هنا المحطة الطرقية "أولاد الزيان" بالدار البيضاء، مباشرة بعد قرار وزارتي الداخلية والصحة المشترك، القاضي بمنع النقل من وإلى 8 مدن مغربية من بينها العاصمة الاقتصادية. قبل الخوض في تفاصيل ما وقع، حيث قضى "تيلكيل عربي" أربع ساعات إلى ما بعد منتصف ليلة الأحد 26 يوليوز، ودون تهويل، إن كان احتمال إصابة 1 في المائة، من الذين فروا نحو المحطة، بفيروس "كورونا" المستجد، فستقع كارثة ستتجاوز حدود المدينة.
لا كلمة تعلو هنا فوق كلمة "الكورتية" (بائعي تذاكر السفر)، يتحكمون في حركة الجميع، حشود تهرول في كل اتجاه، تتبعهم. محظوظون أولئك الذين حجزوا مقعداً لهم قبل صدور بلاغ منع السفر، ومن لجأ إلى "أولاد زيان" بعده، يرفع أكف الضراعة للسماء لعلها تجود بما يرحم ساعات انتظاره، ورغبة قضاء عيده في مسقط رأسه أو بين أفراد عائلته. الشوارع في محيط المحطة الطرقية مزدحمة تكاد تلفظ ما اختنق وسط أزقتها، وسيارات الأمن ترابط في كل ركن تترصد المخالفين للقانون مع بعض التساهل تجاه تطبيق اجراءات السلامة الصحية، ضجيج، بكاء، أطفال صغار يمسكون بجلابيب أمهاتهم وأبائهم، حتى أكباش الأضحية حلت بالمحطة بحثاً عن وسيلة تقلها نحو وجهتها.
"هي فوضى"
الساعة تشير إلى العاشرة من مساء يوم الأحد، ثلاث ساعات بعد صدور البلاغ المشترك لوزارتي الداخلية والصحة، يمنع التنقل من وإلى مدن الدار البيضاء، فاس، مكناس، مراكش، طنجة، تطوان، برشيد وسطات. قرار أربك الجميع، وجاءت نتائجه عكسية لما وضع له من هدف، وهو الحد من الحركة بين المدن خاصة التي تعرف ارتفاعاً في أعداد الإصابات بفيروس "كورونا" المستجد.
ما يوصف بـ"لطوروت" التي تخترق قلب مدينة الدار البيضاء مزدحمة، حواجز أمنية وضعت في عدد من مداخلها لمنع السيارات من الولوج إليها، حوادث السير تفاقم الوضع، وكل سيارة وشاحنة في هذا الوقت المتأخر من الليل تكاد تعانق التي أمامها وخلفها. لم يكن الوصول إلى المحطة الطرقية "أولاد زيان" يسيراً، والمسافة التي قطعها "تيلكيل عربي" تحتاج في وقت الذروة بالمدينة على الأكثر نصف ساعة، لكن وبسبب الجلبة الظاهرة، تطلب الوصول إلى الوجهة ساعة ونصف.
في محيط المحطة تجمعات بشرية بالآلاف، والصراخ يعلو من كل ركن إما بحثاً عن تذكرة سفر أو رغبة في بيعها. كل الأبواب التي تؤدي إلى داخل المحطة مستباحة، لا مراقبة، لا تدقيق في هوية من يلج إليها، سقطت كل إجراءات السلامة تحت الأقدام بسبب الهلع الظاهر على ملامح الراغبين في الفرار من المدينة قبل منتصف الليل، أو على الأقل صعود حافلة تؤمن لهم انطلاقة رحلة الفرار.
كل الشبابيك الخاصة بشراء تذاكر السفر خالية، باستثناء الشباك الخاص بالتنقل نحو مدن الشمال، هنا لايزال إشهار ورقة الترخيص الاستثنائي للسفر شرطاً من أجل اقتناء التذكرة، باق الوجهات، الأمر متروك لـ"الكورتية" والمضاربين في الأسعار، ومرة أخرى سقطت كل القوانين التي تنظم بيع التذاكر وتحديد سعرهاً، ولك أن تتخيل، تحالف عطلة العيد مع ظروف تفشي جائحة فيروس "كورونا" وبلاغ منع السفر أيضاً، تحالف ضاعف معاناة الفارين من الدار البيضاء خاصة الأسر منهم.
"بؤرة سفر"
ما هو الهدف من بلاغ الداخلية والصحة المشترك بخصوص منع السفر بين 8 مدن؟ إن سألت أي مسؤول في الحكومة، سوف يجيب: "محاصرة تفشي فيروس (كورونا) المستجد، ومنع وصوله إلى القرى والأقاليم التي لم تسجل أي إصابة منذ أسابيع". وسوف يضيف: "عطلة العيد تعرف حركية كبيرة بين المدن ويجب تطويق الوضع". هل أدى البلاغ المهمة المرجوة منه؟
الجواب ما عشته المحطة الطرقية "أولاد زيان" ليلة الأحد/الاثنين. التباعد الجسدي لا أثر له سوى في عبارة "حافظوا على التباعد" خطت بالأحمر فوق قماش أبيض معلق عند مداخل المحطة الرئيسية، الأجساد تتزاحم، تكاد تتلاصق، بل هي كذلك، حين يبدأ الاقتتال على خطف تذكرة سفر، والتجمهر أمام مكتب للتذاكر احتجاجاً على تأخر حافلة عن موعدها.
ارتداء الكمامة الواقية وكأنه ترف، نسبة قليلة جداً من المسافرين يتسلحون بها. وداخل الحافلات، إجراء ملأ نصف الطاقة الاستعابية يبقى شعاراً فقط، كل الكراسي محجوزة، وأين ما كانت الوجهة سوف يجلس بقربك رفيق سفر، تجهل هويته وحالته الصحية كما يجهل هو تماماً هويتك وحالتك الصحية.
يقول أحد الحراس الخاصين بمدخل المحطة الطرقية: "بعد الساعة الثامنة مساء تفاجآنا بوصول أعداد كبيرة من المواطنين"، يتحدث وهو يحاول منع حشد من المسافرين يتقدمه "كورتي" يصرخ "وااا حل الباب... حيد الكرياج". حاول الحارس الخاص المقاومة، الخروج من هذا الباب ممنوع، استسلم، كما استسلمت كل مصالح المحطة الطرقية لما نتج عن بلاغ منع السفر.
"توقفت عن قياس درجة حرارة الذين يلجون المحطة الطريقة". يتحدث حارس الأمن الخاص بحسرة، يرفع سترته الصفراء، يشير إلى جهاز قياس الحرارة المعلق ما بين صرته وحزام سرواله، ويكرر عبارة: "وليت خايف غير يتشفر ليا ونخلصو من جيبي".
أحد المسؤولين بالمحطة، قال لـ"تيلكيل عربي"، إن "السيطرة على الوضع صعبة جداً". ويضيف: "طلبنا تعزيزات أمنية لأن عناصر الأمن الخاص لم تستطع التحكم في حركة المسافرين داخل المحطة، ولكن مباشرة بعد بلاغ منع السفر فقد الجميع السيطرة على الوضع، ونسأل اللطف للجميع".
تأمل الوضع في "أولاد زيان" ودون تهويل، يدفع لطرح تساؤل: ماذا إذا كان 1 في المائة من هؤلاء مصابين بفيروس "كورونا" المستجد؟ لا تباعد جسدي، لا قياس لدرجات الحرارة، ارتداء الكمامة يكاد يكون منعدما، النقود تمنح وتصرف وتنتقل من يد إلى أخرى دون تعقيم، بائعوا قنينات الماء و"السندويتشات" يمارسون حرفتهم دون احتياطات، وعدد من كبار السن من بين الراغبين في الفرار قبل منتصف الليل.
لهيب الأسعار
فريد عامل بناء سبق له برمجة السفر إلى مدينة الراشيدية يوم الثلاثاء القادم، ما إن سمع ببلاغ منع السفر من وإلى مدينة الدار البيضاء، حتى حمل ما أمكنه من زاده ومتعاه، وقصد المحطة الطرقية "أولاد زيان" لعل قدره يجود عليه بتذكرة سفر إلى جوار عائلته.
يقول فريد في حديثه لـ"تيلكيل عربي": "إلى حدود اللحظة لم أجد تذكرة سفر، هناك وعود من بعض (الكورتية) ولكن الأسعار بزاف، طلب مني تأدية 500 درهم وإنتظار حافلة سوف تنطلق في الساعات الأولى من صباح الاثنين نحو الراشيدية، وبعض أصحاب النقل السري طلبوا مني 700 درهم".
مجموعة أخرى من عمال البناء، كانوا يشتغلون في إحدى الأوراش بمنطة "النواصر" نواحي مدينة الدار البيضاء، تركوا كل شيء خلفهم وهرعوا إلى المحطة، وجهتهم مدينة الصويرة، أحد رفاقهم كان سفره مبرمجاً اليوم الأحد، سبقهم إلى المحطة واقتنى تذكرة بـ150 درهماً، قبل أن يطلب منه إعادتها بعد صدور بلاغ منع السفر، قبل بالأمر على مضض، وشجعه على ذلك مكالمة هاتفية من رفاقه في الورشة، يخبرونه بأنهم سوف يلتحقون به للسفر جماعة نحو وجهتهم.
أحد أفراد المجموعة وهم يتحلقون حول متاعهم، يتحدث بنبرة احتجاج وهو ينفت دخان سجارته من رئتيه بزفير حاد، يقول: "واش هد الناس كتعامل معنا فحال البهيم..." يبادر رفيقهم الذي تأجل موعد سفره، ويكشف لـ"تيلكيل عربي" أن "تذكرة السفر إلى الصويرة قبل البلاغ كانت 150 درهماً... الآن بلغت 350 درهماً".
وجهة أكادير لمن فاز بالتذكرة قبل بلاغ المنع بلغت 350 درهماً، وبعد البلاغ 500 درهماً. وجهة الرباط التي يصلها المسافرون من الدار البيضاء بما بين 15 و50 درهماً فقط، قفز سعرها إلى 50 درهماً. ومن يرغب في السفر إلى فاس عليه أداء مبلغ 260 درهماً. كل الأسعار حسب الشهادات التي استقاها "تيلكيل عربي" من المسافرين أو الفارين إن صح التعبير تضاعفت بشكل رهيب، ولا أحد يراقب كل هذا. المسؤول في المحطة الذي تحدث إليه "تيلكيل عربي"، يبرر موقف المتفرجين بالقول: "لا نملك الموارد البشرية لمراقبة كل هذا".
وما ضاعف أسعار التذاكر أكثر، هو تفضيل عدد من الحافلات ملأ كراسيها خارج المحطة الطرقية، بعيدا عن المراقبة، وطمعا في ربح أوفر، وتنصلاً من تأدية الواجبات المفروضة على أربابها.
مشاهد مؤلمة
في ركن عند الباب من حيث تخرج الحافلات، يتكئ على السياج الحديدي، ويمسك بعكازه الأسود، شيخ طاعن في السن، لم يكن يتوقع أن ينتهي به الحال هكذا، "حاصل" رفقة كبش عيده، ربطه إلى السياج الذي يتكئ عليه، كبش أقرن وأملح يبحث بدوره عن وسيلة تقله إلى مدينة القنيطرة.
سأل "تيلكيل عربي" الشيخ عن العروض التي قدمت له لنقل أضحيته نحو وجهته، يجيب بابتسامة عريضة: "ها هو ديه ونعطك لي بغيت..." يقبل الشيخ بكل من يعرض المساعدة على تنقله، تبقى كلها وعود، سلمه أكثر من شخص رقم هاتف ليتصل به من أجل إنجاز المهمة. في كل مرة ينتهي من المكالمة طيلة وقوف "تيلكيل عربي" بجانبه، ينظر إلى كبشه، يتأمله، وكأنه يكرر في داخله "كون غير نذبحو هنا !"
مشهد آخر مماثل لهذا، سيدة ممتلئة تجلس فوق الكراسي الصلبة المقابلة لمكان ركن حافلات السفر داخل المحطة. السيدة اختارت أن تمسك كبشه بيدها، تشد على الحبل ملفوف حول قرونه بإحكام، وطفلة صغيرة تجلس إلى قربها، تمسك بها، كما تمسك السيدة بالخروف. هو احساس بالخوف المتبادل، خوف على احتمال فقدان كبش لم يعد من اليسير تحصيل ثمنه خاصة مع ظروف الجائحة، وخوف من أن تتيه الصغيرة وسط الزحمة.
سيدة خارج المحطة، بجلباب أسود، تبللت وجنتاها بالدموع، تسأل عن شخص وتحاول وصف ملابس وشكله، لم يكن سوى "كورتي" مزور تحصل سعر تذكرة سفر منها وتبخر.
عائلات وأفراد، نساء وأطفال، طاعنون في السن، شاب رفقة زوجته، الأخيرة تجر خلفها طفلتها والأول يحمل بين ذراعيه رضيعاً ويمسك بيده قفصا كبيراً به طيور من مختلف الأنواع، وسط كل هذا البؤس الذي يخيم على المحطة الطريقة، يلتفت الشاب إلى زوجته ويخبرها مازحاً: "اليوم الا ما بناش في التلفزة راه بحالي ما وقع والو من هد تمارة". عبارة بسيطة تلخص ما ينتظره المغاربة من تفسيرات لكل ما وقع، ومن يتحمل مسؤولية بلاغ الدقيقة الـ90، الذي أدى لنتائج عكس ما صيغ لأجلها.