في هذا الحوار، يتحدث محمد مصباح، مدير المعهد المغربي لتحليل السياسات، حول نتائج الدراسة التي أنجزها المعهد بخصوص مؤشر الثقة في المؤسسات المغربية، كما يدلي بوجهة نظره من أجل تجاوز أزمة الثقة بين المواطن والمؤسسات.
حسب النتائج الأولية للدراسة التي قدمتهم نتائجها الأولية، يوم الثلاثاء الماضي 3 دجنبر الجاري، حول مؤشر الثقة وجودة المؤسسات، فإن 69 من المبحوثين عبروا عن قلقهم بشأن الاتجاه العام للبلاد. أين يتجلى هذا القلق؟ وما تفسيره؟
فعلا لمسنا من خلال هذه الدراسة الميدانية التي أنجزها المعهد المغربي لتحليل السياسات أن هناك قلقا لدى فئات واسعة من المغاربة بخصوص المسار العام للبلاد في السنوات الأخيرة. يتجلى هذا القلق أساسا في الخوف من المستقبل الذي يبدو ضبابيا بالنسبة لهم، بالرغم من أن نصف العينة عبرت عن رضاها بخصوص الوضع الاقتصادي الحالي، إلا أنهم في الوقت نفسه، غير راضين عن جهود الحكومة في مكافحة الفساد، بالإضافة إلى ثقتهم الضعيفة في الخدمات العمومية، لا سيما الصحة والتعليم، حيث تظهر نسب الثقة متدنية جدا في قطاعي الصحة والتعليم العمومي.
من خلال المقابلات التي أجريناها مع المواطنات والمواطنين، لا يبدو أنهم مقتنعون بأن الحكومة قادرة على حل هذه المشاكل، وهو ما يرفع قلقهم اتجاه المستقبل.
لا يثق المغاربة في الأحزاب السياسية، بينما يثقون في جمعيات المجتمع المدني التي نعلم أن جزءا كبيرا منها له ارتباطات سياسية. ألا يمثل ذلك تناقضا؟ ما الذي يجعل المغاربة يثقون في الجمعيات؟
الثقة في الأحزاب هي الأقل في الدراسة التي قمنا بإنجازها، وأيضا في كل الدراسات السابقة المماثلة، بحيث لم تتجاوز النسبة 23 في المائة من مجموع المستجوبين، بالمقابل يعتقد نصف المغاربة أن جمعيات المجتمع المدني جديرة بالثقة. بالمناسبة هذه الظاهرة؛ أي تراجع الثقة في الأحزاب السياسية ليست ميزة مغربية، وإنما أصبحت اليوم ظاهرة عالمية مرتبطة بما أصبح يسمى بأزمة الديمقراطية التمثيلية، يمكن تفسيرها بنهاية نموذج الأحزاب السياسية بالشكل الذي كنا نعرفه في السابق.
لم تتجاوز نسبة الثقة في الأحزاب 23 في المائة من مجموع المستجوبين، في المقابل، يعتقد نصف المغاربة أن جمعيات المجتمع المدني جديرة بالثقة.
ففي أنظمة ديمقراطية عريقة، تراجعت مكانة الأحزاب السياسية لصالح شخصيات وتيارات شعبوية. التفسير المحتمل هو أن الأحزاب السياسية لم تعد تلعب دور الوسيط بين الدولة والمجتمع، وهذا يظهر أساسا في رفض عدد من الحركات الاجتماعية لأي دور للأحزاب السياسية في الوساطة بينهم وبين الدولة، وهذا ظهر مثلا في احتجاجات الريف وجرادة وغيرها، حين رفض المتظاهرون أي دور للأحزاب السياسية في الوساطة بينهم وبين الدولة.
بالمقابل لا ينظر للجمعيات بنفس الدرجة لأن المواطن لا يعتبرها السبب في الأوضاع الصعبة التي يعيشها، بل ربما قد ينظر إليها، لا سيما الجمعيات الخيرية وجمعيات القرب، بكونها على الأقل تلعب دورا في توفير بعض الخدمات وإن كان محدودا.
في الوقت الذي انصبت مطالب الحقوقيين والأحزاب الوطنية إبان حراك 20 فبراير على ضرورة إعادة الاعتبار للفاعل السياسي والتقليص من هيمنة القطاعات السيادية، نجد أن المؤسسات السيادية غير المنتخبة تحظى بثقة أكبر لدى المواطنين ما تفسير ذلك؟
التفسير الأقرب في نظري هو أن الثقة المرتفعة في المؤسسات السيادية (مثل الجيش والشرطة)، مقابل تراجع الثقة في الفاعل الحزبي يعكس أزمة الديمقراطية في العالم العربي، حيث مازال المواطن ينظر إلى هذه المؤسسات باعتبارها الملاذ الأخير، وغيابها يعني بالنسبة لعدد كبير من المواطنين انتشار الفوضى. المشكل ليس هو ارتفاع الثقة في المؤسسات الأمنية، لأنه في عدد من الدول الديمقراطية العريقة هناك نسبة عالية من الثقة في هذه المؤسسات، ولكن عندما يصبح طموح المواطن الأكبر هو تحقيق الحد الأدنى من الأمن، فإنه يصعب الحديث عن الانتقال الديمقراطي. فثقة نسبة كبيرة من المواطنين في أجهزة الأمن تعبر عن غريزة البقاء؛ أي أن يبقى الإنسان على قيد الحياة، وليس تحقيق ذاته بشكل حر واختياري.
ثقة نسبة كبيرة من المواطنين في أجهزة الأمن تعبر عن غريزة البقاء؛ أي أن يبقى الإنسان على قيد الحياة، وليس تحقيق ذاته بشكل حر واختياري.
رغم استقلال السلطة القضائية إلا أن ذلك لم يغير من صورتها لدى المواطنين، بحسب نتائج الدراسة، هل يحتاج القضاء إلى إجراءات أخرى تعيد الثقة للمواطنين؟
صحيح، فقد نال قطاع العدالة نسبة من النقد من طرف المواطنين، سواء في البحث الميداني الكمي أو الكيفي. وأهم القضايا التي أشار إليها المواطنون ترتبط أساسا بنزاهة هذا القطاع وفعاليته. فرغم تأكيد الدستور على استقلالية السلطة القضائية ورغم كل المجهودات المبذولة في هذا المجال، إلا أنها لم تستطع إقناع المواطن بجدوى هذه الإصلاحات. أعتقد أن شفافية مسار التقاضي مهم جدا للرفع من منسوب الثقة، وهذا يقتضي تبسيط وتسهيل مسار التقاضي وشفافيته وتقليص التدخل البشري.
لا يعرف أكثر من نصف المغاربة دور البرلمان مما يدل على ضعف كبير على مستوى التأطير السياسي. من يتحمل المسؤولية في نظرك؟
المسؤولية مشتركة، لكن النصيب الأكبر يتجه نحو المؤسسة المعنية. من جهة، يشتكي النواب البرلمانيون الذين التقينا بهم من وجود قيود مؤسساتية ولوجيستيكية تحول دون قيامهم بأدوارهم في تمثيل المواطنين والتشريع ومراقبة الحكومة.
بالمقابل، ينظر المواطن للبرلمان على أنه مؤسسة مغلقة وأن عددا من النواب لا يقومون بوظائفهم بالشكل المطلوب وينظرون إلى عدد من البرلمانيين على أنهم ليسوا جديرين بالثقة بسبب عدم كفاءتهم. هناك إجراء واحد كان محط إجماع بين جميع المواطنين الذين التقيناهم، وهو مسألة تقاعد البرلمانيين، والتي اعتبرها المواطنون الذين تحدثنا معهم سببا كافيا لعدم الثقة في هذه المؤسسة. أعتقد أنه لو تم إلغاء تقاعد البرلمانيين وتسويقه إعلاميا يمكن أن يرفع تدريجيا الثقة في هذه المؤسسة على المدى القريب. أما على المدى البعيد، فهناك حاجة لإصلاحات سياسية، لا سيما أن القانون الانتخابي يسمح بدخول نخب برلمانية أكثر كفاءة من النخب الحالية.
لو تم إلغاء تقاعد البرلمانيين وتسويقه إعلاميا يمكن أن يرفع تدريجيا الثقة في البرلمان على المدى القريب.
ما هي انعكاسات أزمة الثقة في المؤسسات على المغرب؟
الثقة هي أهم قيمة في الرأسمال الاجتماعي، وهي الرابط الذي يجعل من الاجتماع البشري ممكنا، وهي أيضا أهم رأسمال يمتلكه الفاعل السياسي، في غيابه لا يمكنه شرعنة القرارات والحكم.
فمع معدلات ثقة مؤسساتية ضعيفة لا يمكن إنجاح أي عملية إصلاح اقتصادي أو سياسي، لأن المواطن لا ينظر بعين الرضى لمن يحكمونه. ومن هنا فإن تراجع منسوب الثقة في العملية السياسية والوسائط قد تكون له انعكاسات على الاستقرار السياسي نفسه، لأنه سيجعل الدولة في مواجهة مباشرة مع الشارع.
مع معدلات ثقة مؤسساتية ضعيفة لا يمكن إنجاح أي عملية إصلاح اقتصادي أو سياسي.
كيف تقرأ تعامل الدولة مع هذه الأزمة؟
على الأقل هناك وعي لدى الدولة بوجود أزمة في الثقة. فبعض المؤسسات الدستورية أشارت لهذا الموضوع بشكل مباشر، كما أن عددا من الخطابات الرسمية والسياسية تحمل ضمنيا اعترافا بوجود الأزمة. الرهان يبقى هو إجراءات استرجاع وتعزيز الثقة في المسار السياسي. لقد كانت انتخابات 2016 نقطة تحول أساسية في وعي المواطن. فالتراجع عن وعود 2011 قد يدفع المواطن إلى التفكير في ردود قد تكون غير عقلانية. أظن أنه لا زال هناك بعض الوقت - وإن بدأ يضيق- لاستدراك بعض التراجعات التي حصلت في السنوات الأخيرة.
ما هي الإجراءات التي ينبغي اتخاذها من أجل إعادة الثقة في المؤسسات وآليات الوساطة؟
ليس هناك وصفة جاهزة قادرة على إعادة الثقة في المؤسسات. كما أن الثقة هي مسألة نسبية وسياقية. بحيث ترتفع وتنخفض من فترة ومن منطقة لأخرى. في المغرب، يبدو أن هناك ثلاث محاور أساسية يمكن الاشتغال عليها.
أولا، هناك حاجة ملحة إلى عملية التنشئة السياسية والتربية على المواطنة، وهذا دور جميع مؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية، لا سيما المدرسة والاسرة وثم المجتمع المدني والأحزاب السياسية.
ثانيا، من المهم أن تكون هناك سياسة إرادية تقوم بتقريب المؤسسات من المواطنين، وهذا يظهر أساسا من خلال تسهيل الولوج إلى المعلومة والتواصل المكثف والمستمر والشفافية.
وثالثا وأخيرا، يبدو أن إصلاحات 2011 وصلت مداها وأن المغرب مازال يراوح مكانه، ومن هنا تظهر الحاجة إلى موجة جديدة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية العميقة؛ عنوانها الكبير هو ربط المسؤولية بالمحاسبة على جميع المستويات والفصل بين السلطة والثروة.