د. كمال القصير - مفكّر مغربي
في الماضي، كان المثقف بكل أنواعه، أديبا أو فقيها، جزءا من الوعي الاجتماعي العام، وأكثر من ذلك، جزءا من يوميات الأفراد العاديين. يصادفونه في الأسواق والمساجد والأماكن العامة. يتعاملون معه سؤالا واستفسارا واستماعا، واستمتاعا في الحلقات والمجالس.
وأذكر أن بعض الفقهاء والمحدثين المغاربة، في القرن الماضي، كانت بعض ردودهم تتحول إلى حديث ونكت متداولة بين الناس. وفي إحدى المناسبات، سأل شاب أحد الفقهاء المالكية المغاربة الكبار، عن حكم من كان يصلي في الغابة، ففاجأه أسد، هل يكمل صلاته أم يقطعها؟ فرد الفقيه: إذا استطاع أن يحافظ على وضوئه، فليكمل صلاته.
في الماضي، كان يقال للشاعر على قصائده، أعطوه وزنه ذهبا تقديرا لعمله. ويبدو أن المثقف عموما، مع مرور الزمن، أصبح يخف وزنه، حتى صار مثل وزن الريشة، أو بلا وزن، في أكثر الأحيان.
إنني مثل الكثيرين، لم أجلس إلى فقيه أو أديب أو شاعر، منذ مدة طويلة، كما لم أشعر، منذ زمن، بمتعة الجلوس والتلقي، التي أحن إليها كثيرا، ويبدو أنني بهذا الأمر، أفقد بعض خصائص انتمائي العربي.
ولم أعد أصادف مثقفا، أثناء خروجي للسوق، أو الجلوس للاستراحة في الفضاء العام، لإعادة ترتيب أحداث يومي من جديد. وغاية ما أسمع من أخبار المثقفين مشكلاتهم مع وزارة الثقافة، التي يطالبونها أن تمنحهم قيمة أكبر، ربما هي لا ترى أن الكثيرين منهم يستحقونها.
حالة الإحباط
عندما يستيقظ المثقف العربي في الصباح، سوف يفكر في عدة أشياء. هل سأحظى بدقائق استضافة في إحدى القنوات؟
ويتساءل: "ما أخبار الجائزة الشعرية والنقدية، التي أعلن عنها؟ لا شك أن فلانا المقرب من رئيس اللجنة هو الأوفر حظا". إن مشكلة دور النشر سؤال يحيره دائما، لقد أصبحت العملية معقدة. "إن ما يعطونه للمؤلفين قليل جدا"، يتساءل في نفسه.
ويضيف إلى الأسئلة: "هل يمكن يوما أن أحظى بالقرب من السلطة؟ وما السبيل إلى ذلك؟ إن الأبواب كلها مغلقة". إن آخر هموم المثقف كما ترون هو الإبداع والناس، الذين باتوا يبادلونهم نفس المشاعر.
كان كثير من المثقفين العرب، في القرن الماضي، جلساء دائمون للرؤساء والملوك، الذين يجدون فيهم المتعة والحاجة العلمية إليهم. نعم، لقد اختفى المثقفون عن المجالس الخاصة للحاكم في المنطقة العربية، إلا في النادر القليل. بل إن المثقفين لم يعودوا يحظون بمجالسة بعض وزراء الثقافة العرب، في كثير من الأحيان، إلا بصعوبة بالغة.
ولا زلت متمسكا برأيي أن من أهم وظائف وزير الثقافة العربي، استكشاف المبدعين وأصحاب الملكات والدفع بهم. إن الوزير لا يتعامل مع النخبة فقط، بل يصنعها بنفسه، وهو شرف أعظم من شرف التأليف والكتابة نفسها. ولولا ما صنعه الوزير المثقف، نظام الملك، ما عرفنا أبا حامد الغزالي بالطريقة، التي عرفناه بها. وإذا شعر الوزير أنه يمارس السياسة أكثر من الثقافة، فقد اختل التوازن.
لم يعد السلطان في حاجة للمثقفين، ولم يعودوا هم يملكون الكثير لتقديمه، حتى يضمنوا استمرارهم في مربع السلطة. وإذا وضعت نفسي عوض الحاكم الحالي، فسوف أتساءل: ما الذي يقدمه لي شاعر مداح، في وقت لم يعد للشعر ذلك التأثير التاريخي القديم؟ ذلك أن قصيدة للمتنبي كانت بمثابة قناة إعلامية متنقلة، بالغة النفع والضرر معا. لكنك إذا أردت أيها المثقف أن يستعملك السلطان، فإليك الوصفة التالية، وهي أن تصبح مؤثرا في الناس، حينها سوف ينادونك من وراء حجاب.
سوف أتساءل أيضا: "ما الذي يقدمه الأديب وصاحب الروايات، الذي يسبح في خيالات لا تفيد، في حل معضلات الدولة ومشكلاتها المتفاقمة؟
وكنت، بالتأكيد، سأصل إلى نتيجة مفادها، فليبقوا أثاثا يزين المشهد العام، فلا حاجة للمدح وفنون الإطراء، أمام لغة الأرقام وحسابات الربح والخسارة. فليأخذوا إذن، بعض الجوائز، التي تشجع على استمرار الإبداع والفنون والآداب.
إنني أشجع منطق الجوائز، لكننا نمنح على الخيال، ما لا نمنح على الواقع. إن جوائز الفكر، التي يفترض أن تعالج قضايا الواقع والمستقبل أقل بكثير من جوائز الشعر والرواية. ويكاد هذا الخلل في التوازن أن يعصف بمستقبل الثقافة العربية.
وبالعودة إلى شعور السلطان تجاه المثقف، لا تظن أن هارون الرشيد كان يقدم مالكا حبا فيه فقط، بل لأن ما كان يقوله مالك سوف تقول به الناس. وعندما أتى المأمون بالمثقفين المعتزلة، ليفرض بهم على الناس أفكارا اعتنقها، لم ينجح في الأمر، ولم تقل الناس بقولهم. وقالت بقول أحمد بن حنبل، وحدثت محن وإحن عظيمة.
أين اختفوا؟
الكثير منا لم يعد يتردد على مجالس المثقفين والفقهاء، ليس رغبة في الابتعاد عنهم، بل لأنهم، ببساطة، فئة لم تعد تعيش بيننا. وسوف تجدونهم في أماكن معزولة أو في ندوات محدودة، يتحدثون لغة وخطابا لا يفهمه الناس، مثلما كانوا يفهمون من كان قبلهم، وقد كانوا أكثر منهم ثقافة وعمقا.
إن المادة الأدبية عموما والفقهية كانت نتاجا للتعامل اليومي مع الناس. وكنت ستخرج لقضاء حاجاتك اليومية، فتصادف مالكا في المدينة، وأبا حنيفة في الكوفة، وأحمد بن حنبل في بغداد، والجاحظ في البصرة.
وبمناسبة الحديث عن الجاحظ، فإن إحدى النساء قد صادفته في الطريق، فأخذت بيده وهو مستغرب، حتى أوصلته عند بائع الذهب، ثم قالت للصائغ أريد مثل هذا وانصرفت.
وعندما سأل الجاحظ صاحب المحل عن السبب، أخبره أن المرأة كانت تريد شكلا مصنوعا على هيئة شيطان، فلم تجد أمامها غير الجاحظ، الذي كانت عيناه بارزتان جاحظتان، فأحضرته.
إن أساس الفقه والثقافة هو الاختلاط بالناس وأحوالهم، وبذلك تتناسل القضايا والأجوبة. وأهم وأمتع ما يكتبه المثقفون هو ما يصف المجتمعات والناس وأحوالهم. وفي غالب الأحيان، سوف تظنون أن شخصا؛ مثل يحي بن معين، وهو واحد من أمراء علوم الحديث، سوف يكون في يومياته منعزلا في مجلسه لا يأتي الناس حتى يأتوه، أو رجلا قد ألقت قواعد الجرح والتعديل بظلالها الكثيفة على شخصيته، فحرمته ليونة الطبع والرغبة في الناس.
صادف يحي بن معين امرأة، اسمها حُبى المدنية، فسألها: أي الرجال أعجب إلى النساء؟ فقالت: الذي يشبه خده خدها. ولا أخفيكم أنني حتى هذه اللحظة لم أفهم جيدا معنى كلمات تلك المرأة، كما ذكرها المؤرخ الذهبي. وربما كانت الخدود، في ذلك الزمن، هي معيار الجمال، رغم أننا حاليا لا نقيم للخدود اعتبارا. لكنني سأقول من هي تلك المرأة، التي ضرب العرب بها المثال القائل: "ليس أشبق من حبي". كانت امرأة تعيش في المدنية، كثيرة الزواج. وتزوجت على كبر سنها فتى صغيرا، حتى اشتكاها ابنها إلى مروان بن الحكم، حين كان واليا على المدينة.
تلك المرأة إذن، هي التي سألها يحي بن معين، حين صادفها، وربما لا يستطيع أحد الفقهاء الحاليين فعل مثل ذلك. لكنني لا أظن أحدا يدرك قاعدة خوارم المروءة لدى علماء الحديث أكثر من الإمام يحي بن معين. وأذكر حتى اللحظة أن فقهاء مغاربة كثرا في القرن الماضي كانوا على مستوى عال من حس الدعابة، وكان الناس يحبونهم على ما جمعوا من مواصفات العلم وحسن المعشر.
في إحدى المناسبات، كنت أنظر في تطور مصطلح المجون، فصادفت أن الإمام ابن الجوزي كان يوصف بالمجون، فتوقفت لأرى الموضوع. فوجدت أن من كتبوا سيرته قد ذكروا أنه كان لديه مجونا كثيرة، ويقصدون بذلك، أنه كثير الدعابة في مجالسه. لا غرابة، وهو الفقيه المحدث الواعظ، صاحب كتاب أخبار الحمقى والمغفلين الممتع في قصصه. نعم لقد تحول مصطلح المجون إلى ضد معناه في ثقافتنا الحالية، وهو قانون يصيب المصطلحات مع الزمن.
مثقف تائه
يشبه المثقف العربي الحالي ذلك الحوذي، سائق عربة الخيل، في الأدب الروسي، وواحد من أبطال روايات أنطوان تشيخوف. وجه الشبه أن ذلك الحوذي كان قد مات ابنه بالمرض، وكانت المأساة الأكبر أنه لا يجد إلى من يتحدث، فقد أراد فقط إخبار الآخرين بحاله لا أكثر. كان الحوذي يسوق العربة ويحمل شبانا إلى وجهتهم، في مدينة سان بطرسبورغ، فقرر الالتفات إليهم من شدة معاناته، فقط ليقول لهم: "لقد مات ولدي"، أملا في أن يسأله أحدهم عن سبب موته، أو يواسيه بكلمات تشعره بإنسانيته.
لم يمنحه أي من أولئك الشبان حتى فرصة الكلام، وبمجرد أن نطق بكلمة، ثار في وجهه أحدهم، قائلا: "ألا ترى أننا متأخرون وليس لدينا وقت للكلام؟". لقد شعر حينها الحوذي أن لا وجود له، في عالم يتحدث لغة مختلفة تماما عما يعرفه.