"مدرسة 1337".. "منجم" لصناعة عباقرة المستقبل

عبد الرحيم سموكني

في قلب مدينة خريبكة، تنتصب مداخن أفران التنشيف التي أسسها المستعمر لاستخراج الفوسفاط في عشرينات القرن الماضي، شاهدة على تحول جذري غير مسبوق في المكان، بعد أن ارتفعت بنايات عصرية بالقرب منها لتحتضن مدرسة متخصصة في التنقيب أيضا، لكن ليس في الأرض وإنما عن "مواد رمادية" مغربية، لصقلها وإنجاب "نخبة" مغربية في البرمجة المعلوماتية. هي مدرسة فريدة من نوعها في القارة السمراء، وهي واحدة من بين قلائل منتشرة في العالم تكوّن عقولا في الترميز والتشفير، مدرسة بالمجان تتبع منهاجا بيداغوجيا "ثوريا"، يتمرد على أساليب التعليم التقليدية، سواء بشروط الولوج أو بمنهاج التعلم، فكيف ذلك؟

نخبة المستقبل دون معلم

بالقرب من الخزانة الوسطائية لمدينة خريبكة وإلى جانب أفران تنشيف الفوسفاط التي بنيت في عشرينات القرن الماضي، حيث كان أول موقع لاستخراج الفوسفاط، شيد المكتب الشريف للفوسفاط، بتعاون مع مدرسة 42 في باريس، أول مدرسة مغربية لتكوين مهندسين في مجال البرمجة والتشفير أو الترميز.
بمجرد ولوج الباب الرئيسي عليك رمي كل مفاهيم التعليم لتقليدي خلف ظهرك، هنا في 1337، وهو اسم المدرسة على غرار مدرسة 42 في باريس و101 في سيلكون فالي بأمريكا، يسود نظام تعليمي مغاير، فلا وجود لأساتذة ولا وجود لرقابة ولا وجود لمبدأ النجاح والسقوط، بل حتى لولوج المدرسة. لست في حاجة إلى باكالوريا أو سجل نقاط مرتفعة، المبتغى الوحيد في 1337 هو الولع بالمعلوميات و"المادة الرمادية" المتقدة.

يقول العربي الهلالي، مدير مدرسة 1337، ومعناها في لغة وقاموس المبرمجين في العالم هي "النخبة"، "جاءت فكرة تشييد مدرسة خاصة بالمبرمجين والمرمزين من الغياب الموجود في المجال، فمدارس المبرمجين تكون من اختصاص معاهد الهندسة، والتي تتطلب واحدا من أمرين: أولا الحصول على معدل نقاط مرتفعة في الباكالوريا، ثم الخيار الثاني هناك المدارس الخاصة، على غرار مدرسة "أيبي تيك" في مدينة ليون الفرنسية، وهو ما يتطلب مبلغا سنويا يناهز 60 ألف يورو. لكن في 1337 هناك مجانية التعليم، وهو المبدأ نفسه المطبق في مدرسة 42 في باريس، التي يرعاها إكسافييه نيل، مؤسس شركة فري، وفي المغرب هناك المكتب الشريف للفوسفاط الذي يرعى 1337".

ويتابع العربي الهلالي الذي كان يتحدث أمام صحافيين مغاربة فتحت لهم أبواب المدرسة التي تواصل القيام بالاختبارات لاختيار المرشحين النهائيين، "في أفق 2030 ستكون هناك حاجة كبيرة إلى المهن الرقمية، بل أبعد من ذلك، 80 في المائة من المهن التي ستولد عند هذا التاريخ لا نعرف طبيعتها، فقبل خمس أو ست سنوات، لم يكن أحد يتوقع أن تولد مواقع التواصل الاجتماعي الحاجة إلى مهنة "مسير بصفحات مواقع التواصل الاجتماعي".

يتجلى التحدي الأبرز في فتح أبواب مدرسة من هذا النوع، ليس في تكوين مبرمجين عاديين، يقول الهلالي "لا نريد فقط مبرمجين عاديين، بل نبحث عن تكوين مبتكرين. لا نطمح إلى الحصول على شركات ترحيل الخدمات ولا على شركات مناولة لعلامات أو شركات كبيرة، بل نرغب في أن نرى شبابا مغاربة يبتكرون مشاريعهم الخاصة، ولهذا فإن المدرسة ومعها المكتب الشريف ستمول أفكارا جديدة للمتخرجين، يمكن أن تصل إلى 30 في المائة، بالإضافة إلى مواكبتها عند الانطلاق".

تعلم كيف تتعلم

على ثلاث طوابق، تتوزع صالات كبرى تضم آخر جيل من أجهزة "الماك"، خصصت للتلاميذ الذين يخوضون اختبار "المسبح الكبير"، وهو الاختبار الحاسم يدوم لأربعة أسابيع، بعد أن يكون المتباري اختاز الاختبار الأول عبر الأنترنت، يوضح ياسر بوكس مسؤول عن التأطير في 1337 "عندما يجتاز المتباري الاختبار الأول عن بعد، يتوصل بدعوة إلى الحضور إلى خريبكة، ليبدأ اختبار المسبح، الذي يدوم 4 أسابيع؛ إذ يجري، في كل يوم جمعة، امتحان من 6 ساعات، وعند الانتهاء يكون هناك غرقى وناجون، تمكنوا من البقاء على السطح، هذه التعابير المجازية، هي تلخيص لأسلوب عمل المدرسة".


في 1337، ليس هناك توقيت لبدء الفصل الدراسي ولا موعد محدد للاتحاق بالصف، الأهم أن يلتزم المتسابق باختباراته، وأن يظهر تقدما في التمارين الخاصة بالترميز. هنا لا يوجد أي إجبار أو تدخل فوقي من المسؤولين، إذ يتمتع التلاميذ بحرية كبيرة لا نظير لها في المدارس والمعاهد الكلاسيكية، تقول هند البرنوصي، المسؤولة عن التواصل في 1337 "لقد أظهر لنا هذا الأسلوب نتائج جد رائعة؛ إذ تأكد لنا أنه عندما تمنح الطالب حرية أكبر فإنه يكون أهلا للمسؤولية، لقد تفاجأنا بسلوكهم. إنهم ينظفون الحواسيب من تلقاء أنفسهم، بل في إحدى المرات قاموا بشراء الورود لعاملات النظافة، وطلبوا منهن أن يرتحن، ليقوموا هم بتنظيف القاعات والممرات والسلالم، بل حتى المراحيض".

تأكد لنا أنه عندما تمنح الطالب حرية أكبر فإنه يكون أهلا للمسؤولية، لقد تفاجأنا بسلوكهم

كن ابن من شئت واكتسب مادة رمادية

أما ياسر بوكس، وهو أحد مهندسي المكتب الشريف للفوسفاط، والذي تطوع، قبل عام، دون أن يعرف تفاصيل المشروع المدرسي، فيتابع "طاقم المدرسة لا يتدخل في أي شيء، بل يراقب فقط، وحتى عندما يقع طالب في إشكال تقني، فإننا لا نتدخل، بل نجبرهم على ضرورة العثور على حل بمساعدة بعضهم، وهذا أمر يقوي التحدي ويؤلف بين المجموعة، فحتى نظام التصحيح هو ذاتي عندهم، إذ يصحح الطلبة تمارين بعضهم، بينما نراقب نحن كل التفاصيل، فمبدأ 1337 هو أن تعلم كيفية التعلم".

في 1337، يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون قوانين المعلوميات، إذ يسود مبدأ تكافؤ الفرص بشكل حقيقي كل ردهات المدرسة؛ إذ لا يتطلب الأمر دفع مصاريف تسجيل ولا سجل النقط ولا دبلومات من مدارس شهيرة ولا واسطة نافذة، كل ما هو مطلوب هنا الكفاءة وحب التعلم وعشق المعلوميات؛ إذ يتحد الفقير والغني ويتجاور صاحب الماستر مع صاحب مستوى باكلوريا، غير أن الكلمة الفصل تكون في النهاية للناجحين في اختبار "المسبح الكبير" الذي يدوم 4 أسابيع.


كان وضع مفتاح سيارة من نوع "مازيراتي" فوق طاولة مشهدا غريبا، طالب يلج الاختبار وهو يملك سيارة يقدر أبخس ثمن موديل منها بـ90 مليون سنتيم، يشرح جواد الرحالي وهو متبار يخوض اختبارات المسبح كيف أنه تخلى عن عمله في شركة "فيليب موريس" ليقرر القدوم إلى 1337. يقول هذا الشاب، الحاصل على دبلوم من جامعة السوربون في باريس، تخصص التسويق واستراتجيات المقاولات "تركت كل شيء، وأقنتعت الوالد بأن الاستثمار الحقيقي والمستقبلي يتجسد في البرمجة الرقمية، لهذا خضت الاختبار الأول، وبمجرد توصلي بدعوة للحضور إلى خريبكة، ها أنا أخوض اختبار المسبح، وكلي طموح في اختيازه لولوج المدرسة".

يتوفر جواد الرحالي على خطة عمل مستقبلية ويقول "أطمح بعد التخرج إلى ابتكار برنامج يجمع المعلومات الرائجة في الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، بما فيها الإشاعات، لأقوم بتحليلها وإنجاز تقييم يسمح بتوقع هبوط وصعود الأسهم في البروصات العالمية".

أما كمال شهيد، القادم من مدينة سلا، فقدم بدوره استقالته من مكتب محاسبة في مراكش، وهو الحاصل على ماستر في التدبير المالي، يوضح لـ"تيل كيل عربي": "بمجرد ما اطلعت على خبر افتتاح 1337، دخلت مكتب المدير لأخبره بأني سأغادر العمل، لقد كانت أمنية أن أتلقى تكوينا في البرمجة والترميز، لكن حينها لم يكن الأمر متاحا، وبمجرد أن اجتزت الاختبار الأول، عقدت العزم على دخول مغامرة جديدة، فقررت الاستعداد جديا لاختبار المسبح، فالتهمت كتاب "لغة سي" (كتاب شهير حول لغة الترميز)، وعندما دخلت المسبح وجدت أن ما اطلعت عليه لا يمثل حتى 1 في المائة مما اكتشفته حتى اللحظة في المسبح".

بالنسبة لهند البرنوصي، فإن المشاركين في اختباري المسبح اللذين أجريا حتى حدود اليوم، كذبوا كل التوقعات حول مستوى المترشحين، "كنا نتوقع أن نشهدد استسلاما لثلث المتسابقين في اليوم الأول، لكنهم أظهروا عن عزيمة قوية، وفاجؤونا. في 1337 نخبرهم تكرارا بأنهم عليهم أن يكونوا أسودا إن أرادوا الالتهام، وأن حدودهم الوحيدة هي السماء، نحن نبحث عن المواهب المعلوماتية والرقمية، التي تنتشر في أسواق التشفير كدرب غلف وغيرها؛ إذ لا يحتاجون إلى دبلوم أو شواهد لولوج 1337، لأنها مدرسة المستقبل ونطمح أن نرى مبتكرين يؤسسون مشاريع رقمية ضخمة تنتشر في العالم وتحقق إيرادات كبيرة، مشاريع ابتكار صرفة، تتخرج من خريبكة، هذا مطمحنا الرئيس".