أصدر صالح البكاري، السفير التونسي السابق بالمغرب من يناير 1997 إلى أكتوبر 2009، كتابا جديدا تحت عنوان "سفيرا بالمملكة المغربية"، تطرق فيه إلى العديد من خفايا السياسة المغربية، في علاقتها بتونس ورئيسها المخلوع زين العابدين بن علي.
كتب صالح البكاري عن نهاية مهمته سفيرا لتونس في المملكة، التي تسلم على إثرها الحمالة الكبرى للوسام العلوي، من يد الملك محمد السادس يوم 25 أكتوبر 2009، يقول: "قضيت ربع عمري في بلد غاية في الروعة والطيبة والكرم، ونشأت في نفسي ألفة له ولأهله، وانطمست الصعوبات القليلة التي مررت بها في خضم المكرمات، وفي ذهني وأنا أغادر قول أبي الطيب: خلقت ألوفا... وفي خاطري أيضا دعاء أحد عامة الناس بالمغرب لي بقوله "الله يكمّل سربيسك بخير"...
وفي ما يلي مقتطفات من كتاب صالح البكاري (الذي سبق أن كان وزيرا للثقافة)، والذي تصل عدد صفحاته إلى 320 صفحة، تطرق فيها إلى مجموعة من الشخصيات المغربية في لحظات حاسمة من تاريخ المغرب، كعبد الرحمان اليوسفي والراحلين إدريس البصري والجنرال دوكور دارمي عبد الحق القادري وغيرهما...
إقالة البصري "غير حكيمة"
كتب البكاري عن إقالة وزير الداخلية القوي إدريس البصري من طرف الملك محمد السادس بعد أشهر من اعتلائه العرش: "قال لي الرئيس (زين العابدين) ابن علي معلقا على توقيت الإقالة إنها غير حكيمة. إذ كان، في رأيه، من الأجدر تعيين المُقال على رأس وزارة أقل شأنا من وزارة الداخلية، لما في ذلك من فائدة مزدوجة تتمثل في عدم تخلي الدولة عن رجالها مما يجرّئ عليها معارضيها، ويفقد رجالها ثقتهم بها؛ ومن ضرورة "تفريغ خزانته" حتى تنقطع حباله فيتقى جانبه".
ويعتبر السفير أن "هذا الرأي فيه هوس أمني بقدر ما فيه من بعد نظر سياسي".
"تصدير" التجربة المغربية الأمازيغية
تطرق السفير السابق إلى كواليس تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وإمكانية "استفادة" تونس من التجربة المغربية في هذا المجال.
في هذا السياق، كتب "وبدواعي نحت الشخصية المغربية المتعددة الخصائص، ومواكبة حراك الجمعيات الثقافية الأمازيغية المتنامية، وتأطيرها، وتجميع جهودها، احدث الملك محمد السادس سنة 2001، معهدا ملكيا للثقافة الأمازيغية. وأوكل إدارته إلى العلامة محمد شفيق، المهتم بالتراث الأمازيغي، ومؤلف المعجم العربي الأمازيغي، والمؤمن بوحدة المغارب على أساس العوامل المشتركة التاريخية والثقافية والجغرافية تلتي غذاها الدين الإسلامي. وكان محمد شفيق قد نشر "البيان الأمازيغي"، سنة 2000، وقّعه معه أكثر من مائتي ناشط أمازيغي، ثم جمع مليون توقيع. وقد استعرض فيه أوضاع الأمازيغ بالمغرب ودورهم على مر التاريخ حتى عهد محمد السادس. وتقدم فيه بسبعة مطالب تهدف إلى إحقاق الحقوق السياسية والثقافية والاقتصادية للأمازيغ، ومن بينها إحداث مثل هذا المعهد، وإلغاء العمل بقائمة الأسماء الموروثة عن عهد الحسن الثاني التي تلزم ضباط الحالة المدنية برفض تسجيل المواليد بأسماء غير واردة فيها. وقد كان اقترح عليّ، قبل أن يبادر الملك بتأسيسه، أن أعرض على السلطة في تونس إقامة مثل هذا المشروع، باعتبار الأمازيغية من مكوناتها.
وكان الملك محمد السادس تسلم هذا البيان يوم عيد العرش وقرر تأسيس هذا المعهد، بما فيه من توجه يتماهى تماما مع تمشّي السلطة الرسمية واختياراتها، ويساعد على التصدي على توجهات متزايدة تنبذ العرب والعربية وتعتزّ بالإسلام، وأخرى نافرة من العرب "الغزاة" ومن الدين الذي نشروه، كما يتجلّى ذلك في أدبيات الكونغرس الأمازيغي، بل عند بعض الناشطين في الحقل الثقافي الاجتماعي الأمازيغي".
بين القادري واليوسفي والبصري
يحكي السفير السابق عن بعض متاعبه في المغرب، والتي أبرز فيها من يملك "حقيقة" الحكم في المغرب، في زمن "التناوب"، ومما جاء في الكتاب: "في بداية مهمتي لاطفني ديبلوماسي مغربي سابق قائلا: "إن السفير تأتيه المشاكل من بلاده أكثر مما تأتيه من بلد الاعتماد". والأمر كان كذلك عند الحديث عن المنغصات. ففي بداية عمل حكومة التناوب قررت عدة جمعيات حقوقية وأحزاب يسارية ونقابات تنظيم مسيرة تنطلق من وسط الرباط باتجاه مقر السفارة، وتسليم السفير عريضة احتجاج على إيقاف ناشط حقوقي تونسي.
وكلّفت رسميا وبإلحاح يومي بالسعي لدى السلط المغربية للحيلولة على الأقل دون وصول المتظاهرين إلى مقر السفارة. اتصلت بكثير من المسؤولين ممن أعرف في الحكومة والأحزاب. لم تنجح تلك المساعي، فالتجأت إلى صديق كان يومها مستشارا للوزير الأول (عبد الرحمان اليوسفي)، ووعدني بالرد قبل تاريخ المظاهرة. ردود المسؤولين المغاربة الأولى كانت الصمت بمعنى الامتناع عن التدخل. وهو ما أوهن ثقتي بما سيكون عليه موقف الوزير الأول، لذلك قررت إبلاغ الموضوع إلى الملك نفسه عن طريق أحد ثقاته، الفاضل عبد الحق القادري، المدير العام للوثائق والمستندات (الاستعلامات الخارجية) الذي سينهي حياته المهنية فريقا أول (جنرال دوكور دارمي)، وسيصبح صديقا حميما غاية في اللطف والأريحية، وعلى ثقافة عميقة واسعة، وهو عسكري أساسا، مما يحسده عليه جل من ينتسبون إلى عالم الفكر والمعرفة.
في تقديم أسباب زيارته، قلت للكاتبة إنها زيارة مجاملة وأنا أعرف أنه صديق الرئيس ابن علي، من يوم تزاملا في مدرسة سان سير العسكرية الفرنسية. ولا أعتقد أنه يجهل الدافع من وراء هذه الزيارة، فتلك مهمته، وفي أثناء اللقاء عرجت على الموضوع الحقيقي باقتضاب في أثناء الحديث المطول بيننا في مواضيع شتى كان منفتحا لبعضها، مبادرا للأخرى.
بعد زوال اليوم الموعود مع مستشار الوزير الأول، خاطبني بالهاتف، إدريس البصري وزير الداخلية، والحال أني لم أتصل به في الموضوع، قائلا: "جلالة الملك يبلغك أنه أمر بمنع تنظيم المسيرة بكل تفاصيلها".
في آخر العشية، جاءني المستشار إلى بيتي، كما اتفقنا، وقال لي بنبرة آسفة: لقد تداول المجلس الوزاري اليوم في الموضوع وقرر عدم منع تنظيم المسيرة. تركته يسرد شرح أسباب القرار: عهد جديد من الحريات والحقوق... ثم شكرت له مسعاه وفاجأته بقولي إن جلالة الملك قرر إلغاء تلك المسيرة فبهت... بعد مدة قصيرة، ستدرك حكومة التناوب التي رفعت من الشعارات أكثر مما تقدر على إنجازه أن للحكم إكراهات، وأن في الدولة خبايا لا تسبر أغوارها، وفيها آليات لا يتحكم فيها أحد وهو ما يسمى بالدولة العميقة، ناهيك أن الملك لم يفوض للحكومة تدبير العلاقات الخارجية، ولا غيرها من مكونات السيادة".
وقفة أمام السفارة التونسية
ويحكي البكاري قصة أخرى مشابهة لكن مفعولها كان مباشرا عليه، يقول "حادثة أخرى أثارت غضب السلطة التونسية عليّ، إثر وقفة احتجاجية أمام السفارة شارك فيها أقل من عشرين نفرا من المتصدرين للدفاع عن حقوق الإنسان، لأني لم أفلح في العمل على منعهم عن طريق تنبيه السلطة المغربية إلى ضررها بالعلاقات الثنائية. وكرد فعل عليها، بلغني أن الجانب التونسي قد أوعز لبعض الأتباع بتنظيم وقفة احتجاجية أمام السفارة المغربية بتونس لا أعرف ما رفعت من شعارات. ويبدو أن السلطة المغربية لم تعر تلك الوقفة اهتماما، ولم يفاتحني بشأنها أي مسؤول مغربي".
رفض زيارة بوعياش
في علاقة بحقوق الإنسان والحقوقيين، يحكي السفير السابق: "كنت أقبل عرائض الجمعيات الحقوقية ورسائلها. ولم أكن أتردد في مخالطة الحقوقيين خارج مقر السفارة، والتحادث معهم بهدوء، وقد أتخلص أحيانا من إلحاحهم الجاد بالدعابة.
ومن ذلك أن رئيسة المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، ونائبة رئيسة الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، قد لامتني على رفض السلط التونسية لزيارتها، هي رئيستها، إلى تونس، فأجبتها مازحا: بما أنكما تمثلان منظمة دولية، جيئي بقرار من مجلس الأمن تحت البند السابع، وستفتح لكما أبواب تونس طوعا أو كرها. ضحكت وغيّرت الموضوع. ومع توالي الأيام، سنصبح أصدقاء، أدعوها إلى الحفلات الوطنية التي أقيمها. أمينة بوعياش هذه ستعين لاحقا سفيرة لبلادها بالسويد. وما من شك عندي أنها تلاقي هناك أكثر بكثير مما لاقيته أنا في مجال حقوق الإنسان، لأن جانبا كبيرا من الأوساط السويدية يناصر البوليزاريو. ولن تطول مدة مهمتها هنالك كثيرا".
ربما لا يعلم السفير السابق أن أمينة بوعياش هي الآن، ومنذ أكثر من عام، رئيسة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهو المنصب الذي عينها فيه الملك محمد السادس يوم 6 دجنبر 2018.
ابن علي "يرفض" استقبال اليوسفي
حادثة "وقعت صباح يوم زيارة عبد الرحمان اليوسفي الأولى إلى تونس لرئاسة اللجنة العليا المشتركة مع نظيره التونسي (حامد القروي) في خريف 1998. قبيلها نصحني بعض الأصدقاء المغاربة بأن أدلي بحديث إلى إحدى الوسائل الإعلامية أختارها، تمهيدا لهذه الزيارة، وفق ما يقوم السفراء في مثل هذه المناسبة. تلقى حديث صحفي من وكالة الأنباء المغربية لينشره في صحيفة يومية، كنت فيه تقريبا السائل والمجيب، بمعنى مطلق الحرية فيما أقول، ودون إثارة أي موضوع مزعج لأي جهة تونسية أو مغربية، بما في ذلك قضية الصحراء التي لا يفوت الصحافيون المغاربة عادة أية فرصة للسؤال عن الموقف منها. سألني سؤالا واحدا عن رأيي في التناوب بالمغرب، ظنا منه أنه لا يختلف كثيرا عن التغيير الذي كنا نمجده في تونس. وكان جوابي أنه لا يسعني إلا أن أبارك هذا التناوب مادام هذا اختيار المغرب ولفائدته. وأنا في ذلك أستلهم ما قاله الحسن الثاني عن الرئيس وتونس.
وبالتوازي مع ذلك، أدلى الوزير الأول المغربي بحديث، بنفس المناسبة لصحيفة حزبه، خصصه للعلاقات التونسية المغربية والحاجة إلى العمل على تطويرها. وقال فيه، بالخصوص، إنه سيتطرق في مقابلته مع الرئيس التونسي إلى قضايا حقوق الجاليات المغاربية بأوروبا.
وفي صبيحة اللقاء المبرمج بين الرئيس والوزير الأول المغربي، هاتفني حامد القروي الوزير الأول ليبلغني غضب الرئيس علي بسبب تصريحي، ورفضه استقبال اليوسفي، لأنه قرأ في معرض الصحافة الذي يقدمه له مسؤول الإعلام بالرئاسة أن الوزير الأول المغربي قال إنه سيتباحث معه في حقوق الإنسان بتونس، وإن سفيره بالرباط من دعاة التناوب. نفيت له صحة المنقول، وطلبت من مصالح السفارة بالرباط موافاة القروي بصورة من الحديثين، فأبلغهما إلى الرئيس، فهدأ غضبه عن الوزير الأول المغربي.
أما المتهم بتأييد التناوب بتونس، فلم يرض عنه الرئيس. وقد علّق حامد القروي على هذه الحادثة قائلا لين لاستغرابه إياها: "سأحكيها لحفّار قبري"....".
اليوسفي ومتاعب الحكم
وفي سياق متصل بالوزير الأول السابق اليوسفي، يروي السفير السابق: "عبد الرحمان اليوسفي، وهو في زيارة لتونس لترؤس اللجنة العليا المشتركة وأنا أرافقه، قال لي في صيغ بوح من متاعب الحكم. "لقد قضينا أربعين سنة في المعارضة لا نعرف إلا قول لا. فلما كُلّفنا بالحكم لم نقدر على أن نكون إيجابيين، بمعنى وضع البرامج والمشاريع المناسبة والقدرة على تنفيذها، والاستجابة للاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة، التي وعدنا بحلها يوم يؤول إلينا الحكم. تبدّلت المواقع فتبدلت المواقف. وقساوة تجربة ممارسة الحكم برّدت غلواء الانتقاد وصرفت المنتقدين إلى أولوية تفقّد أحوالهم، وصرفتهم عن النظر بعين السخط إلى غيرهم"".