في الحلقة الثانية من سلسلة "محام وقضية"، سنتوقف مع الأستاذ خليل الإدريسي، المحامي بهيأة الرباط ليحدثنا عن جزء من مساره، وعن القضية التي لازالت عالقة في ذهنه.
بعد حصولي على الإجازة بجامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1990، قررت متابعة دراستي من أجل نيل دبلوم الدراسات المعمقة، لكنني سرعان ما غيرت المسار باجتياز مباراة ولوج مهنة المحاماة.
كان ذلك، سنة 1992، حيث بدأ مساري كمحامي متدرب، وقد نلت شرف الحصول على لقب كاتب ندوة التمرين، التي كان يحضرها الوزراء والقضاة ومن لهم علاقة بمجال العدالة.
كان ذلك، الحدث محفزا لي على الاستمرار، والتعمق أكثر في القانون، خاصة ما يتعلق بالقانون الجنائي والمسطرة الجنائية، الذي يوصف بأنه قانون الأبرياء، نظرا لما يتضمنه من مقتضيات تحفظ حقوق المشتبه فيهم، والتي لو احترمت من طرف الضابطة القضائية لتحقق جزء كبير من شروط المحاكمة العادلة.
في سنة 1995، بدأت مساري كمحامي رسمي، وقد رافعت في العديد من القضايا المختلفة، خاصة الجنائية منها، لكن إحدى هذه القضايا لم تفارق ذاكرتي.
كان ذلك في أواخر التسعينات، إذ بلغني أن أحد الأساتذة، الذي يقطن في حي شعبي بالرباط قد تم الاعتداء عليه بسيف من قبل شاب يقطن في نفس الحي، مما تسبب في إزالة عينه.
حينما زرت الأستاذ في المستشفى، وجدت كما هائلا من التلاميذ يبكون، وقد تزاحموا داخل الغرفة التي كان يرقد فيها.
كان الحزن يخيم على المكان، وكان منظر الأستاذ، الذي كانت لي به سابق معرفة وقد أزيلت عينه لا يطاق.
علمت أنداك أن الجاني كان قد تشاجر مع شقيق الأستاذ، قبل أن يحمل سيفا ويأتي للبحث عنه من أجل الثأر، لكن المفاجأة كانت أن الذي فتح باب المنزل، بعد طرقه بعنف هو الأستاذ، الذي أدى صلاة العشاء للتو، وعاد لمنزله، دون أن يعلم بشجار أخيه مع ابن الجيران.
وهكذا لم يتردد الجاني في تسديد ضربة له بسيفه على مستوى الوجه والعين، بعد ذلك قام إخوة الأستاذ بمطاردته، قبل الاشتباك مع عائلته، مما حول الحي إلى حلبة للصراع بين العائلتين، لكن دون أن يؤدي ذلك إلى الإصابة بجروح بليغة في صفوف الطرفين.
قامت كل عائلة من العائلتين بوضع شكاية لدى وكيل الملك تتهم فيها العائلة الأخرى بالاعتداء عليها، مما عقد فصول القضية.
بعد أسبوع من البحث، ألقت الشرطة القبض على الجاني الرئيسي، الذي كان معتدا بنفسه، حيث قام بتوعد كل من يدلي بشهادة ضده بالانتقام، مما جعل ساكنة الحي تحجم عن الشهادة لصالح الأستاذ.
كان وضع الأستاذ معقدا، فقد فقئت عينه، ولا يملك أدلة تثبت تورط الجاني، وهو ما أخبره به قاضي التحقيق صراحة.
في حديث لي معه، أخبرني الأستاذ أنه لا أحد من الجيران يقدر على الإدلاء بشهادته ضد الجاني، بعد تهديده لهم.
كان يحس بالظلم و"الحكرة"، فنصحته بعدم فقدان الأمل، وأن عدالة السماء ستقول كلمتها إن عجزت عدالة الأرض عن الاتيان بحقه.
بعد استماع قاضي التحقيق لأطراف القضية، قرر إجراء مواجهة بينهم.
خلال المواجهة تشبث الجاني بالانكار، وكان يردد أمام القاضي بعجرفة "يقلب على شكون ضربو".
قبل نهاية المواجهة تساءل القاضي، لا بد أن أحدا منكم قام بالاعتداء على هذا الشخص، لا يمكن أن يضيع حقه سدا.
أنداك، تدخلت أخت الضحية قائلة: "أقسم بالله العظيم، سيدي القاضي، أنني رأيت المتهم وهو يضربه بسيفه، وقد رأيت كل ذلك من نافذة المنزل"،لكن قاضي التحقيق أمر بتدوين العبارة التالية:
"وفي نهاية المواجهة تدخلت أخت المتهم، وأقسمت بالله أنها رأته يعتدي على الضحية بسيف".
لم أستوعب الأمر في البداية، حيث اكتفيت بتوقيع المحضر، كما وقعه المتهم رفقة ثلاثة من محاميه، لكنهم لم ينتبهوا.
خلال المحاكمة، ض
اخترت أن لا أطيل في المرافعة، واكتفيت بإحالة رئيس الجلسة على الفقرة الأخيرة من محضر المواجهة، مؤكدا له أنه سيجد الدليل الكافي الذي لا يمكن دحضه على تورط الماثل أمامه في جريمة الاعتداء على موكلي.
وبالفعل، فقد صدر حكم بإدانة المتهم بخمس سنوات سجنا نافذا، وأداء تعويض للضحية قيمته 50 ألف درهم.
وبقدر ما أثلج صدري الحكم على الجاني بخمس سنوات سجنا، فإن قيمة التعويض أغضبتني، خاصة أن المتهم لم يكن قادرا على أداء أي تعويض، ولم يرغب في الأداء أصلا.
ومنذ ذلك، وأنا أتساءل كلما تذكرت القضية، "هل تساوي عين مواطن 50 ألف درهم فقط"؟، هذا ما لم أكن أتمنى أن يسجل في تاريخ العدالة المغربية.