د. كمال القصير - مفكّر مغربي
هناك صناديق سوداء في التاريخ، لا يمكن معرفة ما في داخلها إلا بعد حدوث الانفجار أو التحطم. ومعنى ذلك أننا نتعامل مع النتائج النهائية، التي نشاهدها لاحقا، بشكل مفاجئ. لقد كانت الأحداث في أوروبا، في القرنين التاسع عشر والعشرين، تسير على خلاف ما يراه أو يتنبؤ به المراقب الأوربي.
فقد كان الأوربيون في خضم الحروب الفرنسية النابوليونية، ما بين أعوام 1792 _ 1815م، يتوقعون بناء على تلك الأحداث أن يكون القرن التاسع عشر كله داميا، لكنه كان الأقل دموية. في حين كان عام 1900م منذ بدايته هادئا، فتوقع الأوروبيون أن يكون القرن العشرون أقل دموية، بناء على حالة الهدوء وغياب المؤشرات الدالة على النزاع. فكانت المفاجأة أنه كان القرن الأكثر دموية في التاريخ؛ حيث شهد حربين عالميتين.
تدفّق التاريخ
نحن معشر المشتغلين بالتاريخ ووثائقه نسعى دائما إلى ربط الأسباب بالمسببات والمقدمات بالنتائج، فهو منهج مريح لتفسير تسلسل الأحداث وفق رؤية منطقية. غير أن العلاقات المنطقية في التاريخ ليست قانونا بالضرورة، فهناك انبعاثات تحدث في مراحل معينة يصعب توقعها، تحدث على عكس الخط الذي تسير عليه الأمور. إنها بخلاصة جزر في بحر التاريخ، تعيق تدفق مياهه بانسياب كما هي العادة.
أقول هذا الكلام للوصول إلى النتيجة التالية: وهي أن الواقع الحالي للمنطقة العربية والإسلامية وخط سيرها مهما بدا انحداريا، إلا أنه يعني قرب حدوث انبعاث مفاجئ، لا يحتاج إلى مقدمات أيديولوجية أو أفكار كبرى، أو تيارات إصلاحية. إن معنى الصحوة هو الاستيقاظ بعد النوم، وفي النوم يكون الإنسان مستسلما خارجا عن نطاق الخدمة، فلا يصدر عنه أفعال اختيارية أو إرادية. إننا إذا رجعنا إلى الطريقة التي حدثت بها الصحوة الإسلامية في القرن العشرين، سنجد أن منطق الأسباب التي كانت وراء حدوثها بالغة الضعف والهوان، ولا تزيد عن مبادرات فردية، لا تتناسب حسابيا مع الموجة الكبيرة التي حدثت لاحقا في المنطقة.
لقد كانت الصحوة التي هي في الحقيقة أكبر من ظاهرة الإسلام السياسي، انبعاثا فجائيا، عقب السقوط المدوي للعثمانيين وللإجماع السياسي والديني في العالم الإسلامي. فقد انبعثت الصحوة في وقت كانت فيه كل المؤشرات السلبية حاضرة، وغابت فيه المقدمات المنطقية التي تسمح لأي مراقب أو محلل في ذلك الوقت بتوقع صحوة مقبلة. وكان خط سير العرب والمسلمين يتدحرج نحو الانحدار.
إن التدفّق الهائل للتاريخ يحدث كلّما ظهر وعاء فارغ. وما نشاهده في الوقت الحالي من فراغ في المنطقة من ديناميات التغيير ورموزه، ليس هو الصورة الكاملة في الواقع. وتحت القشرة السوداء السميكة توجد حمم حمراء بركانية تثور في لحظة غير متوقعة، وفقا لحساباتها الخاصة. إن العلل الخفية في التاريخ تتحرك في لحظة معينة لتنتج لنا واقعا جديدا كان مستبعدا جدا. وفي غياب الدينامية التغييرية في المنطقة، فإن العلة التي يغفل الجميع عن مشاهدتها هي الإنسان نفسه، حين تقرر المجموعات البشرية في لحظة زمنية أنها ينبغي أن تتحرك. وإذا كان بالإمكان قياس المزاج العام للمجتمعات، فإن معرفة الأوقات التي يتخذ فيها الناس قراراتهم أمر بالغ الصعوبة. ومن ناحية أخرى، هنالك مجموعات صغيرة لا تفعل إلا انتظار مثل هذه القرارات، لتصعد وتعيد تنظيم نفسها من جديد. إن هنالك عللا يصعب قياس مخرجاتها مثل ملل وضجر الناس.
العلاقات الدولية
هناك عدة عناصر تنتمي لعالم العلل الخفية التي يصعب قياسها في العلاقات الدولية؛ مثل صدق الدول المجاورة، أو القدرة على قياس نوايا القوى العظمى. ففي الحرب العالمية الثانية تخلت ونسيت الدول الديمقراطية الليبرالية كراهيتها للشيوعية وتحالفت مع الاتحاد السوفييتي ضد ألمانيا النازية. إن علة الخوف الذي لا نستطيع حسابه هو ما يحدد مستويات التنافس الأمني. وهل كان أحد في العالم في القرن العشرين يتوقع انبعاثا مفاجئا للولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تدخل الحرب العالمية الثانية إلا متأخرة؟ لكنها كانت القوة التي سوف تعيد رسم خريطة العالم لاحقا.
إن حسابات علماء الاجتماع والسياسة وتوقعاتهم تصبح عبثية في لحظة يرون فيها كل شيء يتغير. فكم عدد الذين توقعوا حدوث الثورة الإيرانية بتلك الطريقة؟ ولا يهمنا هنا عدد من تكلموا عنها لاحقا في تفسير أسبابها ومقدماتها، فهم لم يتنبأوا بذلك قبل وقوع الثورة. وكم عدد من توقعوا حدوث هزات في المنطقة العربية عام 2011، بعيدا عن كل التحليلات اللاحقة التي حاولت أن تشرح ما وقع؟ إنها انبعاثات فجائية. إن خطورة الانبعاثات الفجائية هي أنها تحدث في وقت يرى الناس فيه الأمور على وجه جيد لا ينبئ بشر، أو يرون الأمور بشكل سيء لا ينبئ بخير.
في كل علاقتي بابن خلدون، كنت ألاحظ اهتمامه بالأسباب الظاهرة في تفسير أحداث التاريخ. غير أنني كنت أجد نفسي مضطرا لمخالفته في هذا الأمر، بسبب اهتمامي بالعلل الخفية للانحطاط أو الصعود. إن التاريخ يفاجئنا على الدوام بأنه ما من أحد يستطيع التنبؤ بمساراته، وذلك في تقديري راجع إلى العلل الخفية التي لا يمكن مشاهدتها إلا حين نرى النتيجة النهائية، فنشعر بالصدمة حينها، ونتساءل كيف وقع الأمر؟
العلل الكامنة بالغة التأثير في حدوث الانبعاثات التي يتفاجأ منها الناس. فهم يتعاملون مع النتيجة النهائية التي يشاهدونها. وقبل أن يخِرّ ملك النبيّ سليمان عليه السلام، فإنه كان قد مات أوّلا. ولم يعرف الجميع بذلك حتى دلّهم على موته سبب خفي، وهو دابّة الأرض التي أكلت منسأته، التي كان يستند عليها. لم ينته ملكه فقط، بل انقسم إلى مملكتين، إحداهما شمالية وأخرى جنوبية. وسقطتا بعد السّبي البابلي أو الآشوري، الذي كان عملية إفراغ للمملكتين من جزء كبير من الناس وتهجيرهم.
لقد تآكلت عصا سليمان من الداخل ببطء، وفق صيرورة زمنية متواصلة. وأفرغ السّوس خشبها حتى أصبحت هيكلا أجوفا، فسقط النّبي سليمان، الذي كان آخر صورة لتلك المملكة الكبيرة الموحّدة، وكانت منسأته قد أجّلت زمن السقوط. إن كثيرا من الدول والمجموعات تفقد مقومات استمرارها في الحياة في وقت مبكّر. لكن هياكلها الخارجية تبقى شاخصة، حتى يُخيّل للناظرين إليها أنها في عافية من أمرها، إلى أن تقتلعها القوى الجديدة. فهي [خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [الحج: 45]، والمراد أن تلك القرية خلت من أصحابها، مع سلامة بنائها وقيام سقوفها.
إن مملكة داود وسليمان عليهما السلام قبل أن تسقط كانت تعرف موجات اضطراب وثورات داخلية. وكان من أسباب انقسامها، تذمّر القبائل الشمالية من قيمة الضرائب المرتفعة. ولم يكن المُلك مستقرا بسبب قوة النزاعات القَبَلية. والأقرب في وصف تلك المملكة هو أنها كانت خليطا غير متجانس من القبائل. وكانت النزعة القبَلية في حالة كمونية، أثناء حكم داود وسليمان، ثم ظهرت بعد موت سليمان مباشرة. وأدّى ذلك إلى انقسام المملكة، ثم نشوب الصراع بين العبرانيين.
ولم يكن الناس والجنّ مدركين ما يحدث في الخفاء من علل السقوط. ذلك أن عملية التآكل تتطلب وقتا، ويصعب مشاهدتها، حتى يتفاجأ الناس في نهاية عملية النّخر وفراغ المحتوى، فيكون وقع الأمر شديدا عليهم بسبب اعتيادهم مشاهدة العلل الظاهرة. إن ما ذكره ابن خلدون من علل السقوط والصعود، كان هو النهايات في رأيي لا البدايات، كان هو المُعلَن لا المخفي.
انبعاث مفاجئ
خلافا للتوقعات، كان المماليك رغم سلبياتهم المعروفة تاريخيا، القوة المنبعثة التي استطاعت ملء الفراغ الهائل، الذي وجد المسلمون فيه أنفسهم، بعد سقوط الخلافة العباسية في جبهتين عظيمتين. وكل شيء كان يشير إلى أن سقوط الخلافة يعني سقوط الصورة العالمية للإسلام، التي كانت الخلافة تمثلها، بالإضافة إلى حالة التفسخ في الحدود السياسية للعالم الإسلامي، بما يتيح للقوى الجديدة الحركة ضمن مجال مفتوح لغزو الأراضي الإسلامية، وذلك بسبب ارتفاع إطار الخلافة السابق، الذي كان ينتظم فيه الاجتماع الإسلامي.
وقد أنتج الفراغ الذي خلّفه سقوط الخلافة العباسية، اتجاها نحو الانكفاءات المحلية في العالم الإسلامي. ولم تشمل النزعة المحلية النواحي السياسية فقط، بسبب تزايد رغبات القادة السياسيين والعسكريين، بل شملت حتى النواحي الدينية والروحية.
لقد مثّل المماليك لحظة انبعاث مفاجئة لمواجهة التحديات التي مرّ منها العالم الإسلامي المفكّك، بفعل استمرار المعاناة من بقايا الإمارات الصليبية، وصعود المغول من خلال جبهات مختلفة، بالإضافة إلى فاعلية مجموعات الحشاشين، الذين كانوا عنصر تدمير كبير في المنطقة، بسبب أجهزتهم التنظيمية القوية التي ضربت الدولة الإسلامية في مناطق عديدة. واستطاع المماليك الذين دافعوا عن العالم الإسلامي أكثر من قرنين، ملء الفراغ لحظة سقوط الدولة الأيوبية؛ حيث توفي السلطان الصالح نجم الدين أيوب أثناء اشتداد المعركة مع الصليبيين، في حملتهم السابعة على مصر، بقيادة الملك لويس التاسع عام 647هـ.
لقد كان الجيل الذي عاش زمن المماليك من ابن تيمية وابن خلدون وابن حجر انبثاقا مفاجئا في التاريخ، وغير متناسب مع الواقع السياسي والعلمي في تلك اللحظة، بكل تلك الدينامية التي أحدثها ذلك الجيل في العالم الإسلامي، وخلفها وراءه في الحركة والمعرفة العالمية.