى نحياها الآن، ثم الموت، ثم الحياة فى الآخرة، فهما موتتان وحياتان، لكننا لو أضفنا حياة القبر لأضفنا حياة أخرى وموتة أخرى قبل الحساب، فأصبحنا أمام حيوات ثلاث وموتات ثلاث، وهو المناقض لما قرره القرآن، بل لما أدركه أصحاب النار بأنفسهم، " قَالُواْ رَبّنَآ أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىَ خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ" (غافر 11) .
الموت بنص القرآن نوع من النوم "وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون"َ.(الأنعام:60)
فهو غياب عن الوجود وعدم إحساس بالوقت، والاستيقاظ من النوم عود للحياة كما البعث بعد الموت: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.(الزمر:42)
فالزمن بالنسبة للميت صفر، ولا فرق بين من بقي في قبره آلاف السنين ومن بقي يوما واحدا، لذلك يوم البعث سيشعر المبعوثون أنهم لم يعيشوا في الأرض إلا ساعة، "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ".(هود:45)
فمن مات لا يعلم بموته، ولا يعرف ذلك إلا حين يبعث.
وليس فيما استدل به البعض من قول الله تعالى:
"فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ"(غافر:45-46 ) أي حجة، فمثل هذه العقائد لايستدل لها إلا بما كان صريحا واضح الدلالة، وليس استنباطا وتفسيرا لآية اختلفت فيها التفسيرات، واحتملت أكثر من معنى، مع عدم وجود أي نص صريح في الباب.
لذلك تبقى قصة عذاب القبر خرافة إلى أن يثبت العكس، ولا أستبعد أن يكون للسياسة أثر في صنعها، ذلك أن بني أمية كانوا من أوائل من وظف القصاصين لضبط المجتمع، وكانت قريحة هؤلاء القصاصين تجود بكثير من الخيالات لاستقطاب السامعين وجذبهم، ولما كان ما بعد الموت غامضا غير معروف، كان طبيعيا توق الناس لتغذية فضولهم بأي أخبار أو قصص عن ذلك المقام، فوجدوا في الشجاع الأقرع ومنكر ونكير ما يملأ ذلك الفراغ.
من الغريب جدا، أنه كلما ذكر القبر في ثقافتنا إلا وكان الحديث عن عذاب القبر وليس عن نعيمه، ولا نملك أي قصص مفصلة عن ذلك النعيم كما هو الحال مع العذاب، مما يغذي فرضية الاختراع والخرافة لأسباب سياسية واجتماعية…
عموما: قصة عذاب القبر تبقى خرافة إلى أن يثبت العكس، وقد آن الأوان لرفع الوعي، وتحرير العقل من كثير من الأساطير والخرافات.