ـ هادي معزوز ـ
لئن طلبنا الجدية ومعرفة أسرارها، فسيكون من اللازم التَّفّكُّهُ (من الفُكاهة) بما حملته لنا حكايا ومرويات القدماء حول الحمقى والمجانين وسائر من يدور في فلكهم من المهرجين، لعلنا نجد فيها ما يمتع ويؤنس من جهة، وما يفيد ويعتبر من جهة أخرى. ولئن كان ولا بد من ضبط التعقل والتروّي، فسيكون من الضروري الاطلاع على أخبارهم التي لا يجب النظر إليها من زاوية التراث، وإنما هي الماضي الذي يُحتدى به، فنفهم أن الحاضر أصابه الجمود بما أن له صدى لما مضى.
والحال أن العاقل "إذا سمع أخبارهم عرف قدر ما وهب له مما حرموه، فحثه ذلك على الشكر" كما يقول الشيخ الإمام جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي الجوزي. وقد قال الأصمعي في ذات المعرض: سمعت الرشيد يقول: "النوادر تشحذ الأذهان، وتفتق الآذان." ولقدر سار أبو فراس الحمداني بدوره على نفس المنوال حين قال:
أرَوِّحُ القلب بـبعض الــهزل تجـاهلا مني، بغـير جهــل
أمزح فيه، مزح أهل الفضل والمزح، أحيانا جلاء العقل
وعليه، نخلص إلى أن الاهتمام بأخبار الحمقى ترويح على النفس، لكنه ترويح يستدعي من الجدية أكثر من الهزل وإن كان ظاهره هزلا لا يُناقش، أما من ناحية أخرى، فإذا قرأنا الدواعي والدوافع التي يُطلب فيها التلذذ بالاستماع إلى نوادرهم، سنجد أنها كانت مصحوبة بأزمة مؤثرة على كل المجالات. فكتاب البخلاء مثلا ليس كتابا من أجل تزجية الوقت، وإنما أملته ظروف بعينها، وهو ما يسري أيضا على كليلة ودمنة وعلى ما ذكره الرواة والرحالة حول عجائب الدنيا وما غرفوه منها من غرائب.
يتحدث الجوزي عن تعريف الحماقة فيقول. قال ابن الأعرابي: "الحماقة مأخوذة من حمقت السوق إذا كسدت، فكأنه كاسد العقل والرأي فلا يشاور ولا يلتفت إليه في أمر حرب (...) وبها سمي الرجل أحمق، لأنه لا يميز كلامه من رعونته." ولهذا السبب تأسست نظرة الناس حول الحمقى كون أنهم يأتون بغرائب الأمور مما لا يفيد في شيء غير السخرية فقط، فتم التنادر بهم ونقل أخبارهم من باب التفكه وما كان هذا غاية من ساقوه، وإن بدا أن العبرة منه لا تخرج عن أخذ العبرة، فإن النبيه إنما ألّفه أو نشره او أخبر به كي يوصل فكرته بطريقة غير مباشرة، درءا للعيون والمخبرين الذين يحولون دوما القول الحق إلى أراجيف وبدع، من باب تزيين شؤون الحكم للحاكم أو من بيدهم الأمر. وهكذا فالقاعدة ترى أن التفكه جدي وإن بدا غير ذلك، شأنه في ذلك شأن مجموع أشكال الكوميديا التي ليست ضربا من ضروب تزجية الوقت وكفى، بل إنها طريقة ملتوية لموضوع شائك، وإنذار بغير لونه الأحمر لما يحدث ولما سيحدث مما لن يستسيغه الناس في شيء. وهكذا قد نتفق مع التعاريف الواردة أعلاه شكلا، دون أن نقف عند ذلك وقد تجاوزناه.
ولقد خصصت العرب حيزا مهما من حديثها حول صفات الأحمق الفيزيائية، من بينهما صغر الرأس ورداءة الشكل الذي يدل على رداءة في هيئة الدماغ، كما قال ابن الجوزي نقلا عن الحكيم جالينوس. وقد قال الأحنف بن قيس: "إذا رأيت الرجل عظيم الهامة طويل اللحية فاحكم عليه بالرقاعة، ولو كان أمية بن عبد شمس." ولقد أضاف ابن الجوزي في نفس المصاف أن من علامات الأحمق "خلوه عن العلم أصلا، فإن العقل لابد أن يحرك إلى اكتساب شيء من العلم..." ومن خصاله "فرحه بالكذب من مدحه وتأثره بتعظيمه، وإن كان غير مستحق لذلك."
وتتعدد الأخبار التي تداولها الناس ونقلها الحكماء أو أصحاب حرف الكتابة منهم، حول الحمقى وقصصهم التي لا تنتهي، إلا أننا سنخصص في هذا المقال بعضا منها درءا لإطناب ممل أو إسهاب مُخلٍّ. فعن المبرد قال: قال الجاحظ: أنشدني بعض الحمقى: مجزور الرمل:
إن داء الحــب سـقم لـيس يهـــنيــه القــرار
ونجا من كان لا يع شق من تلك المخازي
فقلت: إن القافية الأولى راء، والثاني زاي؟ فقال: لا تنقط شيئا، فقلت: إن الأولى مرفوعة، والثانية مكسورة، فقال: أنا أقول تنقط وهو يشكل!
وهكذا يمكن القول أن الأمور عندما تعطى لغير أهلها لا يمكن سوى أن تمنحنا بوارا في بوار وفسادا ما بعده فساد، وحسبنا ما يقع اليوم من اختلاط الحابل فيه بالنابل، فإذا رأينا في البيتين أعلاه غيابا لروح الشعر شكلا ومضمونا، فلأن أحمق الجاحظ رأى في نفسه شاعرا وما هو بذلك، بل إنه لم يستحي من نفسه فقال شعرا أمام هرم من أهرامات العبقرية الفذة. وبما أن واقعنا راكد جامد لا تغير فيه، فإن سفافة هذا الأحمق وسفاهته من سفافة الذين باتوا يقتحمون ما كان ممتنعا على العامة من قبل ومن سفاهتهم، معتقدين ومؤمنين في احترافهم وإبداعهم فيه وما هم بذلك.
والحال أن أخبار المغفلين والحمقى لم تترك شيئا إلا وخاضت في أمره، حتى نُقلت فيه أخبار المغفلين من المتعلمين، ولقد قال الجاحظ في هذا الباب وهو الذي خصص كتابا يعيب فيه المعلمين: "كان ابن شبرمة لا يقبل شهادة المعلمين. وكان بعض الفقهاء يقول: النساء أعدل شهادة من معلم.
ولنا في ذلك عبرة وفي غيرها كذلك، إذ قال الجاحظ: "ومررت بمعلم صبيان وهو جالس وحده وليس عنده صبيانه فقلت له: ما فعل صبيانك؟ قال: ذهبوا يتصافعون، فقلت: اذهب وأنظر إليهم، فقال: إن كان ولا بد، فغط رأسك لئلا يحسبوك أنا فيصفعوك حتى تعمى." وقد قال أبو العنبس في ذات السياق: "كان ببغداد معلم يشتم الصبيان، فدخلت عليه وشيخ معي، فقلنا: لا يحل لك، فقال: ما أشتم إلا ما يستحق الشتم، فاحضروا حتى تسمعوا ما أنا فيه، فحضرنا يوما فقرأ صبي ـ عليها ملائكة غلاظ شداد يعصون الله ما أمرهم ولا يفعلون ما يؤمرون ـ فقال: ليس هؤلاء ملائكة ولا أعراب ولا أكراد. فضحكنا حتى بال أحدنا في سراويله.
والحال أن الأمر لا يقتصر على ما قيل فقط، بل إن ابن الجوزي خص أبوابا تحدث فيها وذكر ما قيل فيها أيضا حول المغفلين من القراء ورواة الحديث والقضاة والمؤذنين والأئمة وما إلى غير ذلك.
هكذا، كان لا بد من إعادة إثارة أخبار الحمقى من الناس، وقولنا في ذلك أن الإكثار من التناذر بهم دليل على الجرأة التي باتت تطبع العديد من الناس حول ما لا يفقهون فيه، ومن يفعل ذلك فإنه لا يخرج عن خانة المغفلين والحمقى والمهرجين، ومن يتبعهم من الناس فهم كذلك لا يقلون عنه شأنا. فنجانا ونجاكم الله من هؤلاء، وأقول قولي هذا والله المستعان بأمره من قبل ومن بعد.