يعد المفكر الإسلامي صلاح الدين الجورشي، واحدا من أعلام الحركات الإسلامية بتونس، ومن الأوائل الذين اختاروا الانسلاخ من فكرة التنظيمات، مفضلا التركيز على الجانب الفكري والحقوقي عبر مساره الطويل. اختير، الجورشي، عضوا ضمن لجنة "الحريات الفردية والمساواة"، وشارك في صياغة تقريرها الأخير، الذي أثار الجدل في تونس وخارجها، لكون توصياتها دعت إلى المساواة في الإرث وإلى رفع القيود عن الحريات الجنسية.
ساهم الجورشي (من مواليد 1954) في بناء اللبنة الأولى للجماعة الإسلامية إلى جانب راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو، قبل أن تتحول إلى حركة النهضة. لكنه فضل الانسلاخ عن فكر الإخوان المسلمين وتأثيراته (عموما)، ليؤسس بعد ذلك تيار "الإسلاميون التقدميون"، الذي عرف باسم "اليسار الإسلامي" مع بداية الثمانينات، وينكب للتنظير له عبر كتب ودراسات ومنتديات دولية.
في هذا الحوار المطول مع "تيل كيل عربي"، يكشف الجورشي مسارات التنظيم الإسلامي في تونس، وماهية "اليسار الإسلامي" وقصته مع باقي الحركات، بالإضافة إلى طبيعة الصراع بين العلمانية والحرية وبين الإسلام السياسي والتقليدي، فضلا عن حديثه عما تضمنه تقرير لجنة الحريات ورأيه في توصياتها.
الجزء الأول: التنظيمات.. وحكاية "اليسار الإسلامي"
أولا، كيف يقدم صلاح الدين الجورشي نفسه، وبداياته الأولى ؟
أنا من مواليد 1954، وأقدم نفسي كمثقف حر، تطورت خبرته من خلال عمله كصحفي، وأيضا من خلال انشغاله بالحركات الإسلامية داخل تونس وخارجها. كنت من المساهمين في تأسيس الحركة الإسلامية في تونس، وبالتالي تبنيت في وقت ما جزءا من أطروحاتها وشعاراتها، إلى جانب أحميدة النيفر وشباب آخرون، قبل أن أن يحصل انقسام داخلها.
كان لدي نزوع نحو التدين قبل أن يأتي وقت التحقت فيه بأول دعوة، للالتفاف حول النواة الأولى للمجال الدعوي إلى جانب عبد الفتاح مورو وراشد الغنوشي. كنت في النواة التي أسست العمل الإسلامي في تونس، وكان سني آنذاك في حدود 17 سنة. هنا بدأت علاقتي بالحركات الإسلامية وبأطروحات الإسلام السياسي. وبالتالي فظروفي الشخصية والعائلية، وفرت لي المناخ لكي التحق بهذا المسار، بكل أخطائه وما ستؤول إليه الأمور.
التحقت بـ"الجماعة الإسلامية"، التي كانت عنوانا لشباب اجتمعوا في سنة 1973، وبايعوا الغنوشي باعتباره أميرا للجماعة. وبذلك تشكلت النواة الأولى لما ستشهده الحركات الإسلامية.
ما قصة "اليسار الإسلامي" ؟
قبل أن نحكي على اليسار الإسلامي، يجب أن نحكي على الأزمة التي شهدتها الجماعة الإسلامية؛ وهي أزمة ذات بعد تنظيمي؛ بحيث لم نكن داخل الجماعة نتطور، ولم تكن العلاقة داخلها ديمقراطية، بل ولم تعط للفرد قيمة أساسية أثناء عمله وتحركه. ثم كانت أزمة تربوية؛ إذ كل من التحق بالجماعة وجد نفسه في عزلة عن المجتمع والمحيط، مما زادهم الأمر تقوقعا على أنفسهم.
الأزمة التي شهدتها الجماعة الإسلامية؛ هي أزمة ذات بعد تنظيمي؛ بحيث لم نكن داخل الجماعة نتطور، ولم تكن العلاقة داخلها ديمقراطية، بل ولم تعط للفرد قيمة أساسية أثناء عمله وتحركه.
لكن عندما أردنا البحث عن الأسباب العميقة لهذا التقوقع والخلل التنظيمي، انتهى بنا النقاش إلى أن المشكل يكمن في الفكر وفي الخطاب، ولهذا ركزنا على نقد الخطاب. الأمر الذي مكننا ودفعنا لمراجعة تاريخ الإسلام والمسلمين عموما.
هل تأثرتهم في تلك الفترة بالموجة الناصرية والقومية العربية، أو الاشتراكية ؟
الحقيقة، لم يكن هذا هو العامل الأساسي، بل عندما تبدأ في عملية تحليل واستعراض البنية الفكرية والحركية، تكتشف أن جزءا كبيرا منه يعود إلى فكر الإخوان المسلمين. هؤلاء بالفعل كانوا يشكلون لنا المرجع والنموذج الذي نقتدي به. لكن عندما اكتشفنا أن هذا النموذج مأزوم ويعاني من خلل هيكلي في بنيته وفي أهدافه وتصوراته، اتجهنا إلى نقده، وانسلخنا من فكر الإخوان وهاجمناهم بقوة، لنبحث عن بدائل، رست بنا في نهاية المطاف على النخب الجديدة في تونس، والتي منها تجارب الآخرين في الحركة اليسارية.
أدركنا حينها أن البعد الاجتماعي في جانبه المتعلق بنقد البنية الطبقية للعلاقات الاجتماعية، هو جزء من نقد الفكر؛ إذ كل حالة اجتماعية ولها تعبيراتها الفكرية. من هنا بدأنا التوغل بقراءة شتى المشارب، كتاريخ الحركة السلفية التي اعتبرناها أكثر خطورة من فكر الإخوان المسلمين.
الاسم في حد ذاته قد يستفز نوعا ما؛ لماذا "اليسار والإسلام"، وكيف يجتمعان؟
الحقيقة أننا لم نختر الاسم هكذا؛ هذه الصفة روجها بعض الإسلاميين لكي يتهموننا بأننا انحرفنا عن الإسلام، من أجل عزلنا واتهامنا بأننا التحقنا باليساريين. عندما أردنا أن نبحث عن اسم لنا سمينا أنفسنا بـ "الإسلاميون التقدميون". أولا لكي نحافظ على الصفة الإسلامية، ولكي نثوّر الساحة الإسلامية، ثم اسم "التقدميون"، لكي نخلق مسافة بين الاتجاهات والأفكار الإسلامية الأخرى، والتي اعتبرناها ماضوية.
ورغم ذلك لم نتبرأ من مصطلح اليسار، لأننا رأينا أن اليسار هو موقع فكري واجتماعي..
إضافة لذلك، عندما دخلنا إلى العمل وتوغلنا في التحرك وربطنا علاقات مع أطراف أخرى بما فيهم حسن حنفي، اتهمنا أصحاب الاسلام السياسي بصفة اليسار الاسلامي لكي يعزلونا عن الساحة والناس. لكن ورغم ذلك لم نتبرأ من مصطلح اليسار، لأننا رأينا أن اليسار هو موقع فكري واجتماعي، فأن تكون يساريا يجب أن تكون في تعارض مع اليمين في جانبه الفكري.
أسست بعد ذلك "منتدى الجاحظ"، ذائع الصيت، الذي ساهم في الحركة الفكرية والثقافية بتونس.. كيف أثر ذلك على الحركية الإسلامية ؟
منتدى الجاحظ، هو شكل تنظيمي يحمل ثلاث دلالات: أولها أننا قررنا أن نغادر الأشكال السرية والتنظيمية الحركية، فقررنا أن ننحاز للمجتمع المدني. الأمر الثاني هو أن المنتدى هو خيار ثقافي يغيب عن باقي الحركات الإسلامية؛ إذ رفضنا العمل السياسي واعتبرنا أن تورط الإسلاميين في العمل السياسي لن يفيدهم كثيرا ولن يفيد بلدانهم، لذا فالرهان الثقافي كان في رأينا يحتاج إلى كامل الأولوية، ويحتاج إلى كثير من التوقف، فبدون خطاب مستنير وواع، يصبح العمل السياسي متعثرا وقائما على المصالح الظرفية والحسابات الجزئية.
رفضنا العمل السياسي واعتبرنا أن تورط الإسلاميين في العمل السياسي لن يفيدهم كثيرا ولن يفيد بلدانهم، لذا فالرهان الثقافي كان في رأينا يحتاج إلى كامل الأولوية..
الأمر الثالث هو أن المنتدى جعلنا نخرج إلى العلنية، لا سيما وأننا لم نشرع في بناء تنظيم، بقدر ما هو عمل توعوي فكري يعطي أهمية للأفكار والآراء ضمن نطاق التعددية.
الإسلاميون التقدميون في بداية الأمر، ظنوا أنهم سيحدثون تنظيما، لكن انتهوا إلى أن فكرة التنظيم تقتل الفكر، ولذلك تخلينا عنها وركزنا على الفكر، عساه أن يساهم في التنوع والتعدد.
اسم الجاحظ "المعتزلي"، يحيل كذلك على ضرورة تنبي الفكر العقلاني في الفكر الديني !
هذا لأنه أحد توجهات "الإسلاميون التقدميون"، الذين لم يطرحوا القطيعة مع التراث، بل يعتبرونه أحد الأعمدة الأساسية لأي حركة تقدمية وجدّية ترغب في التأثير. لكن يظل السؤال المطروح هو كيف نفهم التراث ؟
التراث نفهمه من زاوية نقدية ونبحث عن الشخصيات والتجارب الأكثر استنارة. وهنا بالطبع، كان المعتزلة لنا هم المدرسة الأكثر عقلانية إلى جانب ابن رشد وآخرين عبر تاريخ الفكر الإسلامي. هكذا جاءت العلاقة القريبة بين أطروحات الإسلاميين التقدميين وبين المدرسة الاعتزالية.
هل في نظرك اليسار الإسلامي هو خير بديل عن الإسلام السياسي، وهو الحل لمجموعة من الأزمات التي يعيشها العالم الإسلامي؟
ربما أتجاوز مصطلح اليسار، لكن أقول بدلا عنه أن الإسلام لن يكون له مستقبل على المستوى الثقافي والفكري، إلا من خلال مراجعة العديد من المفاهيم التي ارتبطت به، ولا يتم ذلك إلا من خلال نقد الفكر الإسلامي ككل ووضعه في سياقه التاريخي. ومن بين المصطلحات التي اعتمد عليها "الإسلاميون التقدميون" في تكوينهم وأطروحاتهم، هي مسألة الوعي التاريخي؛ وهو أن تحدد موقعك في السياق الزمني.
وهذا يعني أنك امتداد لتراكمات تاريخية. وفي نفس الوقت، يجب أن تدرك أنك غادرت الزمان الماضي وأنك في صراع جديد مع الزمن الراهن، بمنطلقات مختلفة عما كان يطرح من قبل.
الإسلام لن يكون له مستقبل على المستوى الثقافي والفكري، إلا من خلال مراجعة العديد من المفاهيم التي ارتبطت به، ولا يتم ذلك إلا من خلال نقد الفكر الإسلامي ككل ووضعه في سياقه التاريخي.
ما يجري في العالم الإسلامي ككل، هو ناتج عن عدم تجاوز المرحلة السابقة التي استوفت أغراضها، ونتاج عدم توفر آليات فكرية تضعنا في سياق حداثي جديد ونوعي.
هل يمكن أن نصنّف اليسار الإسلامي ضمن خانة التنوير؟
أكيد، لأنه قائم على النقد والمراجعة. وتنويري لأنه مرتبط بحقوق الإنسان وبالنظرة الكونية الجديدة. ثم أيضا لأنه منفتح على المدارس التي تبني الإنسان المسلم والكوني. الإشكال الموجود هو وجود تيارات قوية ما تزال محافظة وتحاول التقليل من شأن التنوير، وتعتبر أن أي عملية تحديثية في الإسلام هي عملية متأثرة بالغرب، أو جزءا من مؤامرة لهدم الإسلام.
هذا الفكر التآمري والعقلية الدفاعية تحبط محاولات التنوير. مع أنه في النهاية، في رأيي، عندما أنظر إلى حركة التاريخ أجد بأن هناك فرصا جديدة أمام الفكر الإسلامي، تتوفر شيئا فشيئا.
نقطة أخرى وجب الإشارة إليها هو أننا في العالم العربي محصورين في دوامة سياسية واقتصادية وفكرية، ويجب أن نتجاوز الحدود. لكي ندرك أن هناك تجارب تقدمية وممتازة، حركت الفكر وربطت دولها ببعض التطورات؛ كما حصل في اندونيسيا وماليزيا.. أو حتى في إيران نفسها.
هل ترى أن ما مر بتونس في الفترة البورقيبية (والعلمانية كما وقع في تركيا مع كمال أتاتورك)، أنبثت قابلية لدى التونسيين، على اختلافهم، للتحرر ولتمهيد الطريق للتنوير.. بمعنى أن التجربة العلمانية أكسبت تونس قابلية للاختلاف والتنوع الديني؟
لا شك في ذلك.. بورقيبة يمكن أن توجه له انتقادات كثيرة من ناحية سياسية واقتصادية. لكن التغيير الذي قام به في تونس في ظل الدولة الوطنية، أعطى لتونس فرصة جديدة للفكر والمراجعة والحركية الاجتماعية، وبالتالي أضحت تونس تقدمية في اتجاه التنوير.
أضف إلى ذلك، أن الحركة الإسلامية، كالنهضة مثلا، لم تستطع أن تظل بعيدة عن التأثير البورقيبي، فجزء كبير من الأطروحات التقدمية استفادوا منها، وخير دليل أن الغنوشي قال في مؤتمرهم العاشر، إنهم بالفعل استفادوا من شعارات وأطروحات الإسلاميين التقدميين.
هذه الدينامية مرشحة للتطور والتطور، من أجل المراحل القادمة.
إذن يمكن إصباغ العلمانية على اليسار الاسلامي ؟
قصة العلمانية في الحقيقة فيها الكثير من المناورة والإيديولوجية. العلمانية هي إعادة بناء المجالين الديني والسياسي، بطريقة لا يسمح فيها للدين أن يسيطر على المجال العام.
وفي رأيي، العلمنة هي اختيار تاريخي، ففي كل المجتمعات نجد درجة من العلمنة تتسع، جعلت بعض الاسلاميين يتحدثون عن العلمانية الجزئية او العلمانية المؤمنة. وبالتالي أضحت العلمنة مرتبطة بفكرة التاريخ.
ما هو مرفوض، في نظري، هو تبني فكرة اللائكية، وهي النموذج الفرنسي الذي يطالب بالقطيعة التامة بين الديني والسياسي، وبين الدين كثقافة والحياة المجتمعية العامة. الفصل بين الدين والمجتمع ليس مرتبطا بالعلمانية، وذلك لأنها في الأصل علمانيات متعددة، كالتي نجدها في بريطانيا أو ألمانيا.
ما أدعو إليه شخصيا، هو أن نبحث عن علمانيتنا الخاصة، أي العلمنة التي تحترم حرية الإيمان وحرية الأفراد وتحترم الرصيد التاريخي للمجتمعات وفكرة المؤسسات، وليس بالضرورة أن ندخل في صراع بين الإنسان ومعتقداته وبين الإسلام كخلفية ونفصله عن المجتمع.