في هذه الحلقة من سلسلة محامي وقضية، نتوقف مع المحامي بهيئة الدار البيضاء محمد المسعودي ليطلعنا عن جزء من مساره، وعن القضية التي ظلت راسخة بذاكرته.
ولدت سنة 1969 بمدينة زاكورة، ولم يمض سوى شهرين على ولادتي حتى انتقل والدي إلى مدينة الدار البيضاء، التي عشت فيها السنوات الأولى من طفولتي، قبل أن نغادرها إلى مدينة مراكش ثم العودة مرة أخرى إلى زاكورة.
هذه التنقلات من مدينة لأخرى سببها طبيعة عمل الوالد الذي كان مياوما، وهو ما كان يضطره للتنقل بحثا عن العمل.
كان الوالد شبه أمي، لكن ذلك لم يمنعه من الانخراط في العمل النقابي منذ الستينات، مما جعلني أكتشف من خلاله أخبار العمال والنقابات رغم صغري سني.
في مسقط رأسي بزاكورة, درست المرحلة الإبتدائية والإعدادية، إضافة إلى السنة الأولى ثانوي. خلال هذه المرحلة كنت متميزا بالمشاركة في الأنشطة المدرسية سواء الأنشطة الثقافية أو الألعاب المدرسية، إذ كنت أحتل مراتب متقدمة على مستوى رياضة العدو. وأتذكر هنا أنني تفوقت على البطل العالمي الحالي لحسن أحنصال في أكثر من مسابقة.
بعد نجاحي في السنة الأولى ثانوي، قررت التسجيل في شعبة الرياضة، مما اضطرني إلى مغادرة زاكورة نحو ورزازات لإتمام دراستي، وقد كنت معجبا بالفلسفة والأدب، إذ أنني قرأت أغلب كتب المكتبة التي كانت متواجدة في الثانوية.
كان لبعض الأساتذة المنتمين لليسار دور كبير في توجيهي نحو قراءة الروايات والكتب في مختلف المجالات، هؤلاء الأساتذة كان همهم أن يساهموا في تخريج جيل واع من الشباب، وقد استفدنا من توجيهاتهم كثيرا في رسم مسارنا.
لم تكن المحاماة على رأس اهتماماتي، لكن حادثا وقع لي في المحكمة سيجعلني أقرر أن أبدل كل ما في وسعي كي أصبح محاميا.
كنت ذات يوم مرافقا لوالدي في المحكمة بسبب نزاع حول عقار، وبينما كنت أهم بمغادرة قاعة الجلسات اعترض سبيلي عنصر أمني وضربني ظنا منه أنني متهم يريد مغادرة المحكمة، وهو ما أثار غضب عدد من المحامين الذين تعاطفوا معي أنداك وحالوا دون مواصلة رجل الأمن اعتدائه علي.
هذا الحادث جعلني أعجب بكمية وقدر الاحترام الذي يحظى به المحامي، لذلك لم أتردد للحظة في متابعة دراستي بكلية الحقوق بمراكش ابتداء من سنة 1992، حيث التحقت بفصيل الطلبة القاعديين، الذي انتميت إليه لسنوات.
سنة 1998 حصلت على شهادة الإجازة، وقد تزامن ذلك مع اقتراب موعد إجراء امتحان ولوج مهنة المحاماة، إلا أن المشكلة التي كنت أواجهها أنني لا أملك المال لاقتناء الكتب والمراجع من أجل الاعداد للامتحان، فما كان إلا أن قصدت محاميا ينتمي للجمعية المغربية لحقوق الانسان، وقد كان معروفا بدفاعه المستميث عن الطلبة. طلبت منه قضاء فترة تدريب بمكتبه من أجل الاعداد للامتحان، فكان أن فتح لي باب مكتبه، وتمكنت من الإعداد بشكل جيد.
بعد اجتياز الامتحان الكتابي لولوج مهنة المحاماة أعلنت وزارة التربية الوطنية عن حاجتها لتوظيف أساتذة عرضيين، وأمام الحاح عدد من أصدقائي وضعت طلبا من أجل الالتحاق بالتعليم، وقد تم قبولي بدأت ترتيبات الانتقال إلى منطقة نائية تبعد عن زاكورة بحوالي 80 كلم، قبل أن يتم الاعلان عن نتائج امتحان المحاماة.
ورغم الإعلان عن نتائج الامتحان الكتابي للمحاماة إلا أنني لم أكن على علم بذلك بحكم تواجدي بمدينة زاكورة، إذ لم أعرف ذلك إلا بعد أسبوع وعن طريق الصدفة.
اطلعت على لائحة أسماء الناجحين، التي تم نشرها بمحكمة الاستئناف بمراكش، من غريب الصدف أنني وجدت ثلاث أشخاص ضمن اللائحة يحملون نفس اسمي الشخصي والعائلي، مما يتعين معه اللجوء إلى رقم الامتحان الذي كنت قد تركته بزاكورة.
أمام هذا الوضع، بدأت أفكر في العدول عن اجتياز الامتحان لعدم إعدادي له، وعدم توفري على مصاريف التنقل إلى الرباط، وكذا عدم التأكد من نجاحي، إلا أن أحد أصدقائي بمراكش سلمني ألف درهم، وألح علي بضرورة اجتياز الامتحان، وقد كان ذلك صباح يوم الامتحان.
انتقلت على وجه السرعة من مراكش إلى الرباط، وفور وصولي تم الاعلان عن تمديد فترة الامتحان الشفوي يوما آخر، مما مكنني من اجتيازه بسهولة.
وهكذا انقلب مساري من مدرس في إحدى القرى النائية بنواحي زاكورة إلى محامي بمدينة الدار البيضاء.
طيلة مساري، رافعت في العديد من القضايا من بينها قضايا الطلبة القاعديين ومحاكمة الصحافيين، كما أن المحاكمة التي ظلت راسخة في دهني هي محاكمة اكديم ايزيك أمام المحكمة العسكرية.
هذه المحاكمة كانت استثنائية في كل شيء، في طبيعة المتهمين، وطبيعة المحاكمة، وطبيعة الملف، الذي حظي بمتابعة إعلامية كبيرة.
كانت الضغوط النفسية ترافقنا خلال فترات المحاكمة الماراتونية، إذ أن البعض كان يعتبرنا مساندين للانفصال، وضد الوطن، فيما كنا ندافع عن القانون أولا، إذ أن المحامي وظيفته أن يدافع عن القانون وعن موكله حتى لو كان مذنبا، فهذا لا يعني سلبه حقه في أن تتوفر له جميع ضمانات المحاكمة العادلة.
بعد هذه الفترة التي قضيتها في ممارسة مهنة المحاماة، يمكنني القول إن المحاماة هي بيتي الثاني، الذي منحني كل شيء، منحتني المحاماة مكانة اعتبارية، ومكنتني من الدفاع عن حقوق الانسان ومن التعبير عن قناعاتي، لذلك لا عجب أن اعتبرتها بمثابة وطني الثاني.