في إطار تقديمه لمنهجية جديدة لقراءة القرآن والنصوص الدينية، قام الدكتور محمد شحرور، من خلال العديد من الكتب، بإعادة تعريف المفاهيم الأساسية للإسلام. هذا المفكر السوري المولد، والمتنقل بين لبنان والإمارات العربية المتحدة، معروف بنظرياته وأطروحاته المقلقة والداعية إلى الإصلاح الديني. وقد سبق للمستشرق الأمريكي "دايل إيكلمان" أن لقب الدكتور شحرور بـ "مارتن لوثر الإسلام".
في هذا الحوار، ولأول مرة مع منبر إعلامي مغربي، وافق الدكتور محمد شحرور على الإجابة على أسئلتنا. ومن خلاله ذلك، سلط الضوء على مجموعة من الإشكاليات المعاصرة في الفكر العربي والإسلامي.
كيف يعرف الدكتور محمد شحرور نفسه ؟
يشرفني أن أعرف نفسي لقرائكم. أنا محمد شحرور، دكتور مهندس في ميكانيك التربة، وقد درست في هذا المجال بالجامعة ما يقارب ثلاثين سنة. فأنا بالأصل مهندس مدني، وليس رجل دين. وقد انطلقت في دراساتي في المجال الديني بعد أن لاحظت، من خلال اطلاعي على التراثي الديني وعلى الفلسفات العالمية المختلفة، بأننا نعاني من مشكلة كبيرة في وعينا الاجتماعي، في طريقة تفكيرنا وفي علاقتنا بعالمنا المعاصر.
وبما أن الإسلام كدين كما جاء في التراث هو أساس ثقافتنا، فقد توجهت إلى التراث لدراسته بحثاً عن منطلق الخطأ فيه. فوجدته يحمل فكراً تم وضعه في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، ومن جاء بعدهم يحاول تطبيقه في عصرنا الحالي دون الأخذ بعين الاعتبار حركة التطور والازدهار منذ ذلك الحين. لهذا نجد المسلمين اليوم يعيشون نوعاً من انفصام الشخصية، لأنهم عالقون بين التطور الفكري الذي عرفته الإنسانية والفكر التراثي الذي لم يتغير من قرون، وبين القانون المدني كتشريع إنساني في مجتمعاتهم والفقه الإسلامي الموجود في كتب الفقه. وهذه المشكلة تظهر بشكل أكثر وضوحا لدى الجاليات المسلمة في أوروبا.
المتتبع لمشروعك "القراءة المعاصرة للدين" يلاحظ أنها ابستيمولوجية تعتمد آليات معرفية واعية بلحظة إنتاج المعرفة ومنفصلة عنها. وهذا ينطبق على مشروعك، حيث تؤكد على عدم الوقوف عنده، بل يجب تجاوزه مستقبلاً. كيف تفسر ذلك؟
نعم هذا الكلام صحيح لأن القراءة المعاصرة الحقيقية تبنى على منهجية علمية محكمة تعتمد آليات معرفية واعية ولكنها متجددة ومتطورة في الوقت ذاته، وهذا ما يجعل منها حيوية وقابلة للتغير، ولهذا أنا أؤكد أنه يجب عدم تحنيط فكري وجعله ديناً مقدساً، كما فعل من قبلنا، إذ حنطوا اجتهادات من سبقونا وجعلوها ديناً غير قابل للنقد أو النقض. لأن أي تطور مجتمعي على كل المستويات يحتاج إلى النقد المستمر حتى يتمكن من التجدد وبالتالي ضمان سلامة السيرورة الاجتماعية وبقاءها على الطريق الصحيح. وأنا كل ما أقوم به هو تقديم قراءة واعية وفق المعطيات المعاصرة لحل المشاكل التي نتخبط فيها، لكني متأكد بالمقابل أن بتغير هذه المعطيات سيصبح فكري غير صالح وبالتالي على أي مجتمع تتغير معطياته أن يضع لنفسه قراءة تسمح له بحل مشاكله وفق رؤية واعية وناضجة.
أنت من المهاجمين الشرسين للسنة النبوية والحديث. هل في نظرك أن السنة تضر الدين أكثر ما تخدمه، وأن الإسلام (كما الفكر المسيحي سابقاً) لا يحتاج وساطة ولا علماء لفهمه؟
أنا لا أهاجم السنة النبوية والحديث، وليس من حقي مهاجمتهما، حيث يمثلان رصيد تاريخي حضاري لأمتنا لا يمكن الاستغناء عنه، ولكن أهاجم من يعمل على جعلهما الدين، وإعطائهما طابع القدسية، ويهمل بالمقابل كتاب الله الذي يمثل المصدر الأساس لديننا. ولا أصدق أقاويل "نحن نعتمد الكتاب والسنة كمصدر أساس" لأنهم في الحقيقة لا يعتمدون إلا السنة، ويجعلونها حاكمة على نصوص كتاب الله وبالتالي يجبرون الناس على فهم كتاب الله من خلالها فقط وأي فهم له من خارجها مرفوض ولو كان يقدم مصداقية أكثر لنصوصه. علما ً أنّ ما قام به النبي (ص) من خلال ما ورد في سنّته لا يعتبر ديناً وإنما قانوناً مدنياً وضعه لمجتمعه كمشرع أول في الإسلام، فقد افتتح من خلال رسالته باب التشريع الإنساني وأغلق باب التشريع الإلهي. فاجتهاده متجاوز زماناً ومكاناً، وقابل للنسخ كأي تشريع إنساني، وهو من علمنا ذلك من خلال رسالته، لكن الفقهاء قلدوا المسيحيين الذين جعلوا المسيحية تتمحور حول شخص المسيح، بجعلهم الإسلام يتمحور حول شخصية الرسول، وهذا هو المأزق الكبير الذي وقعنا فيه ولا يمكن الخروج منه إلا بإرجاع مركزية الإسلام لتتمحور حول كتاب الله عزّ وجل كما كانت في حياته (ص)، فحسب رؤية الفقهاء للإسلام فإن الرسول وصحابته مازالوا أحياء، ولكنهم في الحقيقة أموات وعلينا دفنهم.
ألا يخلق هذا الطرح المجال أمام الجميع لتفسير القرآن (والدين) كل حسب فهمه.. فيصبح مطية للجميع، كنموذج داعش التي تدعي تطبيق ما تفهمه؟
بالنسبة للجماعات الدينية المتطرفة كداعش وغيرها فإنها لا تقوم ببذل جهد بتفسير القرآن والدين بنفسها بل تعتمد على التفاسير التراثية التي تعتبرها المؤسسات الدينية مصادر رسمية للدين، وهذه مشكلتنا الحقيقية حالياً، لأن هذه التفاسير متجاوزة تاريخياً وجاءت في زمن الفتوحات الإسلامية أيام كانت الخلافة الإسلامية تمثل أقوى دولة في العالم. وهذا الطرح كله أصبح من التاريخ ولا يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه لأن التاريخ يسير إلى الأمام وليس العكس. وبالتالي فيجب قراءة القرآن والدين قراءة واعية معاصرة تمكننا من التعامل مع معطيات العصر والتطورات الحاصلة على كل المستويات. وهذا ما أحاول القيام به، فأنا أقوم بتفسير القرآن الكريم على طريقة إسحاق نيوتن على عكس رجال الدين الذي يعاملونه معاملتهم للشعر. ولا أشك في أنّ القارئ الكريم يفهم قيمة أن نبذل جهودنا لفهم نص إلهي هو القرآن بطريقة علمية خالية من الخرافات والأساطير، فإن ذلك سيعطي ما نتوصل إليه من مفاهيم مصداقية علمية أكثر متناسبة مع مستوى التطور العلمي الذي وصلت إليه الإنسانية، ويبعدنا عن الخرافات. وقد توصلت إلى قراءتي المعاصرة لكتاب الله بفضل الاعتماد على أرضية معرفية معاصرة وعلى ما توصلت إليه اللسانيات الحديثة، والتي تنبني أساساً على إلغاء الترادف.
أحد مرتكزات مشروعك هو تفريقك بين مصطلحي الكتاب والقرآن المبنية على إشكالية لغوية وهي "الترادف". لكن السؤال الذي أضحى متداولاً هو مدى صلاحية القرآن في حد ذاته في هذا الزمن. كيف ترى ذلك؟
هذا السؤال مهم جداً، لأننا لو نظرنا إلى القراءة التراثية للقرآن لوجدناها تعتمد تفسيراً متجاوزاً له لا يمكنه أن يتماشى مع تطورات العصر وتطور المعارف الإنسانية. وبالتالي فإن تفسيرات القرآن هي التي لم تعد صالحة وليس نصوصه بحد ذاتها، والقرآن جاء من حي باقٍ لا يموت هو الله عزّ وجل إلى أحياء لكنهم ميتون، وعليه فإن كل جيل عليه أن يتفاعل مع نصوصه بحيوية تنطلق من الأرضية المعرفية والتطورات العلمية لعصره، وبهذا فقط نستطيع أن نفهم مدى صلاحية القرآن ككتاب هداية يحمل رسالة روحانية عالمية لمساعدة الإنسان على التطور في كل زمن بشرط أن يفهم فهماً صحيحاً.
كيف تلخص الطريقة المثلى لتجفيف منابع الإرهاب الديني؟
ليس هناك طريقة مثلى للتخلص من الإرهاب لأن المثالية لا توجد إلاّ في الخيال، بل كل ما هنالك طريقة واقعية عقلانية علمية تضع نصب أعينها مصلحة الشعوب والمجتمعات وتتمسك بالقيم الإنسانية كمبدأ أساس، وهذه الطريقة تتمثل في العمل على مواجهة الفكر بالفكر قبل مواجهته بالسلاح لأن هذا الأخير أثبت فشله تاريخياً، وبالتالي أرى أن الطريقة الصحيحة للقضاء على الإرهاب هي توعية مجتمعاتنا على الوهم الكبير الذي تطرحه الجماعات الإرهابية باسم الدين، وأن نوضح للناس المعنى الحقيقي للإسلام كما جاء في القرآن الذي يندد بالعنف ويرفضه بكل أشكاله، بحيث يفهمون ما يدور حولهم من مختلف القضايا عالمياً وإقليمياً ومرحلياً. ولا يمكن ذلك إلا بسحب السلطة الدينية من المؤسسات الدينية التراثية وجعل مهمة فهم الدين مسؤولية المفكرين والعلماء الذين من شأنهم وضع خطط تفصيلية عملية وواقعية لتحقيق ذلك.
هل ترى من الضروري استمرار وجود الحركات الإسلامية، أو ما يسمى بالإسلام السياسي في المجتمعات العربية؟
أرى أنه من الضروري العمل على رفع وعي المجتمعات العربية إلى مستوى يمكنها من فهم مدى فشل هذه الحركات وعجزها عن تقديم مشاريع حضارية، وبالتالي يصبح وجودها كعدمه في هذه المجتمعات فتندثر من نفسها، لأن المجتمعات هي التي تمثل القاعدة الشعبية لهذه الحركات والأحزاب، ويجب أن نساعدها حتى تفهم أن أكذوبة الإسلام السياسي مخادعة وضحك على الأذقان من قبل هذه الحركات للوصول إلى السلطة وتحقيق مآرب غير بريئة تماماً مبنية على المصلحة الشخصية على حساب المجتمعات العربية.
ماذا تعني بقولك أن أغلب سكان الأرض مسلمون، حتى ولو كانوا ملحدين أو بوذيين أو من ديانة أخرى؟
الخطأ الكبير الذي حصل من الفقهاء تمثل في خلطهم بين معنى كل من "الإيمان" و"الإسلام". بحيث قالوا بأن الدعائم التي يقوم عليها "الإسلام" هي: الإيمان بإله واحد وأن محمداً هو نبيه، إقامة الصلاة، صوم رمضان، الزكاة والحج، بناء على حديث وجدنا أنه يختلف مع ما جاء في التنزيل الحكيم الذي يوضح أن هذه الدعائم هي التي يقوم عليها "الإيمان بمحمد (ص)"، أي بتوضيحه للشعائر التي تحدد أتباع محمد (ص) باتباعه مثلاً في كيفية آداء الصلاة وصيام رمضان .. ومن يقوم بهذه الشعائر فيمكن أن يقول أنا "محمدي".
أما دعائم الإسلام فقد حددها التنزيل الحكيم على أنها الإيمان بالله والعمل الصالح، أي الالتزام بالقيم الإنسانية، وعلى ذلك يتفق أغلب سكان الأرض. فبر الوالدين من القيم الإنسانية في الإسلام، وعليه فإن أي إنسان ليس ملزماً أن أكون محمدياً كي يكون باراً بوالديه، إذ يمكن أن يكون بوذياً أو هندوسياً، لأن برّ الوالدين من الإسلام. وقد سمَّى القرآن الكريم "المؤمنون" الذين يتبعون محمداً (ص)، وسمّى الذين يتبعون الله باسم "المسلمون". وهذا هو السبب في وجود يهود-مسلمين ومسيحيين-مسلمين وبوذيين-مسلمين. أي أن كل إنسان يمكن أن يكون مسلماً عند إيمانه بالله، إذا أضاف إلى ذلك إيمانه بموسى فهو يهودي، وإذا أضاف إلى ذلك إيمانه بالمسيح عيسى فهو مسيحي، أما إذا أضاف إلى ذلك إيمانه بمحمد فهو "محمدي". أي هناك مستويان من الاعتقاد متمايزان: الأول الإيمان بالله، والثاني الإيمان بمحمد(ص).
كيف تنظر "القراءة المعاصرة" للدين إلى بعض الإشكاليات "المعاصرة"؛ كالشذوذ الجنسي والعلاقات بالتراضي قبل الزواج والحريات الفردية؟
القراءة المعاصرة للدين جعلتنا نفهم أن الله وحده هو صاحق الحق في التحريم وقد قام بوضع 144 محرماً في كتابه لا تزيد ولا تنقص لأن الحرام شمولي ومحدد، ومن هذا المنطلق فإن النبي (ص) لم يحرّم أي شيء وما كان له، ولكنه قام بتنظيم الحلال في مجتمعه حسب ظروف المجتمع وأعرافه وتقاليده، وبالتالي فإن كل ما عدا المحرمات حلال، وطالما أن الحلال لا يمارس إلا مقيداً فالهيئة التشريعية لأي بلد هي التي تقوم بتقنينه وقد ورد بكتاب الله حكم تحريم الشذوذ الجنسي وبالتالي لا يمكن القول بأنه حلال لأن ذلك تعد على الله، ومع ذلك لا يحق لنا أن نقتل من يدعو إلى المثلية ولكن يحق لنا أن نعارضه وفي ذلك تمام الحرية لنا وله. أما العلاقات بالتراضي بين الرجل والمرأة ما عدا حالات الفواحش التي حرمها الله وهي: الزنا والسفاح ونكاح المحارم ونكاح امرأة الأب ونكاح المتزوجة، فما سواه خاضع للأعراف والتقاليد التي تنظم العلاقات الحلال كيفما كانت تسميتها.
كيف ظلم الفقه الإسلامي المرأة في؛ الحجاب.. الإرث.. التعدد؟
هنا يجب التأكيد على أن كتاب الله لم يظلم المرأة وأعطاها حقوقها كاملة لكن الفقه الذكوري هو الذي حرمها من هذه الحقوق من منطلق القراءة المغلوطة لكلام الله، فجعلوا للمرأة نصف حق الرجل في الميراث، وأجبروها على لبس الحجاب زعماً منهم أنه اللباس الذي فرضه الله عليها، كما منحوا لأنفسهم الحرية المطلقة في تعدد الزوجات دون قيود أو شروط عدا عدم تجاوز 4 زوجات في نفس الوقت. وكل هذا يتناقض مع ما جاء في كتابه عزّ وجل الذي كرم المرأة واعتبرها إنساناً كامل الحرية والحقوق، بحيث فرض عليها حد أدنى في اللباس مثلها مثل الرجل، وترك موضوع اللباس خاضعاً للطقس والأعراف والتقاليد تحدده، كما لم يمنح الرجل كامل الحرية في تعدد الزوجات بل جعل شرط التعدد مرهوناً بالتكفل بأيتام الزوجة التي يتم التعدد بها، وعليه فإن كتاب الله جعل من موضوع التعدد مسألة إنسانية بحتة. أما بالنسبة للميراث فإن قراءتنا لآيات المواريث بواسطة الرياضيات الحديثة جعلنا نفهم كيف أن الله جعل الأنصبة تتقاسم بين الذكر والأنثى بشكل عادل، كما أنه خير الإنسان بين الوصية والميراث في تقسيم التركة وهذا من تمام العدل الإلهي.
كيف يتوافق عندك الدين مع السلطة، أو ماذا تقترح كنموذج للحكم في الدول العربية؟
يجب إبعاد الدين عن السلطة لأن الدين يتدخل في حياة الناس برغبتهم أما السلطة فتتدخل فيها بالإكراه وتحد حرياتهم. فالدين يتدخل في حياة الناس عن طريق ممارستهم له بكل حرية وطواعية لا بالعنف والإكراه أي قناعة شخصية، فالدين لا يحمل أداة الإكراه بينما السلطة تحمل أداة الإكراه وهي وسيلة لضبط المجتمع وتنظيمه، أي أن السلطة تحمل الأفراد بالإكراه على الالتزام بالقانون وعدم تجاوزه. كذلك يجب ألا تتدخل السلطة في الدين بفرضه بالإكراه فهو تابع لحرية الإنسان الشخصية، وهذا فيه ضمان لديمومة الدولة واستقرار المجتمع، وذلك حفاظاً على الحريات وكي لا يتجاوز أي فرد على حريات الآخرين. وبالتالي فإن الدين يمثل المرجعية الأخلاقية للسلطة لأن سلطة من دون مرجعية أخلاقية عبارة عن دكتاتورية.