بقلم مراد برجى
لقد بدا جليا أن الديبلوماسية المغربية هي من ستتحرك، في شخص الملك محمد السادس، على إثر إطلاق عساكر خفر السواحل الجزائري، المرابط على الحدود المغربية، عيارات نارية، دون سابق إنذار، على خمسة شباب مغاربة، منهم من يحمل الجنسية الفرنسية، جاؤوا للمغرب من أجل الاصطياف، وكانوا على متن دراجات "جيت سكي" يمارسون الرياضة المائية بشاطئ السعيدية، رصاص الجيش الجزائري أصاب اثنين منهم قُتِلا على الفور، واحتُجز ثالث، فيما تمكّن الباقيان من النجاة.
كان ذلك يوم الثلاثاء الماضي، حيث بادر أحد الناجين من هذه الجريمة النكراء إلى إشعار السلطات المحلية بالحادث، مما دفع بالنيابة العامة إلى الدخول الفوري على الخط، والاستماع للضحيتين الناجيين ولأسر القتيلين والشاب الذي اختطفه خفر السواحل الجزائري، كما قام صياد بإخطار السلطات الأمنية بعثوره على جثة المغربي الفرنسي وهي تطفو على سطح الماء قرب المنطقة الحدودية، فيما الجثة الثانية انتشلها "القَتلة"، لكون القتيلين كان يرتدي كلٌّ منهما سترة نجاة، وقيل بعد ذلك إن البحر ألقى بها.
تفاصيل هذه الرواية اطلع عليها المغاربة عن طريق فيديوهات مُصورة من أحد ضحايا هذا الحادث المُؤلم، وبعض أقرباء الضحايا الآخرين، كما ألّبت قلوبَ المغاربة جثةُ القتيل وهي تطفو على سطح البحر، بعد تصويرها من طرف الصياد، الذي صادفها بشاطئ السعيدية على مقربة من الحدود المغربية الجزائرية.
وفيما اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بتفاعلات المغاربة والتعبير عن صدمتهم، إثر علمهم بجريمة قتل مواطنين مغربيين بدم بارد، ظلّ الملياردير عزيز أخنوش وحكومته يلتزمون الصمت حيال هذا الحادث الدموي المقصود، لغاية يوم الخميس، موعد الندوة الصحفية للناطق باسم الحكومة، التي تعقُب عادة اجتماع المجلس الحكومي، حيث سيتلقّى المغاربة صدمة ثانية، حينما تحاشى الناطق الرسمي الكلام عن هذا الحادث الشنيع من تلقاء نفسه، وما كان ليتكلم عن الموضوع لولا أن سأله أحد الزملاء الصحافيين عن موقف الحكومة مما جرى، فأجاب، ببرودة دم وفي جملة استنكارية، أن "الموضوع من اختصاص القضاء"، دون أن يُعطي تفاصيل أخرى تبيّن للمغاربة الموقف الرسمي لحكومتهم حيال جريمة قتل راح ضحيتها مغربيان، واختُطِف ثالث، لكن الناطق كفّ عن "النطق"، وأغلق الحديث في الموضوع، دون أن يبدي أي شعور بالأسى والألم، ولم يكلّف نفسه حتى أن يقدّم، باسم حكومته، التعازي لعائلتي القتيلين، والوقوف إلى جانب أسر جميع الضحايا، القتيلين والمحتجز والناجيين، في انتظار بلاغ القضاء، والأدهى والأمر أنه، في هذا الوقت، تحرّكت الحكومة الفرنسية، وأكدت، في بيان رسمي، أن "مركز الأزمات والدعم في وزارة الخارجية والشؤون الأوروبية وسفارتي فرنسا في المغرب والجزائر على تواصل وثيق مع عائلات مواطنينا، التي نقدم لها دعمنا الكامل"!!!
المغاربة أحسوا بالذل من حكومتهم ورئيسها الملياردير عزيز أخنوش إثر ترك عائلات الضحايا "يعوموا بحرهم"، وإثر إغفال ناطقها الرسمي تقديم التعازي لعائلتي الضحيتين، بل وكان الأحرى تقديم العزاء، باسم الحكومة، لعموم الشعب المغربي...
وهذا أحد الأسباب وراء حرص رئيس الدولة على جعل الديبلوماسية حكرًا على القصر وبعض الوزراء فقط، وهو ما دفع بعض العارفين بخبايا الأمور إلى أن يربطوا هذه القضية بتحرك الملك محمد السادس، الذي سافر إلى فرنسا، في هذا التوقيت بالذات، في زيارة غير مُعلنة، حيث يُنتظر أن يلعب دورًا كبيرا في الإحاطة بالظروف والملابسات الحقيقية، التي أدت إلى افتعال هذه الواقعة من طرف العسكر الحاكم بالجزائر، ردًا على خطابات اليد الممدودة، التي ظل الملك يبعث، من خلالها، وكل مرّة، رسائل مُباشرة إلى الشعب الجزائري، ليكون على بيّنة من أن نظامه السائد هو من رفض ويرفض أفق التآخي والود والتفاهم والتعاون، الذي يُؤدي إلى ازدهار الشعبين الشقيقين الجارين، ومعهما كل شعوب المنطقة المغاربية...
وفي هذا الصدد، يمكن لأي مراقب موضوعي أن يجزم أن إطلاق عسكر خفر السواحل الجزائري النار على مصطافين مغاربة عُزّل لا يمكن أن يحدث دون أخذ الضوء الأخضر مسبقا من قيادتهم، خصوصًا إذا علمنا أن رئيس أركان الجيش الجزائري، الذي "رقّى نفسه" إلى فريق أول، السعيد شنقريحة، هو من يتتبع شخصيًا كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالملف المغربي الجزائري، في ظل الضعف المبين للرئيس عبد المجيد تبون أمام الجيش، الحاكم الفعلي للدولة الجزائرية.
النظام الجزائري يريد، من خلال هذا الاعتداء الشنيع والمتعمّد، خلق أزمة لتحويل الانتباه عن قضيتين محوريتين في الظرفية الراهنة:
الأولى قرار القضاء السويسري، في نفس يوم الجريمة (الثلاثاء 29 غشت 2023: صباحا الإعلان عن المتابعة، وفي المساء إطلاق النار) بمتابعة وزير الدفاع الأسبق خالد نزار، بلائحة اتهام تورّطه في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال ما عُرف بـ"العشرية السوداء"، التي راح ضحيتها أزيد من 250 ألف قتيل جزائري، وهو نفسه الذي كان وراء أول عملية إرهابية سيعرفها المغرب، بالاعتداء على فندق أطلس أسني في مراكش يوم 24 غشت 1994.
والثانية، وهي الأساسية، التغطية عما جرى ويجري في الصحراء المغربية من مؤامرات فاشلة للعسكر الجزائري المُندس في صفوف ميليشيات البوليساريو، التي أعلنت عن إنهاء اتفاق وقف إطلاق النار من جهة واحدة، ومحاولاته بين الفينة والأخرى، اختراق الحدود الأمنية المغربية جنوب المملكة، منذ التدخل العسكري المغربي لحماية العبور والحركة التجارية ونجاح المغرب في بسط سيطرته الكاملة على منطقة مغربية كانت تدّعي البوليساريو أنها أراضي "محرّرة"، تقع بين المنطقة الحدودية الگرگارات ودولة موريتانيًا الشقيقة، فتحوّلت، بالتدخلات الحازمة والحاسمة للجيش المغربي، إلى منطقة "محرّمة"، على الميليشيات، مما أدى إلى وقف جرائم الاعتداءات والسرقات والقتل في بعض الأحيان، التي كان يتعرض لها مستعملو هذه الطريق التجارية، التي باتت اليوم مؤمّنة أمام المئات من الشاحنات المحمّلة بالسلع، التي تعبر إلى موريتانيا، ومنها إلى العديد من البلدان الإفريقية...
بناء على كل ما تقدّم، فإن الديبلوماسية المغربية يجب أن تحاصر جريمة القتل الشنعاء التي اقترفها العسكر الجزائري في شقها القانوني فقط، خصوصًا أن هذا "الاغتيال" طال، في الوقت نفسه، مواطنين فرنسيين من أصل مغربي، وهو ما يستلزم التدخل الفرنسي المباشر لمساءلة جنرالات الجزائر، وعلى رأسهم قائد أركان جيشهم السعيد شنقريحة "صاحب الضوء الأخضر" لعسكر خفر السواحل الجزائري لإطلاق للنار، ولم يكن يعلم، أنه قتل واحتجز سياحا فرنسيين من أصل مغربي، ولذا هو مطالب اليوم بتقديم أجوبة للقضاء الفرنسي، قبل الجواب عن الاستفسار الديبلوماسي الأروبي، ونفس الشيء بالنسبة للمغرب تجاه مواطنيه الضحايا، في إطار احترام تام لمساطر القانون الدولي الإنساني وكذا لمبادئ ومقتضيات اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين...
وسيتعزّز هذا المسار، بالملف المتكامل، الذي يتضمّن كل الإجراءات القانونية التي قامت بها النيابة العامة المغربية في ما يخص هذه الجريمة، بما أن القضاء المغربي اليوم بيده جثة القتيل الأول، ولديه محاضر الاستماع، التي حررها الأمن المغربي للناجين ولشهود هذه الحادثة، ولديه شكايات عائلات الضحايا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك اعتراف السلطات الجزائرية الصريح بوجود جثة القتيل الثاني على أراضيها وهي تُفاوض عائلته، التي تطالب بتسليمها الجثة، فيما اعترفت هذه السلطات، أيضا، باحتجاز الفرنسي من أصل مغربي معتقلًا بأحد سجونها.
وبين هذا وذاك، فإن تحرك الديبلوماسية المغربية، بالتنسيق مع نظيرتها الفرنسية، بإشراف مباشر من الجالس على العرش، سيمكّن من حصر ملف الاعتداء في المساطر القضائية، وإفشال المخطط الذي كان جنرالات الجزائر يريدون به جرّ المغرب إلى حرب البلاغات، والبلاغات المضادة في محاولة لجعل إعتداء العسكر الجزائري على مواطنين عُزّل كانوا يصطافون، يُشبه صد الجيش المغربي لهجومات المتكرر عليه من طرف مرتزقة مسلّحين، يعمدون إلى التوغل داخل أراضيه، سعيًا من وراء ذلك إشعال فتيل حرب مباشرة توقف بها الجزائر التقدم الديبلوماسي، الذي يتحرّك، بخطوات سريعة، نحو الطي النهائي لملف الصحراء المغربية، بعد سحب الملف من اللجنة الرابعة لتصفية الاستعمار، والسعي إلى التصويت على المقترح المغربي المتعلّق بالحكم الذاتي، خصوصا بعد سحب معظم الاعترافات بالكيان الوهمي، وتوالي الاعترافات الدولية بالسيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية، وفتح دول عديدة لقنصليات بالأراضي المغربية الصحراوية...
وما يخيف النظام العسكري الحاكم في الجزائر أكثر، وما يزيده رعبا وإحباطا هي الزيارة، التي وعد بها الرئيس الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، للصحراء المغربية، وبالخصوص ما تضمّنته رسالة الاعتراف، التي بعث بها مُؤخرا إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس، من التزام صريح بأن إسرائيل ستقوم بحملة تبليغات للدول الصديقة والحليفة، ليس فحسب من أجل حشد الاعتراف بمغربية الصحراء، بل أساسا لدفعها إلى فرض خيار التصويت على المقترح المغربي بالأمم المتحدة، وحسم هذا الملف الذي بات قاب قوسين من التحقيق... ولذلك، نجد أن النظام الجزائري دخل مرحلة "اليأس"، وبات يدقّ طبول الحرب، بافتعال الأزمات وتزايد الاستفزازات، التي بات العالم أجمع شاهدا على فصولها المكشوفة...