في هذه الحلقة من سلسلة محامي وقضية، نتوقف مع المحامي الطيب لزرق ليحدثنا عن جزء من مساره، والقضية التي ظلت راسخة بذاكرته.
ولدت سنة 1949 بمدينة فاس، وقد كان والدي واحدا من مناضلي حزب الاستقلال المتشبعين بقيم الوطنية، مما سينعكس على تربيتي ومساري الدراسي.
في سن الرابعة من عمري بعثني والدي للدراسة في "المسيد"، إلا أن الأجواء داخله لم ترقني بسبب سوء تعامل "الفقيه" مع الأطفال، مما جعلني أرفض رفضا مطلقا العودة إليه.
وأمام رفضي العودة إلى "المسيد"، تكلف أخي الأكبر بتعليمي الحروف العربية والفرنسية ، حيث أتقنت قراءة وكتابة الكلمات قبل ولوج المدرسة، لذلك وجدت نفسي متفوقا على باقي زملائي في السنة الأولى ابتدائي من دراستي بمدرسة "البليدة" بفاس.
في بداية السنة الثانية ابتدائي من دراستي، حدث أن تأخرت مرة عن موعد الدخول المدرسي، فقرر الوالد أن يصحبني من أجل شرح أسباب تأخري.
وفي الوقت الذي كان والدي يرغب في شرح أسباب تأخري عن موعد الدخول فوجئ بالمعلم يخبره أن بقائي في القسم الثاني ابتدائي مضيعة للوقت، مقترحا عليه نقلي إلى القسم الثالث ابتدائي مباشرة، نظرا لتميزي، وهو ما تم بعد موافقة الإدارة.
بعد حصولي على الشهادة الابتدائية قرر والدي أن أتمم دراستي في ثانوية معربة، فقد كان من دعاة الانتصار للعربية بحكم انتمائه لحزب الاستقلال.
وبناء على ذلك، تابعت دراستي الثانوية بثانوية ظهر المهراز، وقد كنت أ نجح بتفوق في جميع المواد إلى أن حصلت على شهادة البكالوريا.
كانت المحاماة حلما يراودني منذ الصغر، رغم أنني لا أعرف سبب ذلك.
كانت العقبة الأولى التي واجهتها في مساري بعد حصولي على شهادة البكالوريا تتمثل في عدم وجود كلية الحقوق بفاس، مما اضطرني إلى الانتقال لجامعة محمد الخامس بالرباط لدراسة القانون، إلا أن عدم حصولي على المنحة الدراسية، التي كانت تتحكم فيها المحسوبية خلط أوراقي وجعلني ألتحق بكلية الآداب لدراسة التاريخ والجغرافيا، إضافة إلى التسجيل في المدرسة العليا للأساتذة بمقتضى عقد مع الدولة يقتضي بتعييني أستاذا للتعليم الثانوي بعد الحصول على الإجازة، أي أننا كنا نجمع بين الدراسة في كلية الآداب والمدرسة العليا للأساتذة مقابل منحة قدرها 500 درهم شهريا.
كانت الدراسة بكلية الآداب فرصة للتكوين علي يد أساتذة كبار أمثال الفيلسوف عبد الله العروي، الذي درسني سنتين متتاليتين، والأستاذ جرمان عياش ، والأستاذ إبراهيم بوطالب، والأستاذ محمد قبلي.
وقد ساهمت الدراسة على يد هؤلاء الأساتذة الكبار في تمكيني من تكوين ثقافة معرفية متينة، كما أثرت على مساري الفكري والعلمي.
بعد حصولي على الإجازة سنة 1972 عينت أستاذا لمادة الاجتماعيات في ثانوية النهضة بسلا، التي كان مديرها هو المجاهد الكبير أبو بكر القادري، وقد كان العقد ينص على ضرورة قضائي 8 سنوات من العمل دون أن يكون لي حق تقديم استقالتي.
عملت أستاذا في ثانوية النهضة لمدة أربع سنوات، والتي كان يديرها المقاوم أبو بكر القادري يقدرني تقديرا خاصا، حيث توسط لي لدى الأستاذ عبد الكريم غلاب من أجل الكتابة في جريدة العلم، وهو ما استجاب له، مما منحني فرصة لتعلم أصول الصحافة مع الأستاذ عبد الجبار السحيمي والعربي المساري . كما كنت أساهم في إعداد الصفحة الثقافية، وتقديم قراءة في الصحف والمجلات الدولية كل سبت.
في سنة 1976 قرر الأستاذ بوبكر القادري تكليفي بتدريس تلاميذ البكالوريا فقط، وهو ما كان يعني أنني سأدرس 12 ساعة فقط بدل 18 ساعة، حيث قال لي:"أريدك أن تتفرغ للبكالوريا فقط من أجل أن يحقق التلاميذ نتائج ايجابية ونرفع من نسبة الناجحين".
وبينما كنت أستعد لتدريسي تلاميذ ثانويتي توصلت ببرقية من وزارة التربية الوطنية تطلب مني الالتحاق عاجلا بثانوية "دار السلام" بالرباط التي فتحت أبوابها في تلك السنة، وقد كانت ثانوية نموذجية تضم أبناء عدد من المسؤولين الكبار والموظفين الساميين، كما أن مديرها لم يكن سوى الأستاذ عزيز الحسين مدير المدرسة المولوية، ووزير الوظيفة العمومية سابقا، وقد كان رجلا كفئا يتمتع بخصال حميدة، ولا يتوانى في مساعدتنا.
بعد التحاقي بثانوية دار السلام، شدني الحنين مرة أخرى إلى المحاماة، فقررت التسجيل بكلية الحقوق بالرباط إلى أن حصلت على الإجازة، وقد تزامن ذلك مع اكمالي لمدة 8 سنوات في التدريس مما يمنحني حق تقديم الاستقالة.
قدمت استقالتي سنة 1980، لكنها لم تقبل إلا بمشقة الأنفس، وبمساعدة من الأستاذ عزيز الحسين، إذ رفض مسؤولو وزارة التربية الوطنية قبولها في البداية، معللين ذلك بقلة الأساتذة، وعدم امكانية التخلي عن تجربتي التي راكمتها داخل ثانوية "دار السلام".
بعد قبولي استقالتي اجتزت تمرين المحاماة بمكتب مشهور، كان ذلك المكتب يعود لوالد الوزير السابق منصف بلخياط، وقد جمعتني به علاقة وطيدة، وتعلمت منه الكثير.
بعد قضائي لـ38 سنة في المحاماة مازلت أتذكر عددا من القضايا المثيرة والنوعية التي رافعت فيها.
ومن هذه القضايا التي لم تفارق ذاكرتي، أنني في بداية مساري، أسند إلي نقيب الهيئة ملفا جنائيا في إطار المساعدة القضائية.
حينما أدليت بقراري النقيب من أجل الاطلاع على الملف وجدت نفسي في مواجهة ملف خطير يتابع فيه أب وابنه من أجل جناية القتل العمد عن طريق الذبح، ولم يكن القتيل سوى ابن الأب من زوجة ثانية، وقد سبق الحكم على المتهمين بالمؤبد.
بعد حصولي على الملف من كتابة الضبط اطلعت على صور توثق للذبح، وقد كانت جثة ذلك الطفل مفصولة عن رأسه وسط بركة من الدماء، مما جعلني أصاب بانهيار وأفقد الوعي للحظات.
بعد الاطلاع على الملف لاحظت أنه سبق نقضه جزئيا في حق الأب فقط.
واستند المجلس الأعلى في نقضه إلى عدم كفاية تعليل هيأة الحكم.
قررت أن أدرس الملف، الذي يتكون من حوالي 400 صفحة دراسة معمقة، حتى أكتشف السبب الذي جعل المجلس الأعلى ينقض الحكم.
بعد دراسة الملف كلمة كلمة وسطرا سطرا عثرت على جملة في محضر الضابطة القضائية مفادها أن الأب لم يضع يده على القتيل إلا وهو جثة، وبقي يذرف الدموع فقلت للهيأة "إن القتل تحقق قبل مجيئ الأب، الذي لم يضع يده إلا من باب الشفقة والحزن على ابنه".
ألقيت مرافعة طويلة، بينت فيها أن الأب بريء بنص محضر الضابطة القضائية، ومما أثر في أن ذلك الأب كان له سبعة أبناء آخرين أكبرهم لا يتجاوز السادسة عشر من عمره، يعيشون معه تحت عتبة الفقر.
كنت أفكر في وضع هؤلاء الأبناء بعد رمي معيلهم الوحيد في السجن، إلا أن الحكم نزل بردا وسلاما، بعدما نطق القاضي ببراءته، فتنفست الصعداء.