تحكي رواية "مؤرخ المملكة"، التي تنافس في اللائحة القصيرة على جائزة الغونكور، جوانب من حياة الحسن الثاني، وتثير العديد من التساؤ"لات حول كواليس كتابتها. في هذا الحوار يعود الروائي الفرنسي "مايلرونوار" إلى عمله هذا وكيف أنجزه ومراميه والمصادر المختلفة التي اعتمد عليها.
أنت خريج المدرسة العليا للأساتذة، ومبرز في الفلسفة. تكتب منذ 2003، ولكن لم تتناول المغرب قط في مؤلفاتك. بل إن الطاهر بن جلون أكد في مقال خصصه لروايتك، أنك لم تزر المغرب قط. فلماذا إذن جعل المملكة والحسن الثاني والمدرسة المولوية موضوعا لروايتك؟
بالنسبة إلي هذه الرواية فكرة قديمة ليست مرتبطة بالأحداث الحالية. وصدر الكتاب الآن، في 2020، لأنني فقط تمكنت للتو من إنهائه بعد أن اشتغلت عليه لزمن طويل.
ما أثار اهتمامي في الأول هو شخصية السلطان مولاي إسماعيل، قبل عشرين سنة. وفي 2012 راودتني فكرة خلق شخصية مستشار الملك الحسن الثاني.. هذا المستشار الذي سيشتغل، بحكم أنه مؤرخ المملكة، على مولاي إسماعيل وسيبرز أوجه التشابه بين القرنين السابع عشر والعشرين، ولكن كذلك أوجه التشابه بين الملكية المغربية ونظيرتها الفرنسية. وكلما تقدمت في الاطلاع على المراجع انتبهت أكثر إلى ان عهد الحسن الثاني يشكل مادة روائية غنية بالتحولات والتقلبات، والمشاعر، والغموض. اشتغلت كذلك على أسلوب السارد، مؤرخ المملكة، حتى أعطيه نبرة قريبة مما يمكن أن تكون عليه اللغة الفرنسية في عهد الملكية الفرنسية. وهذا العمل كله تطلب مني وقتا طويلا.
إن روايتك تنم عن معرفة دقيقة ورفيعة بتاريخ المغرب، وبرموز الملكية. فما هي مصادرك؟
أساسا، كتب حول الحسن الثاني، والكتب التي نشرها الحسن الثاني بنفسه ("التحدي" و"ذاكرة ملك")، دو إغفال الحوارات التي أجراها والندوات الصحافية الني نظمها والتي يمكن اليوم الاطلاع عليها في اليوتوب، والتي اعتمدت عليها لتشكيل أسلوبه الخطابي، وهيئته وحركاته، مثلا طريقته في تدخين سجائره...
يجب أن أضيف إلى هذا منشورات مثل"تيل كيل" و"زمان". فلما شرعت في البحث في المراجع وتدوين بعض المعطيات، عثرت بالخصوص على مقال في "تيل كيل" يعود إلى 2012 بعنوان "في حميمية الملوك الثلاثة". ومن المرجح أن يكون هذا المقال مصدر عنصرين أو ثلاثة عناصرجاء ذكرها في الرواية بعد تغييرها إلى حد ما.
يقال إن حسن أوريد، الذي كان مؤرخا للمملكة ورفيق دراسة سابق للملك محمد السادس بالمدرسة المولوية، أحد مصادرك. ما مدى صحة هذا الأمر؟
لا أعرف حسن أوريد شخصيا. ولكن قرأت الخطوط العريضة لسيرة حياته التي يمكن أن تتشابه مع سيرة حياة الشخصية الرئيسية في روايتي، عبد الرحمان الجريب. إلا أنه لم يحصل لي شرف لقائه. وحياة شخصية روايتي تدور في زمن سابق. لقد بنيت هذه الشخصية دون أن يكون في ذهني نموذج محدد.
الفصل التي تروي فيه الانقلاب الفاشل لـ1971، ناجح جدا. كيف يمكن أن تحكي كواليس حدث لم نعشه؟
اعتمدت كثيرا على كتابين يتناولان بالتحديد المحاولة الانقلابية الفاشلة بالصخيرات في 1971: "صيفان إفريقيان" لـ"جاك بونوا ميشان" (الذي كان حاضرا وكان بين الرهائن) و"Echec au roi" لـ"فرانسوا بيدرون"، هذا الكتاب (الذي صدر في 1973 إن كانت ذاكرتي تسعفني) يعطي تفاصيل دقيقة جدا لمجريات الأحداث، تقريبا دقيقة بدقيقة.
وعلي أن أقول إن قصتي تبتعد أحيانا عما جرى، خصوصا فيما يتعلق بتشكيلة الشخصيات التي لجأت مع الملك إلى "حمامات" القصر، فضلا طبعا عن حادثة تتعلق بالشخصية الرئيسية التي أترك للقراء فرصة اكتشافها وهي جزء خالص للرواية.
هناك نقاط أخرى تختلف حولها الروايات التاريخية بنفسها. مثلا، بعض الروايات تقول إن الجنرال أوفقير كان بلباس البحر، وأخرى تقول إنه كان يرتدي ملابسه كاملة. اخترت الصيغة الأكثر روائية، أي الأولى.
فضلت عدم الكشف عن اسم الشخصية الرئيسية، عبد الرحمان الجريب، طيلة الصفحات المائة الأولى من الرواية. وحتى لما ظهر اسمه، كان من خلال ظهير أي من خلال كلمة ملكية. لماذا؟
في الحقيقة، لم يكن هذا خيارا، بل هو، في ذهني، نتيجة طبيعية للسرد المعتمد على ضمير المتكلم، الذي لا تجد فيه الشخصية الساردة فرصا كثيرة لذكر اسمها. هذا الأمر غالبا ما يحدث في الأدب، ولعل المثال الأشهر بهذا الخصوص هو رواية "البحث عن الزمن الضائع" لـ"مارسيل بروست"، ولكن ملاحظتك وجيهة والواقع أنني لم أفكر فيها.. نعم وجيهة لأن الحكاية تتضمن لغزا حول ميلاد السارد.
كيف يمكن أن تصف لنا العلاقة بين عبد الرحمان الجريب والحسن الثاني؟
مليئة بالتقلبات، ومعقدة للغاية وتتكشف طيلة الرواية. يمكن تلخيصها بالقول إن الجريب يميل دائما إلى مقارنة نفسه بشخص لا يمكن المقارنة معه.. بالرجل الذي لا يمكن أن يكون له معه شيء مشترك. فهو منحدر من وسط متواضع، ووجد نفسه في المدرسة المولوية مع الأمير الذي في سنه. وكان على ما يبدو أنجب تلميذ في الفصل.
نمَّى في نفسه شعورا بأنه ليس أقل من الأمير الذي سيصير ملكا. ويحدث أن يسخر منه، ولكنه في الآن ذاته يظهر مظاهر الخضوع، ويتصرف كما تتصرف الحاشية. بسبب حماقته أو سذاجته، يحدث أن يُغضب الملك أو يضحكه، بل قد يتجاوز الخطوط الحمراء، بوعي أو بلا وعي.
ولكنه يكن له التقدير أيضا، وهو معجب برباطة جأشه خلال المحاولتين الانقلابيتين الفاشلتين... باختصار، تصرفاته مع الملك تعبر كل أطياف علم النفس. بالمثل، فالطريقة التي ينظر بها الملك إليه لا تقل تعقيدا. فالملك يمكن أن يزيحه بحركة من يده.. أن يعفيه.. أن ينفيه. ولكن بالمقابل يقول له في عدة مناسبات "أنت الأفضل.. وحدك يمكنك إنجاز هذا... إلخ" دون أن نعرف مدى صحة هذا الكلام.
من المحتمل أن يبالغ عبد الرحمان الجريب في الحديث عن قسوة الملك معه، في العديد من المناسبة. وتبدو العديد من الأوضاع حمالة أوجه. في النهاية يقول "الملك يقودنا إلى الجنون. ولكن من طبيعة الأشياء أن يكون الملك محاطا بالمجانين.. أليس كذلك؟".
هل الجريب شهيد من شهداء حكم الحسن الثاني؟
فيما يخصه، تبدو لي هذه الكلمة مبالغ فيها. فالإهانات التي تعرض لها ليست الأكثر قسوة مقارنة مع ما يخبرنا به تاريخ حكمه. ويجب أن نستحضر هنا أنه في الجزء الثاني من حياته، الذي تشير إليه الرواية بشكل مقتضب، سينتقل إلى الجانب المعتم، إن جاز لي التعبير، وسيشارك في مهام ليست لها علاقة بالأدب كما في السابق.
وهذا تحول جذري مقارنة مع بداية الرواية، حين سيحظى باستقبال من طرف السلطان (الذي سيصبح محمدا الخامس فيما بعد) في نهاية دارسته بالمدرسة المولوية وسيخبره بأن طموحه بكل بساطة هو إنجاز عمل أدبي. يمكن القول إن عبد الرحمان شخص طوى الملك روحه في كل الاتجاهات.
إنه يشبه إلى حد ما شخصية تاريخية بفرنسا، بول بيليسون، رجل أدب قضى عدة سنوات في سجن "الباستي" لأنه كان مقربا من الوزير "فوكي"، ثم أفرج عنه الملك لويس الرابع عشر الذي جعله في خدمته كمؤرخ.
إذا كانت الرواية تبتدئ خلال سنوات الحسن الثاني بالمدرسة المولوية، فإنها تنتهي في 1972، بعد المحاولة الانقلابية للطيارين. لماذا التوقف هنا وعدم الذهاب إلى غاية 1999، إلى نهاية عهد الملك الراحل؟
حكاية عبد الرحمان الجريب تتوقف في 1972، ولكن يتلوها فصل ختامي تجري أحداثه في 1999، بعد وفاة الحسن الثاني بقليل. وفيه ، ستقابل طالبة فرنسية الجريب بباريس، حيث استقر غير بعيد عن معهد العالم العربي. ولكن معك حق، أهم أطوار الرواية تدور أحداثها إلى غاية 1972.
وهنك عدة مبررات لهذا الأمر. فمنذ بالبداية، كانت نقطة التتويج لمشروع الرواية بالنسبة إلى هي فكرة التزامن، في تلك السنة، بين المحاولة الانقلابية للطيارين والذكرى الـ300 لحكم مولاي إسماعيل.
ثم، وكما رأينا، انتقلت حياة السارد إلى بعد آخر مختلف، تماما مثل النظام الذي ازداد تشددا. والتوقف الفجائي يوحي، بشكل أدبي، بهذا التحول. وأود أن أضيف هنا أن الطاهر بن جلون تناول هذه العتمة التي ستلف البلاد، بعد تلك المحاولة الانقلابية، في روايته "تلك العتمة الباهرة"، ببراعة، وأحس أنني لست أهلا للتصدي لهذا الموضوع بعده !
ترد الإشارة إلى الشطرنج كثيرا على طول روايتك. هل يمكن أن نرى فيه رمزا، استعارة مجازية؟
إنه حافز أدبي (motif littéraire) قديم، يربط الرواية بالأدب الكلاسيكي الذي بهواه مؤرخ المملكة.. أهمية لعبة الشطرنج في بلاطات السلاطين، في الأزمنة الغاربة، وكون واحدة من القطع تمثل الملك.. كل هذه العناصر تتيح إمكانية إضفاء رمزية على الحكاية يمكن أن تثري أكثر بنية الرواية.
هل يمكن تصور هذه الرواية ذاتها اليوم بمؤرخ درس في المدرسة المولوية مع محمد السادس؟
يخامرني إحساس أن مثل هذا الكتاب، لو قدر له أن يُكتب، سيكون رواية مختلفة، ومختلفة جدا عن روايتي، وستكون أكثر معاصرة، أكثر حداثة في روحها وأسلوبها. والحق أن نقط التشابه التي أرصد، والتي أبالغ فيها قليلا بلا شك، مع مُلك مولاي إسماعيل، وعهد لويس الرابع عشر، ومع "ألف ليلة وليلة" (التي اكتشفت في فرنسا في عهد لويس الرابع عشر) تبدو لي ذات معنى مع الحسن الثاني أكثر من محمد السادس.
مع نهاية حكم الحسن الثاني، تصدت العديد من وسائل الإعلام إلى مهمة إعادة قراءة تاريخ المغرب. هل تحس، مع روايتك هذه، أنها تساهم في إعادة كتابة التاريخ؟
أعتمد، في هذه الرواية، على أعمال المؤرخين، والصحافيين، ولكن لا أدعي منافستهم فيما يخص المعلومات والمعارف وحتى درجة الحقيقة. لن يكون مجديا، في نظري، التعامل مع الرواية على أنها كتاب للتاريخ والبحث في ثنايا أحداثها عن حقيقة موضوعية، وربما الكشف عن أحداث جرت في تلك الحقبة. ولكنني سأكون سعيدا إن حفزت القراء، الذين يعرفون القليل عن تاريخ المغرب، على الاهتمام أكثر به.
ما الذي استخلصته بخصوص السمات النفسية للحسن الثاني، بعد الانتهاء من كتابة روايتك؟
إنه شخصية مركبة. له مكانة تاريخية. ويمكن أن يتحول إلى شخصية أدبية أو سينمائية في يوم من الأيام ربما، إسوة بكبار رجال الدولة في القرون الماضية.
في النهاية، أين تضع رواية "مؤرخ المملكة" بين الخيال والواقع؟
من الصعب عليها الحسم في الأمر، ولكن الأكيد أن جانب الخيال له الهيمنة. مثلا، فكرة تنظيم احتفال بمناسبة مرور 300 عام على حكم مولاي إسماعيل في 1972 (المهمة التي عُهد بها إلى السارد قبل أن يتم إلغاؤها) خرجت برمتها من خيالي. حاولت العثور على مشروع شبيه في تلك الفترة ولكن لم أجد له أي أثر.
كما أن الفكرة التي جاءت في بداية الرواية والتي مفادها ان مبعوثين "غامضين" يجوبون الأقاليم بحثا عن تلاميذ لمرافقة الأمراء بالمدرسة المولوية، تظل ممكنة ولكن لم أقرأ عنها في أي مكان.
ترجمة
عن "تيل كيل"