في هذه السلسلة الرمضانية، يعطي"تيل كيل عربي" الكلمة للمحامين، ليتحدثوا عن المرافعة التي طبعت مسارهم، وظلت بذاكرتهم مع مرور السنين.
في هذه الحلقة، سيحدثنا النقيب عبد الرحمان بنعمرو عن جزء من مساره، وعن القضية التي لم تفارق ذاكرته.
بدأ مساري، بعد حصولي على شهادة "البروفي" من مدرسة حرة كانت تمول من رجالات الحركة الوطنية، ولم يكن معترفا بها من طرف سلطات الحماية الفرنسية، بل إن فرنسا كانت تشن حربا بلا هوادة على هذه المدارس، وعلى اللغة العربية.
كانت الخيارات المفتوحة أمامي محدودة جدا، بعد حصولي على شهادة غير معترف بها من قبل سلطات الحماية، فإما أن أصبح مدرسا، أو موظفا صغيرا في إحدى الإدارات التي تعتمد اللغة العربية، أو أغادر المغرب من أجل إكمالي دراستي في إحدى دول المشرق العربي.
بعد تشاور مع والدي، قررت التوجه إلى المشرق العربي من أجل اتمام دراستي، لكنني لم أكن أعرف إلى أين سأذهب، هل أذهب إلى مصر، أم سوريا، أم العراق؟
كان الخروج من المغرب يمثل تحديا بالنسبة لي، فالفرنسيون لم يكونوا يسمحون للمغاربة بالحصول على جواز السفر، خاصة إذا علموا أنهم يرغبون في إتمام دراستهم بمصر أو سوريا.
بعد تفكير، اهتديت إلى حيلة لمغادرة المغرب، فقد حصلت على جواز سفر من أجل رحلة علاج، لكن الحقيقة أنني كنت أريد التوجه إلى مصر لمتابعة دراستي.
مكثت حوالي شهرين في باريس، قبل أن أتوجه رفقة عدد من الطلبة إلى السفارة المصرية من أجل تقديم طلب إتمام الدراسة بالقاهرة، لكن مسؤولي السفارة طلبوا منا التريث بعض الشيء، خاصة أن مصر كانت حديثة عهد بثورة الضباط الأحرار، فما كان منا إلا أن توجهنا إلى لسفارة السورية.
كان استقبال السوريين لنا مختلفا، حيث رحبوا بنا، ومنحونا تأشيرة دخول إلى سوريا من أجل متابعة الدراسة، وهو ما مكنني من الحصول على شهادة البكالوريا، ثم جاءت مرحلة التوجه إلى مصر من أجل الحصول على الإجازة في القانون.
في سنة 1960 عدت إلى المغرب، وقد كان كل همي أن أصبح محاميا، وكان ذلك يتطلب قضاء ثلاث سنوات من التدريب، منها سنة ونصف في إحدى المحاكم، وأخرى تحت إشراف محام.
تمكنت من قضاء سنة ونصف من التدريب في المحكمة بالرباط، وقد كان القضاء آنداك مقسما بين قضاء يتعلق بالأحوال الشخصية التي تهم المسلمين، وآخر يتعلق بالمحاكم العبرية التي تهم اليهود، فيما القضاء العصري كان يبث في القضايا التي تهم الفرنسيين، وكذا المتعلقة بالنزاعات بين المغاربة والفرنسيين، أو القضايا الكبرى كقضايا الشركات والبنوك، وإن كان أطرافها مغاربة.
كان القضاة فرنسيون، وهو حال أغلب المحامين، الذين كان أغلبهم فرنسيون، وقلة قليلة من المغاربة اليهود، مما جعلني أجد صعوبة في ايجاد محامي يقبل الإشراف على تمريني، ولو مجانا.
بعد جهد جهيد، قبل أحد المحامين المغاربة اليهود الإشراف على تدريبي، لكنه سرعان ما طردني، بعدما اكتشفت نصبه على موكليه، فأصبحت مشردا.
ولحسن حظي، أنني اكتشفت مادة في القانون المنظم لمهنة المحاماة يسمح لي بفتح مكتب إذا أتممت سنة من التدريب تحت إشراف محام، على أن يظل المكتب تحت مراقبة المحامي، فاتخذت قرارا بفتح مكتب بالرباط، وراسلت نقابة المحامين بهذا الخصوص، لكنهم رفضوا ذلك، وعرضوني على المجلس التأديبي، حيث تم توقيفي لمدة شهر، لكنني استأنفت القرار، وقد صدر حكم لصالحي ينص على أنه "من حق المحامي المتدرب الذي قضى سنة من التدريب فتح مكتب، على أن يظل تحت مراقبة المحامي الذي يشرف عليه، دون اشتراط تواجدهما في نفس البناية".
لقد كان هذا النص بداية تحول بالنسبة لي، إذ فتحت مكتبا وعلقت لافتة في بابه كتب عليها "عبد الرحمان بنعمرو محامي. م"، أي محامي متدرب.
بدأت أستقبل بعض القضايا، وكان العائق أمامي أن المحكمة العصرية كانت مفرنسة، وكان القضاة فرنسيون ، وكانت ممثل النيابة العامة فرنسي، وكانت المرافعات بالفرنسية، لكنني قررت أن أتحدى كل ذلك، وكتبت مذكرة قانونية باللغة العربية، وحينما حان وقت المرافعة، بدأت أرافع بالعربية، فما كان من رئيس الجلسة إلا أن استعان بمترجم، وقد اقتنع بمرافعتي وحكم لصالحي موكلتي.
كان ذلك، نصرا بالنسبة لي، وكان مفاجأة غير مسبوقة في المحكمة العصرية، التي كانت حكرا على الفرنسيين، قبل أن يتم تعريب القضاء.