في الجزء الثاني من حوار محمد مصباح، رئيس المركز المغربي لتحليل السياسات، يتحدث الباحث المغربي عن بداية ادراك الدولة لخطورة شيوخ تيار السلفية الجهادية، كما يسلط الضوء على المراجعات التي قام بها بعض هؤلاء.
ويعتقد الباحث أن مراجعات شيوخ التيار السلفي الجهادي في المغرب تظل مراجعات سلوكية وليست فكرية، لأن هؤلاء ليست لهم أدبيات وكتابات يراجعونها، كما حصل مع الجماعات الجهادية في مناطق أخرى مثل مصر وليبيا، حيث كان لجماعة الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر، والتي كان لها منظرون وكتابات، وقامت بمراجعات.
ويعتبر مصباح أن الذي حصل في المغرب هو أن المراجعات تمت بشكل فردي، وفي حدود مرتبطة أساسا بقبول الدولة والمشاركة السياسية، كما يرى أن هذه المراجعات لم يكن لها تأثير على أتباع هؤلاء الشيوخ، نظرا لغياب تنظيم موحد لهم.
*متى بدأت الدولة تدرك خطورة هذا التساهل؟
بدأت الدولة تنتبه لهذا التيار بعد أحداث 11 شتنبر 2001، حيث بدأت تحس بأن التيار الجهادي قد يشكل تهديدا أمنيا، ولكن الصراحة في تلك الفترة لم تقم بما يكفي ربما لأن التهديد كان بعيدا ولم تكن مدركة لخطورته بشكل دقيق. ولكن التحول سيحصل بعد تفجيرات 16 ماي 2003 بالدار البيضاء حيث أدركت الدولة خطورة التساهل مع التيار الجهادي وتحوله لتهديد أمني، لا سيما أن تفجيرات الدار البيضاء فاجئت الجميع، حيث كان يعتقد آنذاك أن المغرب بمنأى عن التهديدات الإرهابية.
في الكتاب نقرأ أن تيار الهجرة والتكفير يكفر المجتمع ويؤمن بالمفاصلة معه، لكنك في نفس الوقت تؤكد أن زعيم هذا التيار في المغرب زكريا الميلودي قد انخرط في بعض الوداديات وينظم حملات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هل يمكن أن تشرح لنا هذا التناقض؟
في الحقيقة ليس هناك تناقض. فالتيار التكفيري يؤمن بالمفاصلة مع المجتمع، لأنه من منظوره كافر، ولكن في الوقت نفسه يؤمن بأن وظيفته تتجلى بتغيير المنكر باليد.
وللتيار التكفيري فهم محدود للواقع السياسي، فهم في الغالب مرتبطون بالبعد المحلي (الحي أو القرية)، والتغيير يتم ضمن هذه الدائرة.
وهذا ما حصل بالنسبة لجماعة الصراط المستقيم، التي أسسها زكريا الميلودي. فهذا التنظيم يمثل نموذجا خاصا من التيار التكفيري الذي نشط في الهوامش، حيث كان يمزج بين أفكار تيار الهجرة والتكفير، ولكنه في الوقت نفسه كان نشيطا على مستوى أنشطة الحسبة.
يبدو الأمر متناقضا من الوهلة الأولى، لأن تيار الهجرة والتكفير يكفر المجتمع ويقاطعه بشكل شامل، ويعيش أعضائه عادة في مناطق نائية بعيدة عن السكان في شكل مجموعات مكتفية بذاتها ترفض التعايش مع بقية المجتمع باعتباره مجتمعا كافرا. ولكن زكريا الميلودي كان تكفيريا ولكنه كان يحرض أتباعه على أعمال الحسبة التي كان يقوم بها أتباعه.
كيف ساهمت دروس أبو حفص والفزازي وغيرهم في نشر الفكرة الجهادية؟
تأثيرهم كان غير مباشر في نشر الفكرة الجهادية في المغرب. ولكن ينبغي الإشارة قبل ذلك إلى أن أبو حفص والفيزازي، كانا ضمن شيوخ ما يعرف إعلاميا بالتيار السلفي الجهادي. طبعا كان هناك شيوخ أخرون معروفون، مثل حسن الكتاني وعمر الحدوشي وعبد الكريم الشاذلي وغيرهم. حيث لعب هؤلاء الشيوخ بمستويات مختلفة دورا في الترويج للفكر الجهادي في المغرب من خلال الدروس التي كانت تلقى في المساجد ولكن أيضا من خلال اللقاءات التي كانت تتم في البيوت والتي تتم أحيانا تحت غطاء مناسبات اجتماعية مثل العقيقة أو الزفاف. ولكن ينبغي الإشارة إلى أن شيوخ التيار الجهادي لم يكونوا منظرين للتيار الجهادي، بل كانوا مجرد صدى لأفكار القاعدة والتيار الجهادي العالمي، من دون أن يكون لديهم مدرسة سلفية-جهادية خاصة بالمغرب.
*ما سبب تسامح الدولة مع هؤلاء الشيوخ أنداك وعدم منعهم من الخطابة؟
كما سبقت الإشارة، قبل 16 ماي لم تكن الدولة تنظر للتيار الجهادي باعتباره تهديدا أمنيا كبيرا وبالتالي لم تكن تنظر إلى الخطابات المتشددة بنفس النظرة التي تنظر إليها اليوم. ولكن الصراحة تقال، قامت الدولة بمنع عدد منهم من الخطابة في المساجد، مثل الشيخ حسن الكتاني الذي سحبت منه الدولة رخصة الخطابة بعد إصداره فتوى حول دخول المغرب في الحلف الأمريكي على الإرهاب. ولكن التوجه العام كان هو غض الطرف.
*كيف تقرأ المراجعات التي قام بها شيوخ السلفية الجهادية في المغرب؟
شيوخ التيار السلفي الجهادي قاموا بما يمكن تسميته بالمراجعات السلوكية، أي نبذ العنف والقبول المبدئي بالدولة والمؤسسات، والتراجع عن بعض الأفكار "ضمنيا".
وفي نظري هذا نوع من التكيف السلوكي قام به بعض شيوخ التيار بهدف تجنب قمع الدولة من جهة، وأيضا بسبب خيبة الأمل بسبب فشل التيار الجهادي العالمي في تحقيق أهدافه.
التكيف السلوكي في نظري أمر منطقي لأن شيوخ التيار الجهادي في المغرب ليس لديهم أدبيات وكتابات يراجعونها، كما حصل مع الجماعات الجهادية في مناطق أخرى مثل مصر وليبيا، حيث كان لجماعة الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر، والتي كان لها منظرون وكتابات، وقامت بمراجعات. المغرب لم يحصل هذا الأمر. الذي حصل هو أن المراجعات تمت بشكل فردي، وفي حدود مرتبطة أساسا بقبول الدولة والمشاركة السياسية.
*إلى أي حد ساهمت هذه المراجعات في اقناع أتباعهم بنبذ التطرف والعنف؟
لم يحصل هذا الأمر لأنه لا سلطة للشيوخ على الأتباع. في المغرب التيار الجهادي منقسم وليس هناك شيء اسمه تنظيم جهادي بالمعنى الحرفي للكلمة. أي أننا نتحدث عن شبكة فضفاضة لا تربطها علاقات تنظيمية هرمية صارمة مثل التنظيمات الجهادية الأخرى، ولهذا لم تؤثر مراجعات الشيوخ على الأتباع.
*ما الذي يميز طريقة استقطاب داعش للمقاتلين عن باقي الجماعات الجهادية؟
هناك ثلاث أشياء تميز داعش عن باقي الجماعات الجهادية. المسألة الأولى وهي الأهم في نظري هي أنها استطاعت مداعبة مخيلة الشباب من خلال فكرة رومانسية وهي "دولة الخلافة"، وهي فكرة تعتمد على تأسيس "فردوس أرضي" في سوريا يقوم بتطبيق الشريعة وأيضا يوفر الرخاء الاقتصادي. لقد لعبت الآلة الإعلامية الداعشية دورا كبيرا في الترويج لهذه المسألة. المسألة الثانية، وهي قدرتها على تحويل أفراد عاديين إلى زعماء من خلال إعطائهم فرصة ليصبحوا أشخاصا ذوي شأن بعد أن كانوا مهمشين في بلدانهم، لقد أصبح عدد منهم يمتلك القوة بعد أن كان لا يساوي شيء. الحقيقة أن داعش نجحت فيما فشلت فيه الأنظمة العربية، أي تقوية الشباب المهمش. المسألة الثالثة، كانت هناك تحفيزات مالية، طبعا لا يمكن القول بأن السفر إلى سوريا كان لأهداف الربح المالي، ولكن داعش كانت توفر امتيازات أحسن ربما من باقي التنظيمات الأخرى.
*في كتابكم تحملون المسؤولية للاقصاء الاجتماعي والحرمان في ظهور التيار الجهادي هل نحن أمام صراع دنيوي مغلف بخطاب ديني؟
من الناحية النظرية، هناك إطاران تفسيريان للتطرف. الأول يسمى بأسلمة التطرف والتي يتبناها أساسا أوليفيي روا والثانية تسمى ردكلة الإسلام ويتبناها جيل كيبيل. الأطروحة الثانية تركز على البعد الإيديولوجي وترجع التطرف إلى الدين وإلى الإسلام بشكل خاص. في حين أن الأطروحة الأولى تركز على العوامل البنيوية التي توفر بنية الفرص للتطرف، وبالتالي الخطاب الديني يصبح فقط أداة للصراع وليس محرك أو السبب الأساسي للتطرف. هذا لا يعني ان الخطاب الديني لا يلعب دورا في التطرف ولكن دور لاحق يأتي لإعطاء معنى للصراع. أظن أن هذا الإطار التحليلي قد يوفر فرصة لفهم لماذا أغلب الأشخاص الذين يلتحقون بالتيارات الجهادية هم من الفئات المهمشة التي لم تستفد من ثمار التنمية.
*رغم ذلك، يلاحظ أن "داعش" استطاعت استقطاب عدد من الأطر وميسوري الحال وأبناء المهاجرين هل هناك عوامل أخرى تفسر ذلك إضافة إلى الاقصاء الاجتماعي؟
هذه استثناءات تؤكد القاعدة. فعلا يوجد عدد من الأطر والأثرياء ضمن صفوف التيارات الجهادية. أصلا أسامة بن لادن، مؤسس الجهادية العالمية، من أغنى العائلات في السعودية، والظواهري كان طبيبا، ولكن هذا يشكل استثناءات وتكون غالبا ضمن قيادات التيار الجهادي وليس ضمن القواعد. بالنسبة للجيل الثاني والثالث من المهاجرين، هناك مشكل الهوية "السائلة" وحالة التيه الذي يعانيه جزء منهم بسبب حالة الاقصاء المزدوجة، في بلدانهم الأصلية وأيضا في بلدانهم
*علاقة بالإقصاء الاجتماعي، هل نجحت الدولة في ادماج خريجي برنامج مصالحة الذين استفادوا من العفو الملكي؟
لا اعتقد ذلك. برنامج مصالحة هو برنامج لنزع التطرف داخل السجون، تنتهي مهمته بعد خروج المعتقلين من السجن. المغرب لا يتوفر لحدود الساعة على استراتيجية واضحة ومكتوبة لإعادة إدماج الجهاديين في المجتمع بعد قضائهم فترة السجن. هذا مشكل حقيقي لأن أغلبهم وإن كان تراجع عن بعض الأفكار المتطرفة إلا ان صعوبات الاندماج في المجتمع قد تعرضه لإعادة التطرف، وهذا ما يفسر حالات العود لدى عدد من الجهاديين الذين قضوا فترة السجن ثم عادوا للتطرف مرة أخرى. أعتقد أن هناك حاجة ماسة لمراجعة برنامج مصالحة ليشمل أبعادا جديدة، لا سيما الإدماج الاقتصادي والاجتماعي والنفسي بعد تجربة السجن. وفي نظري لا يمكن أن ينجح هذا المشروع من دون إدماج المجتمع المدني والمجتمع المحلي.
*ما الذي يحول دون الاستفادة من هؤلاء في محاربة التطرف في صفوف الشباب؟
هناك عدة أسباب. أولا أغلبهم ليس لديه العدة المعرفية ولا السلطة الأخلاقية والدينية التي تسمح له بان يكون مؤثرا في صفوف التيار الجهادي. يمكن للشيوخ ان يلعبوا دورا ولكن لحدود الساعة لم نر مبادرات في هذا الشأن. ثانيا: أعتقد أن أغلب الشيوخ ينتظرون إشارات من الدولة للقيام بمبادرات في هذا الشأن، ولا اعرف إلى أي حد ستسمح الدولة بأن يشارك معتقلون سابقون في مسار نزع التطرف. هناك سبب ثالث ولا يقل أهمية وهو ان قلة الحاجة تدفع أغلبهم للتركيز على قوته اليومي وبالتالي لا تصبح قضية نزع التطرف بالنسبة لهم أولوية، لأنه منشغل بأولويات.