كتبتُ قبل عشر سنوات من الآن، مقالا تكلمت فيه عن أن الحل المتبقي أمام ما تبقى من أحزاب اليسار هو أن تتوحد ـ وليس أن تندمج ـ في حزب واحد لكن بشروط لا داعي للخوض فيها الآن، وإن كان أهمها ضرورة إعادة النظر في بعض "المقدسات" الإيديولوجية التي بادت وبارت، ولم تعد صالحة في عالم ما بعد الألفية الثانية. حينها توصلت بعديد الرسائل والمكالمات من طرف أصدقاء ينتمون خصوصا لحزبي الطليعة والاشتراكي الموحد، بعضهم يتساءل حول الغاية من كتابة مقال في ظرفية كهذه، وبعضهم الآخر يعاتب عن فكرة تحمل الاستحالة بين طياتها، شعرت أني بعيد كل البعد عن المجال السياسي، لأني أنظر إليه بعين فلسفية تقرأ الواقع خارج الانتماء الحزبي، وليس بعين إيديولوجية تغلب عليها العاطفة والتسرع في إصدار الحكم أكثر من أي شيء آخر. على العموم كُتب المقال ومات مؤلفه بلغة رولان بارث، ومعه ماتت فكرة الجمع في لحظة كان لا بد أن يتحقق فيها التوحد، أما التخلف عنها فلا شك أن له من التبعات السلبية ما ليس لغيره.
مرت سنوات وأحداث كبيرة تحت مياه الجسر شبه الراكدة، حصلت توترات داخلية كبيرة ستتوج بطلاق اتفاقي بين الاشتراكي الموحد وباقي مكونات فيدرالية اليسار، ومعها وقع انشقاق آخر سيُتوج بعدئذ بالتحاق "اليسار الوحدوي" ضمن ركب الفيدرالية، أما الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد فإنها ستظهر بعدئذ رفقة نبيل بنعبد الله ـ الأمين المطلق والواحد الوحيد للتقدم والاشتراكية ـ في صورة معبرة تحمل ملامح متعددة لتأويلات متنوعة. بينما سيقدم إدريس لشكر أمام الملأ مفهوما جديدا للمعارضة يمكن تسميته بالمعارضة الناعمة التي تسعى للاقتراب والتودد كثيرا من حزب رئيس الحكومة، طمعا في المشاركة فيها خلال أول تعديل وزاري بدأت تظهر بعض من بوادره. تلكم إذن حالة أحزاب اليسار التي ابتعدت بسنوات ضوئية عن مشاكل الشعب الذي طالما شكل حطبها ووقودها الذي به كانت تشتعل وتنير ظلام الاستبداد والفساد والجبروت خلال زمن مضى.
لماذا قررت الأحزاب الثلاثة وبعض من الفارين من جحيم واستبداد إدريس لشكر الإعلان عن الاندماج؟ لا أحد يملك الجواب الشافي بطبيعة الحال، هناك جواب جاهز أدلى به عبد السلام العزيز، جواب يمكن أن يقوله أي شخص طُرح عليه نفس السؤال: "تجميع قوى اليسار والنضال من أجل الدولة الاجتماعية والحرية الاجتماعية والعيش الكريم لجميع المغاربة." للإشارة إذا سألت أي شخص مهما كان انتماؤه الحزبي من اليسار واليمين والوسط ـ هذا إذا كنا نملك يمينا ووسطا حقيقيين ـ وغير المصنفين وما أكثرهم، فإنه سيقول نفس الكلام وأكثره. الجواب الحقيقي سنجده دون مواربة خلال أشغال المؤتمر الإندماجي ببوزنيقة وما يحمله من رمزيات قلما تم الانتباه إليها، ففي غرف المبيت مثلا، حافظ كل حزب على تقوقعه دون أن يندمج الكل، ونفس الشيء نجده في موائد الأكل حيث بقي الجميع وفيا إلى حنين الحزب القديم وليس الحزب الجديد. ثم سيتكلل المشهد السريالي غداة الإعلان عن عدد أعضاء المكتب السياسي الذي وصل إلى 50 عضوا وعضوة، كثير منهم أحيل على التقاعد السياسي، وبلغوا من العمر عتيا، إلا أنهم قدموا لنا وصفة سحرية لم تترك للشباب مهمة تجربة القيادة، فلا شيء سيفصلهم عن الكراسي غير المنية. وهي سابقة لم ولن يكون مسعاها غير جبر الخواطر، خاصة وأن التجارب تقول أن كل شيء يبنى عن التوافق لن يكتب له الاستمرار، وإن كُتب له فبضعف وهون كبيرين. ولربما ستتفاقم الأمور أكثر على المستوى التنظيمي والخط الإيديولوجي وكذلك الذراع النقابي "الكونفدرالية الديمقراطية للشغل" الذي عمل دوما أعضاء حزب معين على الاستحواذ على هياكله التنظيمية وإن كان يجمعهم سابقا تحالف ثلاثي مشترك. أحيطكم علما أني لا أقرأ الطالع، لكن المؤشرات الحالية ستبين عاجلا أو آجلا مسألة البلقنة التي لا يمكن الحد منها، وأن الحزب الجديد لن يخلو من النزعات القبلية ومن مرض الكولسة الذي يشكل بنية من بنيات تفكير المجتمع المغربي، سواء خارج السياسي le politique أو داخله، ناهيك عن أهم عائق سيكبح طريقة الاشتغال، والذي يكمن في إرضاء جميع الأطراف في تمثيليات الأجهزة، حفاظا على اللُّحمة ورأب الصدع.
هناك مؤشرات سلبية وقعت وستقع بعدئذ، لعل أهمها أن الحزب على مستوى الشكل يحمل طابعا اندماجيا، لكنه على مستوى المضمون لن يستطيع التخلص من حنين الانتماء الماضي، وإن كان أغلبه ينحدر من أصل وحيد وهو الاتحاد الاشتراكي الذي تخلى عن قواته الشعبية. كان من الأجدر أن يتم قراءة الوضع الحالي من طرف رجال متخصصين وليس من طرف سياسيين، فما الفرق بينهما؟ الرجال المتخصصون على المستوى الإيديولوجي لهم عين ثاقبة قادرة على قراءة الواقع واتخاذ قرارات قد تبدو للعديد سابقة لأوانها، أو تحمل المغامرة والمخاطرة بالإطار، أما رجال السياسة فإن ما يحركهم هو لعبة المصالح لا غير، الأمر الذي يعطينا نظرة قريبة للحدث، وفي نهاية المطاف يتم تغليب خطاب رجل السياسة عن رجل التنظير. لذا فقد كانت هناك مصلحة باطنية كان لها شرطها الحقيقي في الماضي، أي قبل حوالي عشر سنين من اليوم، إلا أن أمر تأجيلها أطفأ مسعى نجاحها اليوم.. على العموم انتهى المؤتمر الاندماجي وعاد كل حزب إلى عادته القديمة التي تتمثل في الركون والركود، الذي يرافقه انفعال متسرع بين الفينة والأخرى مع حدث ما، لكن أهم نقطة كان من الأجدر نقاشها، تكمن في ضرورة طرح السؤال التالي: ألم تستوفي أحزاب اليسار برمتها شرط وجودها، وأن بقاءها اليوم غرضه تأثيث المشهد السياسي وليس اللعب فيه بقوة؟ السؤال موجه لمكونات الحزب الجديد...! عموما تعلمنا فلسفة قراءة الواقع، أن لا شيء يدوم غير التغير، وأن طلب بقاء شيء وقد آن أوان ذهابه المطلق، سيظهَر أفراده بمظهر يثير الشفقة أحيانا، والسخرية أحيانا أخرى.
ختاما، من الأفضل إعلان موت الفقيد، بدل إبقاءه في سرير الإنعاش تحت التنفس الاصطناعي وضرب الصدر طلبا في سماع دقات قلبه المنخور، فلا هو بحي يرزق، ولا بميت وقد كان من ألأجدر إكرامه بدفنه. أفلا يوجد طبيب عاقل يشرح للأهل أن الرجل هلك لأنه استوفى شروط بقاءه؟